قدمت القنوات التلفزية الوطنية في الشهور الأخيرة إشهارا جديدا تجاوز كل حدود الممكن في الدعاية الإشهارية. ويتعلق الأمر بإشهار يتغنى بمزايا مؤسسة تجارية مختصة في البناء تعد، حسب كلمات الوصلة، عمادا من أعمدة الوطن في البناء والتعمير. وقد ضمت هذه الوصلة، في أول سابقة في تاريخ الإشهار المغربي، حشدا كبيرا من الفنانين المغاربة، من جميع الميادين، في فرجة لم يستطع الكثيرون منا استيعاب مضمونها، فهم يتمايلون داخل فضاءات مغلقة وموحشة، أو وسط غابات من الإسمنت، وكأنهم في حلقة ذكر يبحثون عن سكينة مفقودة، دون الإشارة إلى منتج ملموس يتحدد من خلال شكل ولون. ورغم ذلك، فإن خطابنا ليس موجها إلى الفنانين أنفسهم، فهؤلاء يبحثون عن لقمة عيش لم يستطع الفن توفيرها لهم. وفي جميع الحالات لا أحد له الحق في مصادرة حق الفنان في أن يصنع بموهبته ما يشاء، أن يسخرها لخدمة فن راق سيذكره الناس طويلا، أو يجعله في خدمة إشهار مدفوع الأجر يموت بموت المنتج أو بتغير شكله أو لونه، والأيام وحدها ستثبت حصة الفن عنده من حصة الفقاعات التي ستتكسر وتنكفئ على نفسها. ما هو أساسي في تصورنا هو فحوى الوصلة ذاتها. فقد صممت على منوال استعراض احتفالي يوحي من خلال مكوناته بأن الأمر يشير إلى الاحتفاء بما هو أبعد من سلعة استهلاكية، ويوحي أيضا بأن المؤسسة المعنية أكبر من أن تكون مجرد مقاولة في نسيج اقتصادي يخضع للقوانين التي تخضع لها كل المؤسسات الأخرى. فكل المظاهر، من موسيقى وكلمات واستعراض، توحي بأن الأمر يتعلق بمؤسسة هي جزء من الدولة أو رديف لها، وأن منتجها يندرج ضمن الخدمات الاجتماعية التي تقدمها مجانا، فهي تبني وتعمر وتوفر السكن للمواطنين فيما يشبه العمل الخيري. وهنالك الكثير من عناصر البناء في الوصلة يشهد على ذلك. هناك أولا الوحدة التي عبر عنها فنانو هذا الوطن الذين اشتركوا في عمل واحد من أجل الاحتفاء بمزايا هذه المؤسسة. وهذه خاصية بالغة الأهمية، فهناك فرق كبير بين الإشهار الذي يقوم به فنان واحد أو اثنين لسلعة بعينها، وبين توحد أغلب الفنانين في وصلة واحدة. وهو ما يوحي بأن المنتج المقصود موجود خارج العيارية التي تتحكم في التنافس، وأن ما يقدمه إلى المستهلك لا يستطيع منتج آخر القيام به. إن الأمر في هذه الحالة لا يتعلق بمحاكاة النجم في أسلوب حياته، كما يفعل ذلك الإشهار في الحالات العادية، بل بالتعبير عن انتماء إلى مؤسسة من خلال استحضار ما يمثله الوطن عند كل الفنانين. وما يؤكد ذلك أن الوصلة تعتمد، من الناحية التقنية، لقطتين متميزتين، في جزء كبير من مشاهدها: اللقطة المتوسطة عندما يتعلق الأمر بالفضاءات المغلقة، ( تخصيص الداخل المنزلي)، واللقطة العامة أو الشاملة عندما يتعلق الأمر بالفضاءات المفتوحة ( تأمل البناية من خارجها دلالة على التعميم). وهذا الاختيار ليس مجانيا، فاللقطتان لا تستطيعان، في الحالتين معا، تقديم وجه بعينه باعتباره بؤرة الوصلة ومنتهاها حيث تأتي الانفعالات إلى عين المشاهد وتأسره، كما