أن ينقذك كتاب من الانتحار الفعلي معناه أن الكتابة لا تزال قادرة على مد الكاتب بقدرة التجدد في الفعل والحق في البقاء،هذا ما حدث للكاتب الجزائري عبد الرزاق بوكبة،الذي لا يزال يواصل مساره الإبداعي والحياتي في آن منتصرا لقيم الحداثة مازجا بين الأجناس المتعددة للكتابة. عن الكتابة والابداع، والعشرية السوداء في الجزائر ،والإعلام الثقافي هناك ،و حال الشعر كان لنا معه نص هذا الحوار. { ما الذي يعنيه لك هذا السؤال التقليدي، كيف جاء عبد الرزاق بوكبّة إلى عالم الكتابة..؟ منذ وعيتُ نفسي كاتبا وقد كان ذلك قبل عشرين عاما تقريبا إذ أنا من مواليد 1977 وأنا مشغول بسؤال الأفق: إلى أين سأصل بالكتابة؟ لذلك لم أطرح يوما سؤال المنبع على نفسي. إنه سؤال ليس بسيطا كما وصفتَه، على الأقلِّ في هذه اللحظة التي تواجهني به فيها، لكن دعني أعترف لك بصعوبة أن نواجه سؤال المنابع إذا كان فجائيا من جهة، وفي عز تفكيرنا في المستقبل من جهة أخرى. إن الأمر يشبه أن توقف هاربا إلى وجهة أمامه يرى فيها خلاصَه وتفاجئه بسؤال: من أين جئت..؟ في عزِّ انتظاره أن تسأله: إلى أين أنت ذاهب..؟، فيجيبَك على السؤال المحتمل لشدة تعلقه بالخلاص، من هنا أستطيع القول إنني جئتُ الكتابة من باب البحث عن خلاصٍ ما، من وجعٍ ما، لم أبذلْ كبيرَ جهدٍ في معرفة ماهيته ما دام يلهمني، غير أنك ستندهش عميقا إذا عرفتَ ظروف طفولتي في قرية أولاد جحيش شرق الجزائر، حيث كانت تلك الظروف مهيأة جميعها لأن أكون أيَّ شيء ما عدا أن أكون كاتبا، فهي قرية لم تتوفر على مدرسة إلا في بداية الثمانينيات، ولم تنعمْ بالكهرباء إلا في بداية التسعينيات بالموازاة مع انطلاق ظلام الإرهاب حيث كنا نحرص على ألا نشعل المصابيح التي حلمنا بها طويلا مخافة أن تكون دليلا للقتلة.. { كاتب خارج التصنيف المحدد والمقيد، هل أنصفك من أطلق عليك هذا الوصف..؟ أغلب الظن أن من فعل ذلك انطلق من نصوصي كما رآها هو، وأنا أحترم حكمَه، لكن ما يهمني هو مدى انسجامي مع ذاتي في التعبير عنها عن طريق هذه اللغة أو تلك، ومن خلال هذا الجنس الأدبي أو ذاك، هنا أقول إنني تخلّيت عن كل النصوص التي لم تشعرني بذلك الانسجام، التخلي عن هذا النوع من النصوص إحدى فضائل الكاتب الحر، ثم إن اللاتصنيف ليس قيمة مضافة في حدّ ذاتها ما لم يكن طبيعيا داخل التجربة الإبداعية والحياتية للكاتب، سيكون حينها شبيها برقصة الإنسان المعاق الذي يرقص خارج التصنيف لا لأنه حر بل لأنه مقيد بالإعاقة، وأنا حاولت أن أكتب مثلما أعيش، وما عشته كان خارج التصنيف فعلا، مقام يتداخل فيه السخط بالرضا والحياة بالموت واليقين بالشك والالتزام بالعدمية والجد بالعبث، ولا أستمد توازني إلا بالكتابة، حتى أن بعض تجاربي الإبداعية مثل كتابي الثاني «أجنحة لمزاج الذئب الأبيض» أنقذني من الانتحار الفعلي، لذلك فأنا ما زلت مدينا لبطله الولهي بن الجازية صاحب الريشة بحياتي التي بدأت تستقر في السنوات الأخيرة وعليه فأراني سأستقر على الرواية. { »من دسّ خفّ سيبويه في الرمل؟»عملك الإبداعي الأول عنوان مثير للدهشة والذهول فهل هذا يعني أن أمر»سيبويه» لا زال يهمك كثيرا..؟ لو كان يهمّني كثيرا، لضبطت طموحي على أن أصبح نحويا كبيرا، لا كاتبا، لقد كان هاجسي في تلك التجربة التي كتبتها عام 2002 أن أقول ذاتي الممزقة في شوارع الجزائر العاصمة خارج المساطر، هل رأيت أن تقوم بفعل لا تدري هل أنت فاعل فيه أو مفعول بك أو مضاف إليه أو مفعول بواسطته؟ إنها حالة تجعل سيبويهَ أبكمَ يقلّب في دفاتره ليعربك فلا يستطيع، وحدك يجب أن تعرب نفسك، في ذلك المقام بالضبط كتبت تلك التجربة حيث فقد سيدُ النحو خفّه، وقد تخيلت عبد القاهر الجرجاني صاحب نظرية النظم التي أعادت للدلالة سلطتها أمام سلطة النحو المجرد ضاحكا وهو يرقص بين «الرصافة» والجسر، تماما مثلما رقصت أنا في شاطئ» الصابلات» شرق ميناء الجزائر العاصمة حين وجدت هذا العنوان، بالمناسبة: ليس هناك مثلا تصنيف إعرابي في النحو العربي للآلة التي نفعل الفعل بواسطتها، لذلك تغيب كثيرا ثقافة الآلة عند العرب، إن النحو يا صديقي الشاعر تصوّر للعالم تنبني عليه رؤىً وتصرفات، وليس مجردَ ضمّ أو نصب أو جرّ للكلمات. { شتَ « العشرية السوداء» كباقي مبدعي جيلك واقعيا كيف تمثلتها، ونصيا وإبداعيا ما الذي أعطتك..؟ أذكر أنها كانت ليلة ثلاثاء من صيف 1994، كان الليل إلهَ الخوف في القرية، وكنت أتشرّب أغنية «احضنوا الأيام» لوردة الجزائرية من المذياع الذي كان نافذتي الوحيدة على العالم، طُرق الباب الخارجي «للحوش» فطرقَ الموتُ قلوبَنا، في تلك الأيام باتت للكلمات التي في القاموس معانٍ مختلفة، فكلمة «طرق» مثلا كانت تعني «ذبح»، كلمة «لحية» كانت تعني «موت»، هنا دعني أعود إلى سؤالك الأول الذي سألتني فيه: من أين جاء بوكبة إلى الكتابة..؟، لأقول لك: ها قد وجدتُ بعض الإجابة فورا، جئتُ إليها من عبث القواميس، فتحتُ الباب فإذا شباب ملتحون مدججون بالسلاح يطلبون من أبي أن يعطيهم بندقيته، كانت في صندوق أمي، وبصفتك مغربيا فأنت تدرك ما معنى أن يجرّدوك من بندقيتك، كانت الليلة الأولى التي رأيت فيها أبي يبكي، وهم يغادرون، المرة الثانية التي بكى فيها كانت بعد ذلك بسنتين حين عجز عن أخذ جدي إلى الطبيب في المدينة ليلا، لأن الخروج كان يعني الموت المؤكّد، ما كان أقساها من لحظات إنسانية، ومن أوجه قسوتها عجزُ اللغة أمامها، لذلك فأنا لم أستطع مقاربتها إبداعيا إلا بعد سنوات من مضيّها في كتبي «من دس خف سيبويه في الرمل..؟» و»أجنحة لمزاج الذئب الأبيض» و»عطش الساقية»، وسأحاول أن أتحرّر منها في روايتي القادمة «محيض الزيتونة». { المشهد الشعري في الجزائر الآن يتحرر من نمطية التجريب الذي يستمد قوته من القصيدة التقليدية، وقصيدة التفعيلة، قصيدة النثر هي المربّع الجديد التي يأسر الجيل الجديد من شعراء الحداثة، كيف تقيّم هذا المسار؟ أبادر إلى القول إن ملامح المشهد الشعري الجزائري ليست مرصودة نقديا وإعلاميا بالشكل الذي يكفي لأن نطلق عليها حكما رزينا، إذ هناك فوضى تحكمها نزعات ونزاعات مدمرة وعبثية، وقليلة هي الأسماء التي استطاعت أن تفلت من هذا الدمار والعبث، لكنني أراهن عليها على قلتها في أن تضخّ دماء جديدة في شرايين الشعر الجزائري المنكوب بأكثر من جهة. { الإعلام الثقافي مجال يعدّ من اهتماماتك وانشغالاتك أيضا، كيف تقيّمه في الجزائر..؟ لا نستطيع أن نقول إن هناك إعلاما ثقافيا قائما في الجزائر، لا كمّا ولا نوعا، كل ما هنالك مبادرات شخصية تطلق منابرَ عادة ما تكون مؤقتة ومحدودة التأثير، رغم وجود عطاءات ثقافية لافتة للانتباه في السنوات الأخيرة، وقد بتنا نعيش في الجزائر ظاهرة مدمّرة تتمثل في إشراف أنصاف الكتاب على معظم المنابر، ولأنهم معقدون من المشاريع الجادة، والفاعلين الجيدين، فإنهم يستغلّون نفوذهم في التعتيم والإقصاء، إن هناك كثيرا من الجودة عندنا، لكنها تضيع بين حدّي الغياب والتغييب. { أيّ أفق إبداعي يستهويك الآن..؟ هل رأيتَ مسافرا يخوض طريقا صعبة وثرة بالتجارب..؟، إنه قد يجلس على صخرة في بعض ذاك الطريق ليكتب شعرا، أو يغني أو يعزف، لكنه حين يعود إلى أهله فإنه يروي حكايات، أنا مثله تماما، سأتفرّغ للرواية مستثمرا حكايات الطريق، طريقي، ولا تسألني كيف سينتهي، فأنا لا أعرف، فعلا لست أعرف.