أصدرت «حلقة أصدقاء باهي»، تحت إشراف عباس بودرقة، الأعمال الكاملة للفقيد محمد باهي: «رسالة باريس: يموت الحالم ولا يموت الحلم»، ويضم الكتاب، الذي تم تقديمه بمناسبة الذكرى العشرين لوفاته، خمسة كتب استعرض خلالها المؤلف شهادته على العصر، وقدم لنا تحاليل غاية في الموسوعية.. في ما يلي نختار لقراء «الاتحاد الاشتراكي» أوراقا من ذاكرة محمد باهي، لنستعيد تلك الثقافة السياسية التي كانت يتمتع بها واحد من صانعي السياسة في بلادنا، وواحد من الذين تحصلت لديهم الخبرة والذكاء، واستطاعوا أن يقدموا لنا قراءة في قضية الصحراء، وفي امتداداتها وتعقيداتها والمساهمين الفعليين في ذلك.. أعترف بأنني حين قبلت الدعوة التي وجهتها إلي هيئة «تمازيغت» لتغطية أعمال الاجتماع التمهيدي للمؤتمر الأمازيغي العالمي، ذهبت أحمل في نفسي كثيرا من الأفكار الخاطئة عن الحركة الثقافية الأمازيغية في المغربين الأوسط والأقصى، لكني أقر بالمقابل بأن الأيام الأربعة التي أمضيتها عند مضايق نهر التارن على مسافة 700 كيلومتر إلى الجنوب الغربي من باريس لمتابعة أشغال ذلك الاجتماع، واللقاءات التي أتيح لي أن أجريها مع مختلف الوفود، ولاسيما القادمة من المغرب، مكنتني من تذويب وتبديد المخاوف والهواجس والوساوس الكثيرة التي كانت عالقة بذهني حول هذه المسألة. بعد هذا التوضيح الوجيز، أرى من باب الأمانة الفكرية أن أرتب وأصنف الحدث في المناخ التاريخي المهيمن على الخطاب الذي تنتجه منذ بضع سنوات بعض النخب الفتية في بلدان الهوامش والأطراف التابعة لمراكز صنع القرار والمأخوذ حد الافتتان بنماذج وصيغ جديدة من الأفكار والتحليلات لا تزال في طور الإرهاصات الأولى. وبدون الغوص في تفاصيل نظرية مجردة قد تبعدني عن صلب الموضوع، أقول باختصار شديد إن هذا الخطاب المهيمن في الساحة العالمية يقوم على ثلاثة أعمدة تتساند وتتكاثف وتتوازن فيما بينها لتقدم لنا المشهد الفكري الراهن في صورة ليبرالية متوحشة وطائفية متخلفة وخصوصية ضيقة لا تخلو من الغرور أحيانا. إنني أعني بالليبرالية المتوحشة عبادة السوق التي لا كابح لها، وأقصد بالطائفية المتخلفة هذا التراجع وبالأحرى النكوص الانتكاسي نحو مفاهيم وممارسات دينية نجد تجلياتها السياسية الكارثية فيما يجري حاليا بالجزائر ومصر، وأفهم من الخصوصية الضيقة هذا الإسراف في نبش الماضي السحيق لبناء ذات نرجسية بهدف التميز عن الآخر. إنها موضة الربع الأخير من القرن العشرين. أقول ذلك وأرجو أن يفهم في حدوده الواقعية، وأن لا تستمد منه خلاصات أو أحكام تبسيطية مبتسرة واختزالية. والآن أريد أن أعود إلى لب الموضوع. كنت أقف في شرفة المركز الذي عقد فيه المؤتمر مأخوذا بسحر جبال مضايق نهر التارن، أنظر إلى المياه الزرقاء للوادي وهي تتدفق نحو الغرب، وسط أشجار الصنوبر والبلوط في السفح، وبعض أشجار الأرز في المرتفعات، فإذا بي ألتقط ملاحظة صدرت عفويا عن شخص آخر كان يتفرج مثلي على الطبيعة الجبلية الفاتنة : «والله، لكأننا بوادي الصومام لا ينقص سوى الزيتون ليكون هذا المشهد نسخة طبق الأصل من مشهد الجهة الأخرى». ووجدت نفسي أسرح مع ذكريات التاريخ. إن وادي الصومام الواقع بمحاذاة الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط هو المكان الذي شهد انعقاد المؤتمر الأول لجبهة التحرير الوطني الجزائري في 20 غشت 1956. ولم يكن اختياره من طرف عبان رمضان لعقد ذلك الاجتماع التاريخي، عشوائيا، وإنما جاء نتيجة لحسابات استراتيجية دقيقة. فوادي الصومام يقع في قلب المنطقة الجبلية الوعرة الفاصلة-الواصلة بين القبائل الصغرى والقبائل الكبرى، ويتصل بشبكة الدروب الوعرة المؤدية إلى جبال القل في الشمال القسنطيني، أي أنه يوجد في قلب المشتبكات الجبلية التي بدأت الثورة تتحكم في مسالكها وشعابها بدءا من أقصى الشمال إلى الونشريس بالوسط. كما لم يكن اختيار 20 غشت 1956 بدوره اعتباطا، وإنما جاء إحياء لذكرى الانتفاضة الجماهيرية المغاربية (20 غشت 1955) التي كانت بدورها حركة تضامنية بين المغاربة والجزائريين بمناسبة مرور سنتين على عزل الملك الشرعي محمد بن يوسف. كنت سارحا مع هذه الذكريات ووجدت نفسي أتساءل : هل أعيش في هذه اللحظة مؤتمر الصومام الثاني، لكنه من نوع مختلف. ينعقد هذه المرة بجنوبفرنسا، بعد مرور 40 سنة على انتفاضة الأطلسين الجزائري الشمالي والمغربي الأوسط، ويشارك فيه أشخاص جاؤوا من نفس المنطقة الجغرافية؟ ثم لماذا انعقد المؤتمر التمهيدي بهذه البقعة النائية جدا من جنوبفرنسا بدلا من باريس مثلا. واستطرادا وجدت نفسي أتساءل في السياق ذاته ماهي هذه المسيرة التي دفعت مئة مثقف وأستاذ جامعي ومحام وطالب وموظف من أكادير والدار البيضاء والرباط ومكناس وفاس والجزائر العاصمة وتيزي وزو إلى تحمل مشقات ونفقات السفر نحو هذه البلدة الأجنبية البعيدة؟ ولماذا لم يجتمعوا مثلا في المغرب أو الجزائر أو تونس؟ ما معنى ذلك كله؟ كان لدي قبل وصولي إلى هذا المكان تفسيري الجاهز بالطبع، وقد تبين لي بالملموس، أنه خاطئ ولماذا لا أقول صراحة بأنني كنت أتصور أن المؤتمر الأمازيغي ينعقد بجنوبفرنسا بمساعدة من السلطات الفرنسية، وبتشجيع منها؟ سوف أترك تفنيد هذا التصور الخاطئ إلى فقرة أخرى من الرسالة لأقدم نبذة تاريخية عن المكان الساحر الذي شهد مداولات المؤتمر التمهيدي. إنها وقفة ضرورية لتبديد بعض الشبهات والشكوك حول علاقة الحركة الثقافية الأمازيغية بالفرانكفونية، وأرجو أن يتريث القارئ العربي ويمنحني وهلة أو مهلة لأؤدي هذه الشهادة الهادفة إلى وضع الحدث وتفسيره في حدوده التاريخية المعقولة. تحمل البوابة الكبرى للدار القديمة المفتوحة على ساحة «اليونسو» [الشبل] نقشا في صورة قلب على الحجر كتب عليه تاريخ 1687. ومعنى هذا أن أسرة بيار مونيستييه، الذي يحمل الموقع اسمه، قديمة الحضور بقرية سان روم دي دولان: إنه المركز الدولي لبيار مونتيسييه الذي يختصر تاريخه حكاية الصراع السياسي والديني بفرنسا وخاصة