رغم التحولات التي شهدها المغرب خلال العقدين الأخيرين، لا تزال حرية التعبير تتأرجح بين شعارات الانفتاح وواقع التقييد، في مشهد يعكس مفارقة عميقة بين النصوص القانونية والخطاب الرسمي من جهة، والممارسة الميدانية من جهة أخرى. فمنذ سنوات، تتعالى خطابات الدولة حول التزامها بحقوق الإنسان وحرية الإعلام، مدعومةً بإصلاحات قانونية شكلية كقانون الصحافة والنشر لعام 2016، الذي ألغى العقوبات السالبة للحرية في قضايا النشر. لكن سرعان ما يتضح أن هذه الإصلاحات لم تكن سوى واجهة قانونية لتجميل واقع أمني قضائي يُحكِم قبضته على الكلمة الحرة. إن الحديث عن حرية التعبير في المغرب لا يمكن فصله عن بنية السلطة التي ترى في الكلمة المستقلة تهديدًا لنفوذها الرمزي والسياسي. فالنظام، رغم تبنيه لخطاب "الاستثناء المغربي" والانفتاح التدريجي، لا يزال يُضمر قناعة راسخة مفادها أن الرأي المختلف متى تجاوز الخطوط الحمراء غير المعلنة يتحوّل إلى خصومة سياسية أو تهديد أمني. لذلك، غالبًا ما يُلاحق الصحفيون والنشطاء ليس بسبب خرقهم للقانون، بل بسبب سعيهم الصادق لكسر الصمت، وكشف أعطاب الدولة وتناقضاتها. وفي هذا السياق، تبدو حرية التعبير وكأنها تُمنح بقدر ما تُراقَب، وتُمارَس بحدود ما لا يُزعج، ويُسمح بها فقط حين تظل تحت سقف "المقبول". أما إذا تجاوزت هذا السقف غير المحدد قانونًا، فإن سيف المتابعة القضائية، والنبذ الإعلامي، والحصار الاقتصادي والاجتماعي، والتشهير اللاأخلاقي يكون حاضرًا دون هوادة. وهو ما يجعلنا اليوم أمام سؤال جوهري: هل نحن بصدد تعايش هشّ مع حرية التعبير، أم أمام تآكل تدريجي لها باسم القانون والنظام العام و"الخصوصية المغربية"؟ ازدواجية القوانين وتقييد حرية التعبير: حين يصبح القانون أداة للمنع بدل الحماية تُعدّ المنظومة القانونية في المغرب من أبرز التحديات التي تواجه حرية التعبير، لا لقصور في النصوص وحدها، بل لتناقضها المقصود واستخدامها الانتقائي. فعلى الرغم من أن قانون الصحافة والنشر لعام 2016 جاء ليُلغي العقوبات السجنية في قضايا النشر، إلا أن هذه "الإصلاحات" ظلت بلا أثر حقيقي على أرض الواقع، إذ ما لبث القانون الجنائي أن حلّ محلها في قمع الآراء والتدوينات، عبر فصوله ذات الصياغة الفضفاضة. فالفصل 263 من القانون الجنائي، على سبيل المثال، يُعاقب من يُعتبر أنه "أهان موظفًا عموميًا أثناء مزاولته لمهامه"، دون تحديد واضح لما يُعد إهانة. كذلك، فصول مثل 179 أو 218 تُستخدم لتأويل التعبير عن الرأي على أنه مسّ ب"المقدسات" أو تهديد ل"الأمن الداخلي"، وهي مصطلحات فضفاضة تفتح الباب واسعًا أمام التأويل الأمني والتجريم السياسي. تُمثّل تجربة الصحفي حميد المهدوي نموذجًا حيًا لهذه الازدواجية القانونية وتداعياتها. ففي القضية الأولى سنة 2017، أُدين المهدوي بثلاث سنوات سجنًا نافذًا بتهمة "عدم التبليغ عن جريمة تمس بأمن الدولة"، استنادًا