ترامب: إسرائيل وإيران وافقتا على "وقف تام لإطلاق النار"    عاجل.. ترامب يعلن الاتفاق على وقف كامل وشامل لإطلاق النار بين إسرائيل وإيران    أشرف حكيمي يتألق ويقود باريس سان جيرمان لثمن نهائي كأس العالم للأندية بتتويج فردي مستحق    الملك محمد السادس يؤكد تضامن المغرب الكامل مع قطر ويدين الهجوم الإيراني على قاعدة العديد    مفتش شرطة يشهر سلاحه لتوقيف شقيقين في حالة سكر هددا الأمن والمواطنين    شقيق مروان المقدم يدخل في اعتصام وإضراب جديد عن الطعام أمام بوابة ميناء الحسيمة    الحسيمة تترقب زيارة ملكية خلال الأيام المقبلة    جمعية تطالب بمنع دخول السيارات والدراجات إلى الشواطئ بعد حادث الطفلة غيثة        أوروبا الغربية تستقبل موسم الصيف بموجة حرّ مبكرة وجفاف غير مسبوق    نظام أساسي جديد لموظفي الجماعات الترابية    تعليق مؤقت لحركة الملاحة الجوية في البحرين والكويت كإجراء احترازي في ظل تطورات الأوضاع الإقليمية    وأخيرا.. حزب العدالة والتنمية يُندّد بما تفعله إيران    فرنسا تجدد التأكيد على أن حاضر ومستقبل الصحراء "يندرجان بشكل كامل في إطار السيادة المغربية"    عملية "مرحبا 2025".. تعبئة لنقل 7.5 ملايين مسافر و2 مليون سيارة عبر 13 خطا بحريا    مصرع سائق دراجة ناريةفي حادث اصطدام عنيف بضواحي باب برد    الذهب يرتفع وسط الإقبال على أصول الملاذ الآمن مع ترقب رد إيران    رويترز عن مسؤول أمريكي: قد يأتي الرد الإيراني خلال يوم أو يومين    27% من القضاة نساء.. لكن تمثيلهن في المناصب القيادية بالمحاكم لا يتجاوز 10%    حموشي: المديرية العامة للأمن الوطني تولي أهمية خاصة لدعم مساعي مجابهة الجرائم الماسة بالثروة الغابوية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    توقيع اتفاقية شراكة إطار بين وزارة الشباب والثقافة والتواصل والوكالة الوطنية لإنعاش التشغيل والكفاءات لتعزيز الإدماج السوسيو اقتصادي للشباب    دعاية هزيلة.. بعد انكشاف مقتل ضباط جزائريين في طهران.. نظام العسكر يُروج وثيقة مزورة تزعم مقتل مغاربة في إسرائيل    بوريطة يستقبل وزير الشؤون الخارجية القمري حاملا رسالة من الرئيس أزالي أسوماني إلى الملك محمد السادس    ياسين بونو يتوج بجائزة رجل المباراة أمام سالزبورج    بوتين: لا مبررات قانونية أو أعذار للعدوان ضد إيران    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الأحمر    بنعلي: لن نتوفر على دينامية في البحث العلمي في الطاقات المتجددة بدون تمويل مستدام        كأس العالم للأندية.. "الفيفا" يحتفل بمشجعة مغربية باعتبارها المتفرج رقم مليون    إشكالية التراث عند محمد عابد الجابري بين الثقافي والابستيمي    بسمة بوسيل تُطلق ألبوم "الحلم": بداية جديدة بعد 12 سنة من الغياب    صديق المغرب رئيس سيراليون على رأس المجموعة الاقتصادية لغرب افريقيا ( CEDEAO)    الشعباني: "نهائي كأس العرش ضد أولمبيك آسفي سيكون ممتعا.. وهدفنا التتويج باللقب"    جلالة الملك يهنئ دوق لوكسمبورغ بمناسبة العيد الوطني لبلاده    ارتفاع حصيلة ضحايا تفجير إرهابي استهدف المصلين في كنيسة بدمشق    مؤسسة الحسن الثاني للمغاربة المقيمين بالخارج تنظم المعرض الفوتوغرافي "أتيت من نظرة تَعْبُرُ" للفنان المصور مصطفى البصري    نقابيو "سامير" يعودون للاحتجاج على الموقف السلبي للحكومة وضياع الحقوق    "تالويكاند" في دورته الرابعة.. تظاهرة فنيّة تحتفي بتراث أكادير وذاكرتها    رأي اللّغة الصّامتة – إدوارد هارت    وسط ارتباك تنظيمي.. نانسي عجرم تتجاهل العلم الوطني في سهرة موازين    هذه تدابير مفيدة لتبريد المنزل بفعالية في الصيف    موازين 2025.. الفنانة