1 . في ناحية من اللوحة تندلع حقائق ليس في مصلحتي إخمادها : عرض الفنان التشكيلي رشيد بكار آخر أعماله برواق : noir sur blanc في الفترة الممتدة من: 14 أبريل إلى 12 ماي 2012 بمراكش. في هذا السياق كتب الناقد إبراهيم أولحيان كلمة سماها : «على حافة الغيابِ » هي نفس عنوان الكاتالوغ المهدى للحضور، أمسية افتتاح المعرض. الكلمة في جانب مهم منها ذات نفس كرونولوجي يتابع بالرصد والتأمل منهجية الفنان في تطويع رؤاه، إلى أن تصير في متناول العين عملا مكمولا، لاغبار عليه، بدءا من حالة تشمير الأصابع، مرورا بطرح اللوحة أرضا في ناحية من نواحي مخيلته، وصولا إلى الدخول الفعلي معمعة تشابك ساخن بين هذا المكون أوذاك من المكونات المتنافسة فنيا على إيجاد موطىء قدم في فضاء اللوحة، حيث التوقيع على الأثر والذكرى بالوشم، ومداد التعبير عن ديمومة الحياة :حياة اللوحة في المناطق الأكثر توترا في مخيلة الفنان. في ملاحظة أولى يبدو العنوان في تمام الإنسجام مع نفسه وقد نجح في جر الأعمال الفنية من تلابيبها إلى عتبته النصية، ومن تم تبئيرها في صيغة نداء للغائب، أي منه لا عنه، يصدر منه ويعود إليه، بحثا عن جوهر يتعذرالعثور عليه في حاضر، ندرك تمام الإدراك أنه يموت بمجرد ولادته بحكم تكالب الزمن عليه لحظة بلحظة. هنا المشكلة، فالغائب هو الكل في الكل، والحالة تقتضي تجاوز حافة تراجيدية، يصنعها الفنان متيحا لهواجسه في الإبداع إمكانية اختبار حيويتها، في القفز على أكثر من حبل بمعنى تصويب معانيها، بما يكفل صياغة متجددة لنفسها من تلقاء نفسها، تعين على رفع الغلالة عن ماهو جوهري باطن وكامن فيها ،أمنية، العين الإحتكاك به جسديا وسبر أغواره وتبنيه جملة وتفصيلا كحقيقة غائبة، لكن بمبررات تحضر بقوة لا يطعن في مستقبلها مخلوق على وجه اللوحة. إذن هذا هو الأفق المفقود الذي نترقب بحرارة أن يتمخض غيابه عن خلخلة وعصف ورفرفة للجفون وهي عربون حالة نفسية تنتظر رفع الحواجز عن تطلعاتها نهائيا، أنا هنا بصدد التشديد على الناحية التي تندلع فيها حقائق لانهائية، ليس من واجب أحد إسكاتها، بسبب ارتفاع ألسنتها إلى معاني قياسية، في الجهر بحقها في حرارة الإنتماء، إلى بقاع تشكو برودة الحضور طي أزمنة مأهولة بالغبار، تخطىء عقارب اليوم المضي قدما نحوها بثوان حثيثة، ما من شك أن الظفر بها برمشة عين من بكار غدا بحق يعني لقبَ نصر وتتويج في المسافات اللونية الطويلة الأنفاس . 2 . رشيد الذي يظهر و يختفي : الفنان حيال هذا الترقب يظهر ويختفي، يظهر كراع لحقائق من ابتكاره الخالص، يبدو ممتنا لها وبها غاية الإمتنان، ويختفي فجأة عن كل مسؤولية، تاركا الحبل على الغارب للأسرار تفرغ جعبتها بما فيها، تطلع خباياها بما عليها حيا أوميتا، تقدم كشف حساب مفصل لمجل أنشطتها الجارية في الظل مجرى مياه تحت تبن متخفية عن الأنظار، هي ما يشوش على الأقدام بقدر كبير من التغرير يتلف قدرتها على التركيزفي الخطى المؤدية إلى بر أمانيها، والخروج من حالة الزوبعة المرورية إلى طقس الوضوح في الرؤية والمقصد. وحتى إزاء التباس كهذا، مزروع بفائق العناية والتبصر في الطريق إلى النبض الخفي وراء كيمياء اللون وإيقاع الأشكال، فإن رشيد بكار لايجد كبير عناء في رسم مخارج جمالية بالغة التأثير على الوجدان، مستقويا بما ملكت العين من فائض الرؤية، هذه التي لاتذعن لنهاية، وتلك التي دٌربت وحنكت على خوض تحريات عميقة في صميم المجهول المتراكم على أعتابنا بكميات مجهولة، وذلك من منطلقات تشخيص شامل لملامح وقسمات