إلى مكالمة هاتفية تلقاها من شخص مجهول يُخبره بمخطط وهمي لإدخال دبابات إلى المغرب. القضية، التي أثارت استغرابًا واسعًا، لم تستند إلى أدلة واضحة على وجود تهديد فعلي، وأُدرجت ضمن سياق قمع أوسع طال نشطاء حراك الريف آنذاك. وبعد الإفراج عنه، لم يلبث المهدوي أن وُوجه بملاحقة جديدة، هذه المرة إثر مقاطع فيديو نُشرت على قناته الصحفية، يُعلّق فيها على قضايا تدبير الشأن العام، فوجد نفسه متابعًا مجددا، بناء على شكاية من وزير العدل، وتحت مظلة القانون الجنائي، لا قانون الصحافة. هذا التحول يُعيد تأكيد ما أصبح يُعرف ب"المدخل الجنائي" في تدبير قضايا التعبير، حيث يُستبعد قانون الصحافة ويتم اللجوء إلى القانون الجنائي بمواده المطاطة لتقييد النقد ومساءلة المسؤولين العموميين، مهما كانت لغته أو محتواه. القضاء بين الاستقلال الدستوري والوظيفة السياسية يشكّل مبدأ استقلال السلطة القضائية أحد الأعمدة الأساسية في أي نظام ديمقراطي حديث، وهو ما حرص عليه دستور 2011 المغربي، الذي نصّ في فصله 107 على أن "السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية"، مع إحداث مجلس أعلى للسلطة القضائية يفترض أن يسهر على ضمان استقلال القضاة. غير أن التجربة الميدانية بعد أزيد من عقد على هذا التنصيص تكشف أن استقلال القضاء ظلّ إلى حد كبير حبرًا على ورق. بل إن الممارسة أبانت عن نوع من "التموقع السياسي" للقضاء في قضايا الرأي، حيث كثيرًا ما يُنظر إليه كذراع وظيفي للدولة، يُستعمل لشرعنة القمع بدل حماية الحريات. في السياق المغربي، تكشف طبيعة القضايا التي يُحرك فيها القضاء، وطريقة متابعتها، عن انتقائية واضحة. ففي الوقت الذي تُتابع فيه الأصوات النقدية بقوة القانون، يُغضّ الطرف عن دعوات العنف والكراهية والتشهير التي تصدر عن منابر مقربة من السلطة. بل إن هناك حالات تم فيها تحريك المتابعة في ساعات، بمجرد أن مست تدوينة أو تصريح بشخصية نافذة أو بمؤسسة رسمية، في حين يتم التلكؤ أو التراخي في قضايا الفساد المالي أو الانتهاكات الحقوقية الجدية. هذه الانتقائية تُغذّي الشكوك حول استقلال القضاء، وتُضعف ثقته لدى الرأي العام، الذي بدأ يرى في "المحاكمات السياسية" مسرحًا لإعادة إنتاج الخوف، لا منصة لإحقاق العدالة. حين يُصبح القضاء جزءًا من آلية الردع بدل أن يكون ملاذًا للحماية، تفقد الدولة أحد أهم روافع توازنها المؤسساتي. فبدل أن يُنظر إلى المحاكم كفضاء مستقل يحتكم فيه المختلفون إلى القانون، تصبح في نظر عدد من الفاعلين الحقوقيين مجرّد أداة لإنتاج "الشرعية الشكلية" للقمع. وليس أدلّ على ذلك من الكمّ الكبير من الأحكام الثقيلة في قضايا الرأي خلال السنوات الأخيرة، والتي غالبًا ما تُبرَّر بصياغات قانونية متشابهة، تفتقر للتفصيل والتعليل المقنع، وتستند إلى تأويل نوايا المتهم أكثر من الأفعال الثابتة. الفضاء الرقمي بين الوعد بالتحرّر