اللبنانية نانسي عجرم تمتع جمهورها بسهرة متميزة على منصة النهضة    إسبانيا تدعو الاتحاد الأوروبي إلى "التحلي بالشجاعة" لمعاقبة إسرائيل    المغرب ‬يعيد ‬رسم ‬خريطة ‬الأمن ‬الغذائي ‬في ‬أوروبا ‬بمنتجاته ‬الفلاحية ‬    موازين 2025 .. الجمهور يستمتع بموسيقى السول في حفل المغني مايكل كيوانواكا    ألونسو: من الأفضل أن تستقبل هدفًا على أن تخوض المباراة بلاعب أقل    كأس العالم للأندية 2025.. ريال مدريد يتغلب على باتشوكا المكسيكي (3-1)    طنجة.. تتويج فريق District Terrien B بلقب الدوري الدولي "طنجة الكبرى للميني باسكيط"    موجة الحر في المغرب تثير تحذيرات طبية من التعرض لمضاعفات خطيرة    دراسة تكشف وجود علاقة بين التعرض للضوء الاصطناعي ليلا والاكتئاب    وفاة سائحة أجنبية تعيد جدل الكلاب الضالة والسعار إلى الواجهة    ضمنها الرياضة.. هذه أسرار الحصول على نوم جيد ليلا    التوفيق : تكلفة الحج تشمل خدمات متعددة .. وسعر صرف الريال عنصر حاسم    وزير الأوقاف: خدمات واضحة تحدد تكلفة الحج الرسمي وتنسيق مسبق لضبط سعر الصرف    وزارة الاوقاف تصدر إعلانا هاما للراغبين في أداء مناسك الحج    وزارة الأوقاف تحدد موعد قرعة الحج        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



آثار القصيدة القديمة في الشعر العربي المعاصر

يغلب ظني، أن الشعر امتداد في الزمان والحياة أيضا، باعتباره قيما جمالية ورؤيوية على صلة قوية بالوجدان والخيال. وهو بذلك حلقات، يمكن ضبطها إجرائيا ضمن السياقات الثقافية والتاريخية. وحين نستحضر هنا الشعر العربي، فإننا بلا شك في ظل ذلك نشير لماضيه وحاضره. وقد يمنحنا هنا النقد الأدبي وتاريخ الأدب الكثير من المحددات والاصطلاحات ، لتأطيره وتصنيفه إلى خانات. في هذا السياق،نرى أن ثنائية الشعر القديم والمعاصر غالبة في حديثنا عن الشعر العربي . فالشعر القديم يمكن الحديث فيه عن مسيرة حافلة بالتجارب والرؤى ابتداء من الجاهلية، مرورا بالمرحلة الإسلامية والأموية إلى العباسية؛ ثم فترة الانحطاط التي عمرت طويلا والتي راوح فيها الشعر مكانه بكامل الاجترار والتصنع...استطرادا، يمكن اعتبار الشعر الحديث بمدارسه وخياراته المتعاقبة (الكلاسيكية، الرومانسية) وسيطا يربط بين الشعر القديم والمعاصر الذي ظهر كنماذج وانعطافات ، ابتداء من الأربعينات من القرن السالف.
وحين نستحضر هنا سؤال العلاقة بين الشعر القديم والمعاصر، فإننا نقابله بالمواقف النقدية للشعراء المعاصرين من ماضيهم الشعري؛ بل من التراث بشكل عام . وبالتالي تتوالد الأسئلة من قبيل: ما هو موقف الشاعر العربي المعاصر من التراث الشعري العربي؟ كيف يقرأه ويتمثله ضمن سياق غاص بالتبدلات والتحولات السريعة والمتسارعة ؟ وإلى أي حد يحضر النص الشعري القديم كتجليات ومستويات في القصيدة العربية المعاصرة ؟
غير خاف، أن الشاعرالعربي المعاصر تحرر في تعامله وتفاعله مع التراث من الخنوع والتقديس الأعمى؛ وفي المقابل التحرك على مساحات خلاقة من السؤال وإعادة البناء، على ضوء تجدد القضايا و تعدد آفاق القصيدة المعاصرة كإدراك وحساسية مغايرة. وهذا يعني، أن الشعر المعاصر في جدل لا يهدأ مع القصيدة القديمة في نماذجها الراقية التي تمثل لكتابات شعرية جديرة بهذا الاسم، ليس في التراث العربي فحسب؛ بل في الآداب الإنسانية . وهكذا امتد تأثير الشعر القديم للقصيدة المعاصرة عبر مستويات عديدة ( الأفق الشعري، اللغة،الإيقاع، السبك، الصورة ..). الشيء الذي يوقع الباحث في حيرة من أمره في كيفية تحديد أثر وآثار القصيدة القديمة في الشعر المعاصر. لهذا اخترنا بعض المستويات ، وقمنا بفصلها إجرائيا فقط ، للإحاطة بتعدد الأثر .