هو حال اللقطة الكبيرة أو اللقطة القريبة، وهي الصيغة الإشهارية المألوفة عندما تروم الوصلة خلق حالة من حالات المحاكاة حيث يوضع الفنان ضمن وضعة إنسانية خاصة بالاستهلاك ليوحي للزبون بأن يفعل كما يفعل هذا الفنان. إن الرابط في حالتنا بين المشاهد وموضوع نظرته ليس وجها يتكلم، بل منتجا موضوع للتثمين من خلال العوالم التي يمكن أن يحيل عليه الفنان. إن هاتين اللقطتين، عكس ذلك لا تشخصنان بما فيه الكفاية، إنهما تبحثان عن هوية عامة لا يجب أن ينفرد فيها وجه بعينه بخاصية تميزه عن غيره. إنها لا تحيل على وجه مفرد خاص بهذا الشخص، بل تحيل على الجسم المهني ( الفنانون في المغرب كله). تقوم الوصلة في الحالة الأولى بربط المنتج بأسلوب مخصوص في الحياة، أما في الحالة الثانية فتستثير حالة حضارية يحيل فيها الفنانون على إرث روحي. وتلك تقنية إشهارية بالغة الأهمية، فعندما يتعلق الأمر بالتمثيل لأكثر من شخص، فإن مضمون الصورة لا يمكن أن يحيل على فرد مخصوص، بل يحيل على ما يمكن أن يوحد بين الأفراد باعتبارهم هنا في هذا المكان، وبهذا الوضع ووفق هذه الغاية. وبذلك تعد اللقطة المتوسطة في هذه الوصلة وصفا لمجموعة من الكائنات التي تشير إلى الفنانين المغاربة (وجود الكثرة دال على الجملة)، أما اللقطة العامة فتخلق، من جانبها، نوعا من التماهي بين تلك الكائنات وبين محيط إسمنتي يحيط بهم من كل الجهات. وبذلك توحد الوصلة بين الغايات التجارية للمؤسسة وبين الحالة الحضارية التي يمثلها الفنانون. وفي الحالتين معا، تظل المؤسسة وحدها حاضرة في عين المتلقي ووجدانه، إنها كذلك في اللقطة المتوسطة من خلال ما يردده الممثلون (يتغنى الممثلون بمزايا المؤسسة)، وهي حاضرة في الثانية من خلال الإحالة على البنايات، وتلك منتجاتها (التحقق المشخص). وبهذا، فإن المؤسسة تنتزع من الفنان «موقفا» لا يشير إلى نمط حياتي يخصه وحده وبه يتميز، بل يشير إلى انخراطه المطلق في «قضايا» وطنه، ومنها قضايا البناء والتعمير. وهي بذلك تنصب نفسها «كوكبا» ساطعا في سماء الوطن يتغنى به كل النجوم. إن جمهور الفنانين دلالة على فرادة المؤسسة: هم كثيرون وهي واحدة. وللاستعانة بالفنانين أيضا دلالة أخرى. فالفن نقيض المال والسلطة والجاه، أو هو كذلك نظريا على الأقل، وهو بذلك يصنف خارج النفعي والمادي والعرضي، إنه مستودع القيم الخالدة ووعاء لما يأتي إلى الروح باعتباره تعبيرا عن وجدان شعب. ويكون الربط بين المؤسسة وبين كل قطاعات الفن (ينتمي الفنانون المساهمون في الوصلة إلى أشكال تعبيرية مختلفة)، ممرا نحو نفي الربح والجشع عن المؤسسة، والاحتفاء فقط بما أسدته وتسديه من خدمات إلى الشعب. وهو ما سيتأكد من خلال ما تقوله كلمات الأهازيج التي تتغنى بها الجموع: «الضحى مغربية»، وهو ما يعني، بمنطق الإثبات والنفي الملازم لكل ملفوظ لساني، أن المؤسسات الأخرى ليست كذلك، أو هي على الأقل ليست بالقدر ذاته. فأن تكون الضحى مغربية، فإن ذلك دال على تميزها في كل شيء، بما