وتكثيف المراقبة لقد مثّل الفضاء الرقمي في بداياته متنفسًا كبيرًا للمواطنين للتعبير عن آرائهم بعيدًا عن الرقابة التقليدية للإعلام العمومي والمؤسسات الرسمية. فقد ظهرت منصات التدوين الشخصي ومواقع التواصل الاجتماعي كمساحات حرة نسبياً، فتحت المجال أمام نقاشات سياسية واجتماعية غير مسبوقة، وسمحت بصعود وجوه جديدة من خارج النخبة الكلاسيكية، بل وفرضت أحيانًا أجندة سياسية على الإعلام الرسمي. غير أن هذا الوعد بالتحرر لم يلبث أن واجه مقاومة من الدولة، التي سارعت إلى تطوير أدواتها لتطويق هذا الفضاء. في ظل هذا التحول، بدأت الدولة في اعتماد مقاربة أمنية للتعامل مع الفضاء الرقمي. ظهرت قوانين مثل مشروع "قانون 22.20" المتعلق باستعمال شبكات التواصل الاجتماعي، والذي أثار غضبًا شعبيًا واسعًا بسبب ما تضمنه من بنود تهدد حرية الرأي، خصوصًا تلك التي تجرّم الدعوة إلى مقاطعة بعض المنتجات أو توجيه انتقادات لشركات أو مؤسسات. كما أن المتابعات القضائية لم تعد تقتصر على الصحفيين المحترفين، بل طالت أيضًا نشطاء رقميين ومدونين عاديين، في ظل غياب قانون خاص بالجرائم الإلكترونية يوازن بين الحماية والأمن والحق في التعبير. إلى جانب المسار القانوني، يثير لجوء السلطات المغربية إلى أساليب المراقبة الرقمية المتقدمة قلقًا متزايدًا بشأن احترام الحقوق الدستورية الأساسية، وعلى رأسها الحق في الخصوصية. ففي سنة 2019، وجّه سبعة نشطاء حقوقيون، من بينهم شخصيات بارزة في جماعة العدل والإحسان، اتهامات مباشرة للسلطات بالتجسس على هواتفهم باستخدام برنامج "بيغاسوس" الإسرائيلي، وذلك بناء على إشعارات من إدارة "واتساب" ومعطيات من منظمة العفو الدولية. وأكد النشطاء في بيان مشترك أن هذا الاختراق تم بواسطة أدوات تجسس اقتنتها الدولة من شركة NSO، مطالبين بفتح تحقيق قضائي جدي، وهو ما لم يتحقق إلى حدود اليوم. وتعززت هذه الاتهامات بتحقيق دولي نشره "Forbidden Stories" سنة 2021، كشف أن لائحة المستهدفين شملت صحفيين وحقوقيين مغاربة، من بينهم الصحفي عمر الراضي الذي كان متابعا آنذاك. في ظل هذا الصمت الرسمي، يبرز سؤال جوهري حول مدى التزام الدولة بأحكام الفصل 24 من الدستور، الذي يكفل حماية الحياة الخاصة والمعطيات الشخصية. إن غياب المساءلة في هذه الملفات لا يهدد فقط ثقة المواطنين في المؤسسات، بل يُكرّس أيضًا شعورًا عامًا بانعدام الأمان القانوني لدى الأصوات المنتقدة للسلطة أمام هذا المناخ، بدأت تتشكل رقابة ذاتية متنامية بين النشطاء في ميدان الإعلام، حيث صار كثير من الشباب يحجمون عن نشر آرائهم السياسية أو التفاعل مع محتويات نقدية خوفًا من المتابعة أو التصنيف. وهذا ما عبّرت عنه تقارير غير حكومية عدة، فضلاً عن مؤشرات غير رسمية مثل التراجع الحاد في عدد المتفاعلين مع المحتويات السياسية على المنصات الرقمية. لقد أصبح "الصمت الرقمي" استراتيجية وقائية