الأفق الشعري:
اخترنا هذا الاصطلاح ، لنؤطر من خلاله ، مكانة الشاعر في الكتابة الشعرية . وبالتالي هناك هوية شعرية ، تطرح كصفات لصيقة بالشاعر، منها الإحساس الرهيف والدراية الدقيقة باللغة والثقافة الواسعة والرؤيا..وهي صفات تجعل الشاعر خارج الأنساق ، وفي مواجهة دائمة للعالم ، نظرا لاعوجاجه . هنا يمكن أن نقول بتلك الأنا الفائضة عن القبضة والموزعة في شرايين القصيدة ، وهي بذلك عصب العملية الشعرية . ف» الشاعر نص مفتوح أبدا . تتعدد سواحله ، قراءاته ، تجاربه ، جسوره. يغني للحياة أساسا . ومن تم قد يغني للذات وللآخرين ، تتعدد جبهاته ، لكنها جبهات انشغال الألم الإنساني» 1 . من هنا، نرى امتداد الأنا الشعرية كأفق للكثير من الشعراء العرب القدماء في ذوات وقصائد شعراء معاصرين . يمكن الحديث هنا مثلا عن الشاعر الجاهلي امرؤ القيس، في بعض صفاته ، كالتيه والهموم و الترحل الدائم... .وبالتالي امتداد هذه الصفات في أشعار وشعراء معاصرين. وطرفة بن العبد والنزعة الوجودية والخروج عن نسق القبيلة.. ومحاولة تحقيق المجد في القصيدة وبها. وفي العصر الأموي ، يمكن الحديث عن معارك جرير والفرزدق (شعر النقائض) . أما في المرحلة العباسية، فقد تعددت النبرات الشعرية ضمن الشعر المحدث المنفتح على حياة المدينة وقيمها الجديدة مع أبي نواس والبحتري ، والنفس التأملي الفلسفي مع أبي العلاء..فكثرت التأملات في الخمرة والمرأة والموت.
امتدت هذه المواضيع باعتبارها سند الشاعر في أي مكان وزمان؛ لأن المبدع الحقيقي يخوض دوما تلك المواجهة للإكراهات والاستلابات في شكلها الجماعي والفردي. فاستلهم الشاعر المعاصر تلك المعاني بروح جديدة وليدة العصر . هنا يمكن الحديث عن غربة الشاعر المعاصر في علاقته بوطنه وبالمدينة أو في تأمله للموت الذي تعدد إلى حد الالتباس . الشيء الذي يؤكد أن الشاعر المعاصر باعتباره غريبا ووحيدا ومطاردا ضمن مدينة مدفوعة بالاستهلاك ضدا على القيم الإنسانية التي ينادي بها الشاعر. فإنه يتفاعل مع التراث الشعري ويتمثله ( في نماذج الغربة والعزلة ) ، ثم ينتج شعرا جديدا ليس خاليا من أصداء السلالة الشعرية العربية. يقول الشاعر محمود درويش في نص بعنوان «رحلة المتنبي إلى مصر « 2:
كم اندفعت إلى الصهيل
فلم أجد فرسا وفرسانا
وأسلمني الرحيل إلى الرحيل
ولا أرى بلدا هناك
ولا أرى أحدا هناك
كما يمكن التوقف في هذا الجانب على تلك الوقفة للشاعر القديم على الديار بعد رحيل الأحبة ، تاركين ما يدل عليهم . هنا الشاعر مثل لصلة قوية للإنسان بالمكان؛ مما خلق جمالية خاصة، حولت مكان الفقد إلى مكان إنساني. في المقابل يمكن أن نعدد من النماذج الشعرية المعاصرة التي تمثلت تلك الوقفة في قالب جديد ؛ فكانت الديار رديفة للوطن ومكان الفقد . وظل الشاعر المعاصر يردد بعض الرموز المكانية التي رسخها الشعر القديم كالنخل والرمل..لكنها تحضر الآن في سياق شعري آخر ؛ فالنخلة رديفة وجود أمة وصمود متعدد الأصول والفروع.