فيها انفرادها بمهمة البناء كما تقول الأهازيج: «نبنيو بلادنا»، وهو ما يؤكد الطابع الخيري المشار إليه أعلاه. والبناء مزدوج هنا، فهو فني من خلال الحضور الفعلي للفنانين، وهو مادي من خلال وجود مؤسسة وجهت كل إمكاناتها إلى البناء. وسيكون البناء في الحالة الأولى كما في الحالة الثانية هو بناء للإنسان نفسه، مادام الفن يختص بالجانب الروحي عند المواطن. والوصلة تستوحي، من جهة ثالثة، إيقاعها الموسيقي من ملحمة وطنية رددها المغاربة لسنوات ومازالوا، ويتعلق الأمر بمجموعة من الأغاني الوطنية أطلقت عنانها المسيرة الخضراء. فاللحن والطابع الاستعراضي والتلاحم بين الممثلين ( في الوصلة وفي التاريخ) كلها عناصر تعود بالمشاهد، أراد ذلك أم أبى، إلى فترة الحماس الوطني الذي صاحب استعادة الصحراء في السبعينيات من القرن الماضي. ومن المعروف أن الذاكرة حساسة للإيقاع الموسيقي أكثر من حساسيتها للكلمات. إن المخزون الموسيقي في الذاكرة قادر على استيعاب ما يلائمه من الكلمات الجديدة. لذلك سيكون سهلا على الوصلة بعد استعادتها «للأجواء الوطنية الحماسية» التصرف في الكلمات التي تشكل مادة اللحن وإيقاعه. وهكذا عمد مصمم الوصلة إلى استبدال كلمات الملحمة الوطنية بأخرى، كما هو الحال مع الأغنية الشهيرة التي تتغنى ب»الصحراء مغربية». وبذلك تحولت هذه اللازمة داخل هذه الوصلة إلى «الضحى مغربية» مع الاحتفاظ بالإيقاع نفسه والأجواء نفسها. والحاصل ضمن المنطلق اللاواعي المصاحب لكل تواصل إشهاري، أنه كما أن الصحراء مغربية، وهي بذلك ملك لكل المغاربة، فإن الضحى مغربية، وستكون، بمنطق الاستتباع، ملكا لكل المغاربة أيضا. فلا فرق، في الذاكرة الخفية للمستهلك، بين ملحمة استعادة الأرض وبين ملحمة بنائه. وهو بناء يتم تحت أنظار الفنانين وبمباركتهم، ولهم في ذلك كل المصداقية، فالفنان ليس ناطقا باسم مؤسسة تروم الربح، بل يعبر عن وجدان أمة. استنادا إلى كل هذه الأساليب تحاول الوصلة الخلط بشكل مقصود بين كونين لا رابط بينهما: الملك العام، بما فيه الملك المعنوي الذي هو ملك للأمة جمعاء وليس ملكا لجهة بعينها، وبين غايات مؤسسة لا تخفي أنها تستهدف الربح ولا شيء سواه. وهو ما يقوم به الإيهام البصري، وما تقوم به الطاقة الإيحائية التي يملكها الإيقاع الموسيقي: يقوم الأول بالاستحواذ على فضاءات الحميمية، التي هي الشقة والفيلا والمنزل الكبير، وعلى الفضاءات العامة حيث يلتقي المغاربة بفنانيهم في السهرات العامة الموسمية أو الأسبوعية. ويقوم الثاني بتنشيط الذاكرة والدفع بها إلى استعادة لحظات في تاريخ الأمة المعاصر، حيث هب الآلاف من المغاربة دفاعا عن جزء من وطنهم. سيجد المشاهد نفسه منجذبا إلى لحن قديم هو جزء من وجدانه، ولكنه يملي عليه في الوقت ذاته، لاشعوريا، ما يجب أن يقوم باستهلاكه. إنه يستهلك الضحى بمرق الذكريات الجميلة المنقوشة في ذاكرته، سواء بالإحالة على فترة زمنية عمرية مضت، أو بالإحالة على الحس الوطني الذي تعلمناه في المدارس.