فردية، لكنها تُشكل في مجملها خسارة جماعية لمجتمع يطمح إلى الانفتاح والمشاركة. الواقع الحقوقي وسؤال الثقة في المؤسسات رغم مصادقة المغرب على عدد من الاتفاقيات الدولية ذات الصلة بحقوق الإنسان، ووجود مؤسسات رسمية كالمجلس الوطني لحقوق الإنسان، فإن الواقع الميداني يكشف هشاشة حماية الحريات، وعلى رأسها حرية التعبير. عشرات الحالات من الاعتقالات والمتابعات طالت صحفيين ونشطاء، في قضايا تم تقديمها بلبوس جنائي، بينما الخلفية الحقيقية هي تعبيرهم عن آراء مخالفة. المفارقة هنا أن المؤسسات المفروض فيها حماية الحقوق، غالبًا ما تلتزم الصمت أو تصدر مواقف توفيقية، لا ترقى إلى مستوى الانتصار لمبادئ الإنصاف، ما يضعف من منسوب ثقة المواطنين في فعاليتها. التضييق على حرية التعبير لا ينحصر في كونه مسًّا بحق فردي، بل يتعداه إلى الإضرار بمناخ الحريات العامة، وانكماش هامش المشاركة السياسية. المواطن الذي يشعر بأن رأيه قد يعرّضه للمتابعة، سيعزف تلقائيًا عن الانخراط في الشأن العام، سواء عبر الأحزاب أو الجمعيات أو حتى النقاشات العامة. وهذا الانكماش يفرغ المؤسسات من مضمونها الديمقراطي، ويزيد من حدة القطيعة بين الدولة والمجتمع، وهو ما بدأت تلمسه الدولة نفسها في ضعف الإقبال على الانتخابات وتراجع الثقة في المؤسسات المنتخبة. تُقدم المؤسسة الملكية في الخطاب الرسمي كضامن للحقوق والحريات، وغالبًا ما يتم انتظار تدخل ملكي للعفو عن معتقل أو تخفيف حكم، كما في عدد من الملفات ذات الصبغة السياسية. لكن هذا الدور، بدل أن يعزز استقلالية المؤسسات، يرسّخ منطق الاستثناء، حيث يُصبح الإنصاف رهينًا بتدخل فوقي لا يُبنى على قواعد قانونية واضحة، بل على اعتبارات ظرفية. هذا الوضع يُضعف الإحساس بالعدالة المؤسسية، ويؤكد أن الحريات ما تزال تُمنح ولا تُضمن، وهي معادلة تتناقض مع أي تصور ديمقراطي حديث. في ظل هذا الواقع، لا يبدو من الممكن الحديث عن مناخ ديمقراطي سليم دون مراجعة شاملة للمنظومة الحقوقية، تبدأ من إصلاح القوانين، وتعزيز استقلال القضاء، وضمان حرية الصحافة والتعبير، وربط المسؤولية بالمحاسبة. كما أن تقوية آليات الرقابة المؤسساتية والمدنية، وضمان فعالية المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان، تُعد من شروط إعادة الثقة المفقودة. إن المطالب لم تعد تتعلق فقط بإطلاق سراح معتقلين أو إلغاء متابعات، بل بإعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع، على أساس الحقوق والمواطنة المتساوية. إنّ حرية التعبير ليست ترفًا ديمقراطيًا، ولا امتيازًا تمنحه السلطة متى شاءت وتسحبه متى شاءت، بل هي شرط ضروري لأي مشروع تنموي أو مجتمعي مستدام. التجارب العالمية أثبتت أن المجتمعات التي تُحصّن حرية الكلمة، وتتيح للمواطنين التعبير عن مواقفهم دون خوف، هي ذاتها المجتمعات التي تنعم بالاستقرار الحقيقي، لا ذاك الذي يقوم على الصمت والخوف.