اللغة الشعرية:
إن القصيدة التقليدية تتعدد حلقاتها ونماذجها ، تبعا للمراحل والاتجاهات . لكن الشاعر القديم كان على وعي حاد بالإطار الذي يبدع ضمنه والذي حدد النقاد واللغويون مقوماته في سبعة أبواب (مع المرزوقي مثلا ). وهي :
شرف المعنى وصحته
جزالة اللفظ واستقامته
الإصابة في الوصف
المقاربة في التشبيه
إلتحام أجزاء النظم والتئامها
مناسبة المستعار منه للمستعار له
مشاكلة اللفظ للمعنى ، وشدة اقتضائهما للقافية حتى لا منافرة بينهما.
أوردنا أبواب عمود الشعر العربي ، لنظهر أ ن الشاعر في القديم كان على دراية قوية بالإطار الذي يبدع ضمنه ، فكان نتاجه الشعري محكما في صياغته ومتجانسا في تعدده. وعلى هذا الأساس كانت العرب، كما يقر القاضي الجرجاني تفاضل بين الشعراء في الجودة والحسن. وفي المقابل فالقصيدة المعاصرة لا يعني تغيرشكلها وضع قطيعة مع القصيدة القديمة، إنما ظل الجدل قائما في مستويات التراث الشعري القديم ، باعتباره طبقات لغوية على قدر كبير من النظم والسبك البليغ ..وتعقد الأمر في بناء الصورة الشعرية في القصيدة المعاصرة، نظرا للتوترات اللغوية الوليدة تراكيب الانزياح والخرق بوجوهه العديدة كما يثبت جان كوهن في كتابة «بنية اللغة الشعرية».
وظل الصدى يتردد في التكثيف والصور في الشعر كما يقول عبد الله غذامي كحالة تمثل لغوي راقية، وتجسيد فني لأبلغ مستويات الإبداع اللغوي . لكن التجربة الشعرية المعاصرة لم تجادل التراث العربي وحده ،بل انفتحت على الاتجاهات الشعرية الغربية إلى حد المطاردة . فولد ذلك في الكثير من الأحيان نماذج مغلقة يطاردها الغموض والتجريب والاستنساخ الشعري ، فغدونا نقرأ نصوصا شعرية فاقدة للحرارة وسهم البوصلة . ولعل صرخة الشاعر محمود درويش في مقالة بعنوان « انقذونا من هذا الشعر» خير معبر عن هذا القلق حيث يقول : «على الشعراء والنقاد إذا وجدوا ، أن يدخلوا في عملية حساب النفس العسير ، فهذه هي فترة النقد الذاتي . إذ كيف يتسنى لهذا اللعب العدمي أن يوصل إلى إعادة النظر والتشكيك بكامل حركة الشعر الحديث ، ويغربها عن وجدان الناس إلى درجة تحولت فيها إلى سخرية ؟ . إن تجريدية هذا الشعر قد اتسعت بشكل فضفاض ، حتى سادت ظاهرة ما ليس شعرا على الشعر». 3
فالسلاسة والفصاحة والبناء المحكم كلها خاصيات تأليفية (في القصيدة العربية القديمة) مصحوبة بترسانة نقدية ولغوية متعددة الاصطلاح النظري (النظم، مقتضى الحال، الفحولة، الطبقة، الصناعة ...). فقدم الشعر القديم تمظهرات لغوية وتخييلية تمثل للكثير من القيم الجوهرية في الكتابة الشعرية . فكان من الطبيعي الاعتراف الدائم للسابقين بهذه المقدرة المتعددة الاستعمال اللغوي الرصين والجمالي الموحي. وبدون توفرها كأساسيات إبداعية، لا يمكن الحديث عن أشكال وهياكل .