الحالة، في كمونها لا في تجليها، في غيابها لا في حضورها، في سكونها لا في حركتها، للتدليل فنيا على أن مايسمى الباب المسدود في أية فكرة هو جزء لايتجزأ من الحل، مادام اختراق مصراعيه لا يستعصي على قوة الخيال وجنون الموهبة وهو ماليس متاحا بالنسبة لسائر الكائنات سيما التي تفكر بحاسة ميتة لحيوان متحجر، فلا تستوعب التعدد المطروح في الطريق الواسع إلى الغياب المفتوح على الثراء والغرابة والعجب، وهو هنا على ملل ونحل، منه الغياب المبرر بالحجج والبرهان، وما هو في العمق إلا حضور مضطرب لايعنينا تحايله في شيئ، وغياب لايملك الوقت والعبارة لتقديم أي اعتذار، وهذا مربط اللوحة، تنشدّ إليه الدواخل والأعماق برباط روحي متين، يطول ويقصر، تبعا لضربات القلب والشعور، وخفقان زمانهما ومكانهما. فأي قماش أو خشب أوورق يستوعب ارتباكا ارتجاجيا بدرجة هزات يد واحدة، ترتهن مدا وجزرا، صمتا وصوتا، للهامشي ضدا في المركزي، للغياب عوض الحضور، بتأليب هاجس على اعتقاد، بتسليط خيال على راهن مريض بالأوهام، بترجبح فكرة صغيرة على من يفقنها من نظيراتها، من الأفكار وزنا وطولا وعرضا، وانتظار ما سيسفر عنه هذا الجنون بإخراج مسرحي يخرج اللوحة من الحيز الضيق للصدفة، ويعرضها على الملأ ضيفا مستداما، يتحمل كل النعوت إلا المجاملة في وجه عالم نقول عادة عنه من باب الدفاع ضده : إنه يخفي تناقضاته بغربال، لاتتوانى في الكشف عن نفسها بكرم للعميان. 3 . شل فرامل اليد و العين سواء بسواء : من ميكانيزمات هذا الملمح السينوغرافي، تغليب لون على لون إلى حد مجاراته في ظلم أوحق، في صيغة اكتساح صامت الوقع ، يبصم ببواطن الأقدام على المحصول الوافر للحواس، من بصر وذوق ولمس وشم وحتى بمتلاشيات من نثر ذاكرة حول جسد، تنحَل جسميا إلى خطوط، تنزف طولا وعرضا، هي تعبير عن سبب ونتيجة، السبب في شل فرامل اليد، والنتيجة مسح متحرر من كل قيد أو شرط، في النفاد على وجه السرعة إلى الربع الخالي في دغل أو شكل تحت أي حجم أووزن، فإعماره هندسيا بالصور والعلامات المشبعة بالتشابه والإختلاف، التنوع والتفرد، القوة والعفة، على غرار إعمار جزر وأرخبيلات ومحاربة شياطين الهواء، هذا توغل لافت للنفس، يسعى رشيد بكار إلى اعتباره مقترحا جماليا خاصا به، وهو فخور حقيقة، وهو يضعه في متناول عيون يهمها صيانة الأمانة مدى البصر. 4 . حيف أشد مضاضة لا أتردد في تهشيم حسامه بفأس مهند : في ملاحظة أخيرة، لابد من الإشارة إلى كون كلمة الناقد إبراهيم وهي المعدة أصلا ونصا، كمقدمة عربية للكاتالوغ، ستصاب بدورها بآفة غياب أعظم، حين تكتفي برتبة خاتمة هي في اعتقادي، شبه مغادرة كرهية أو طوعية ، ترتب عنها ترك المنصب شاغرا للأخت في الترجمة تشغله بشكل رسمي، وهي بالمناسبة ترجمة أنيقة للأستاذ خالد المعزوزي،لكني أتمنى في هذا الصدد ألا يتجاوز الأمر حفاوة لغة بلغة أو تقديرا فوق اللزوم، يجعل العربية تتصدر الغياب، وإلا صار الحدث في حكم العجب الذي تجري وقائعه في عقر أروقتنا، وهو ما لايتاح لأي فنان يرسم بلغة الضاد فيما ينظم من معارض فنية خارج حدود البلاد. ألسنا إذن أمام آفتين بدل حافتين: واحدة للغياب وأخرى للحضور، مجرد تساؤل حضرني الآن على أمل كسر هذا الحيف بفأس، وبالتالي الذهاب بثقة نحو ألواننا وهوائنا ولا ضير أن نسميها وقتئد، بمسمياتنا دون أدنى مركب نقص وبإحساس من يرتكب جناية صادقة بالحب المبرح من أجل لوحة ،يلزم الوقت والجهد لتحريرها من براثن الوصاية والحجر الطاعنين في السن كما سوء الظن بهويتنا الفنية رسما وصباغة.