بمنطقة الجنوب البروتستاني. قصة أسرة مونيستييه قطعة مركزة من تاريخ الجنوب البروتستاني والنجم الذي خلد اسمها في التاريخ، هو جان مونيستييه حفيد بيار مونيستييه الذي يحمل المركز اسمه. لقد كان جان مونيستييه لفترة طويلة عميد بلدية ساناروم دي مادولان الصغيرة [لا يتجاوز عدد سكانها مئة شخص ولا يتعدى المقيمون الدائمون بها عشرة أشخاص] وكان مستشارا عاما بمقاطعة «مساجرو» ونائبا لدائرة «فلوراك» ووزيرا للأشغال العامة (1899)، وبما أنه كان مهندسا للفنون والصناعات فقد عمل على تشييد الطريق المؤدية إلى مضايق نهر التارن و أوصل خطوط السكك الحديدية إلى المنطقة لفك العزلة عن جبال الكوس والسفين وتمكين ناحية روكفور من أن تصبح ذات شهرة دولية بفضل السمعة التي نالتها ماركة شهية من ماركات الجبنة الفرنسية، جبنة روكفورا التي بقيت شهرتها محصورة بتلك الجبال الوعرة حتى بداية هذا القرن. كان السيد جان مونيستييه لائكيا جمهوريا، وعرفت حياته السياسية ذروتها في بداية هذا القرن (1905-1909) حين كان وزيرا في حكومة كومب الشهيرة التي صادقت على القوانين المعروفة الخاصة بالمدرسة العمومية. توفي الرجل في عام 1925 وترك ثلاثة أولاد وبنتا ترهبت حزنا على أسرتها الملحدة، ماتت بدورها [أي البنت] في سنة 1955 والأسرة كلها مدفونة بالبلدة الصغيرة. ولما كانت البنت واسمها ماريا قد تمكنت من استعادة إرث العائلة، فقد حولته تنفيذا لنذر قطعته على نفسها إلى جمعية خيرية لأطفال المدينة [وخاصة أطفال الفئات الشعبية الباريسية] الذين كانوا يأتون أفواجا أفواجا إليه في العطل الصيفية تخدمهم فيه راهبات متطوعات ينتمين إلى «رهبانية الأخوات الخادمات لكنيسة القلب الأقدس». وعندما نشبت الحرب العالمية الثانية تغيرت مشاريع المركز وتحول إلى دار استقبال للمطاردين والأيتام والأرامل، وقد أنشئت رابطة بيار مونيستييه عام 1941 وأصبحت مسؤولة عن تسيير ممتلكات المركز، وينصب هدفها، حسب قانونها الداخلي، في أن «تخلق وتساعد وتطور وتساهم مباشرة أو بشكل غير مباشر في التقدم الجسدي والفكري والأخلاقي للشباب»، خاصة عن طريق إقامة مركز للتربية والتعليم الشعبي الزراعي والقروي وتنظيم فترات للنقاهة والاستراحة والعطلة في الهواء الطلق [المصدر : كراس سياحي حول مركز بيار مونتيسييه]. في هذا السياق شهد المركز منذ تكوينه في أيام الحرب العالمية الثانية عدة نشاطات ذات طابع تربوي واجتماعي. هكذا نجده يستقبل في سنة النكسة الوطنية الكبرى (1940) التي أصيبت بها فرنسا أثناء الاحتلال النازي أفواجا من الشباب قدموا من مناطق الشرق، ومن منطقة باريس، ومن مناطق الجنوب بسبب الصعوبات المختلفة التي واجهتها عائلاتهم لكون الآباء والأمهات فقدوا أعمالهم أو اضطروا إلى الاختفاء ولم يعودوا قادرين على النهوض بمسؤولياتهم بسبب الأزمة. وقد ذكرت لنا مديرة المركز أنها كثيرا ما تفاجأ بزيارة شخصيات لامعة تأتي في رحلات حج إلى المكان لارتباطه بذكريات هامة في حياتها.