الإيقاع الشعري:
غير خاف ، أن القصيدة المعاصرة أحدثت تغيرات هامة وبنسب مختلفة في الجانب الإيقاعي ، فحافظت على التفعيلة ، مكسرة للوحدة على مستوى بحورالشعر والقافية والروي . وفي جانب آخر مع قصيدة النثر التحرر التام من تفعيلة الخليل بن أحمد والانتصار للإيقاع الداخلي . في المقابل نتساءل : هل تحررت القصيدة المعاصرة من الإيقاع ككتلة صوتية ملازمة في الشعر القديم ؟ . الأمر لا يسمح هنا بمجادلة طروحات نظرية حول الإيقاع الشعري ؛ ولكن أريد التنصيص على بعض المعطيات، منها :
كون القصيدة القديمة في بعض نماذجها ، حققت جدارة إيقاعية خليلية وداخلية دون تضايق لغوي وشعري . هنا يمكن الحديث عن مشاكلة اللغة للإيقاع دون تنافر . وقد مثلت بعض القصائد الشعرية المعاصرة هذا الملمح الإيقاعي خير تمثيل . «وإنه ليهمنا أن نشير إلى أن حركة الشعر الحر، بصورتها الحقة الصافية ، ليست دعوة لنبذ الأبحر الشطرية نبذا تاما، ولا هي تهدف إلى أن تقضي على أوزان الخليل وتحل محله ، وإنما كان كل ما ترمي إليه أن تبدع أسلوبا جديدا توقفه على جوار الأسلوب القديم وتستعين به على بعض موضوعات العصر المعقدة . ولا أظنه يخفى على المتابعين أن بعض الموضوعات تنتفع بالأوزان القديمة أكثر مما تنتفع بالوزن الحر».4
من هنا ضرورة الفصل بين العروض والإيقاع؛ كما أن موسيقى الشعر جزء من تجربة الشاعر . أكيد أن الشعر لا يمكنه الاستغناء عن الإيقاع كجزء أساسي من كينونته ؛ وقد انتبه القدماء للإيقاع الداخلي بخلاف بعض الدعوات التي لا تلتفت ولا تدقق . فهذا ابن سنان الخفاجي في كتابه « سر الفصاحة « يلفت النظر للقيم الصوتية والإيقاعية ،وبذلك انتبه إلى سر الموسيقى الداخلية . كما أن الشاعر أدونيس على الرغم من مغايرته واختلافه الشعري المثير للجدل ، فإنه ينصت لكينونة النص الشعري ، معتبرا الإيقاع شيئا أساسيا كمكون متضافر مع المكونات الأخرى .
التناص الذي لا بد منه:
وأنا أبحث في امتداد القصيدة القديمة في الشعر المعاصر، كنت دائما أواجه بجدل النص المعاصر مع النص القديم . لأن الشاعر عبارة عن شبكة من التواصل مع الشعر القديم؛ فيكون النص معبرا لنصوص عديدة، منها النص الشعري . هذه العلاقة لم تأت فقط في حديث المعاصرين ضمن ما أسموه بالتناص . وقد أقرالنقاد العرب القدماء بذلك في قولهم بالسرقات والاقتباس والتضمين (وهذا حديث آخر) . على أي ، فالنص تشكيل إبداعي جديد، يطوي على محاورات وعلاقات تذهب في التراث؛ بل في الأطر الإنسانية القبلية الماثلة في الوعي الجمعي والذاكرة المشتركة. بهذا الفهم ، يسلك النص الشعري المعاصر ما أسمته جوليا كريستيفا بالامتصاص والحوار . وما يسميه محمد مفتاح بالنص الغائب والتعالق النصي . الشيء الذي يخلق تكثيفا في التجربة الإبداعية ومنجزها الشعري . وفق هذا الفهم ، يمكن الحديث عن تناص متعدد المستويات . نورد هنا تعزيزا بعضا منه .
يقول امرؤ القيس:
أجارتنا إنا غريبان ها هنا وكل غريب للغريب نسيب
يقول محمود درويش في قصيدة «جدارية» :
يا اسمي سوف تكبر حين أكبر
سوف تحملني و أحملك
الغريب أخ الغريب
هنا يظهر ذاك التوازي بين واقع الإنسان المعاصر وواقع الشاعر الجاهلي؛ فكلاهما يعرف عدم الاستقرار والترحال الدائم بطرق ومسببات مختلفة . لكن هنا ربما إلتقاء في مساحة الألم ، وفداحة الخسارة بأبعادها النفسية والوجودية أيضا. وقد تعددت محاورات الشعراء المعاصرين للشعراء الأقدمين، بل التماهي أحيانا مع شخوصهم كأقنعة . يمكن هنا أن نستحضر البيت الشهير(الذي ظل يتردد صداه في القصيدة العربية المعاصرة) لأبي العلاء المعري:
صاح هذي قبورنا تملأ الأرض فأين القبور من عهد عاد ؟
بهذا المعنى فالقصيدة القديمة تمتد في الشعر المعاصر كصيغ ومستويات؛ نظرا لجدلها لقضايا ولكيفية التصوير ..
على سبيل الختم
لا يمكن في تقديري الانتهاء من هذه الجولة في الشعر العربي وجدله الداخلي مع الشعر العربي المعاصر لخلاصات يقينية، نظرا لاعتبارات متداخلة ،منها تعدد حلقات الشعر العربي قديمه وحديثه؛ وكذا تعدد الاتجاهات والحساسيات، بما أنها إدراكات وتصورات للذات والعالم. كما أن تناولنا لآثار القصيدة في الشعر المعاصر، يقتضي الوعي بإشكالية القديم والجديد ، في مراعاة تامة للترابطات والحدود بين الشعر والخطابات الأخرى من سياسية وتاريخية .. وهو ما يثبت أن الشعر يطوي في تكوينه على قيم جوهرية، وأخرى نسبية خاضعة للتغيروالتلون. وبالتالي ، ف «ممارسة التجريب التي اقتصرت عندنا على الأرجح على مقاربة الشكل الشعري فقط ، بوصفه يمثل الحداثة الشعرية أو الكتابة الجديدة . بينما في العمق من نظرتنا للحياة..لم تزل القيم والعواطف والانفعالات هي ذاتها التي أسرت القصيدة التقليدية، فالتنقل من شكل شعر إلى آخر..لا يعني بالضرورة التجديد».5
تمتد آثار القصيدة القديمة في الشعر المعاصر عبر مستويات، بعضها يرتبط بالشاعر كأفق وهوية. من هنا تحدثنا بإيجاز عن تصادي التجارب وتراسلها ضمن رحابة إنسانية دون اجترار وذوبان الخصوصية. و بالتالي حاولنا في هذا الأفق التركيز على اللغة دون تركيز على الهيكل، وبالأخص ما يتعلق بالكثافة والصورة الشعرية. أما الأثر الثالث فمحورناه في الإيقاع بمعناه الواسع الذي يضم العروض والإيقاع الداخلي؛ وأن القصيدة المعاصرة تجادل القصيدة القديمة كممارسة إيقاعية أيضا. لننهي مشوار هذه الدراسة بالتناص، دون الضياع في تعدد الاصطلاحات أو قل باختصار علاقة النص بنصوص أخرى. ورأينا أن التناص مستويات أيضا؛ ويالتالي فالمحاورة النصية، تكون متعددة. وهو ما يستلزم الرؤيا الحاذقة والوعي المتقد للشاعر ، ليبدع نصا عميقا وجميلا، له تموقعه في الشعرية الإنسانية بشكل عام كعطاء وإضافة. وهي الصفة التي يطاردها الشعراء في نصوصهم؛ أعني الشعراء الإشكاليين الذين يخطون على درب القصيدة الطويل كخيارات جمالية ورؤيوية على قدر كبير من الجدل والامتداد . لهذا في تقديري تحضرنا أبيات شعرية ( بقوة لفظها ومعناها ) ضمن لحظات معينة حول الموت والفقد والحب والحرب والحرية والقلق الوجودي...دون النظر لهيكلها؛ نظرا لسبكها وصياغتها المتفردة ووقعها على النفس، بتعدد مستويات التلقي. فالشعر شعر وليس شيئا آخر؛ وهو ما يثبت ذاك الامتداد أو الانسياب في وجود القصيدة كتحقق لغوي وشعري مقيم وخالد ( في خلق الله طبعا ).
هوامش:
1 حسن نجمي، « الشاعر والتجربة «، دار الثقافة الدارالبيضاء 1999، ص 16
2 ديوان محمود درويش، المجلد الثاني، دار العودة، بيروت 1994، ص 107
3 محمود درويش، «أنقذونا من هذا الشعر» مجلة الكرمل ،عدد 6 ربيع1982،ص 6
4 نازك الملائكة، «قضايا الشعر المعاصر» ، دار الآداب ، بيروت 1962، ص 47
5 محمد الحرز ، « الحداثة : من تاريخ المصطلح إلى تاريخ القصيدة الحديثة»، مجلة الجوبة ،عدد 26 شتاء 2010


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.