المحكمة الدستورية تُوجّه صفعة قانونية لوهبي وتُسقط تعديلاته    حزب الله يرفض قرار الحكومة اللبنانية تجريده من سلاحه    مقتل وزيرين في غانا إثر تحطم طائرة    معاذ الضحاك يحقق حلمه بالانضمام إلى الرجاء الرياضي    نشوب حريق في شقة سكنية بمدينة الفنيدق    توقيف شخص في قضية تتعلق بحيازة وترويج المخدرات والمؤثرات العقلية    أكلو : إلغاء مهرجان "التبوريدة أوكلو" هذا الصيف.. "شوقي"يكشف معطيات حول هذه التظاهرة    أياكس الهولندي يتعاقد مع المغربي عبد الله وزان حتى 2028    أخبار الساحة    أشبال الأطلس يستعدون للمونديال بمواجهتين وديتين ضد منتخب مصر    ابن الحسيمة "بيتارش" يلتحق بالفريق الأول لريال مدريد    نقل جندي إسباني من جزيرة النكور بالحسيمة إلى مليلية بمروحية بعد إصابته في ظروف غامضة    المديرية العامة للأمن الوطني تطلق حركية الانتقالات السنوية    بلاغ هام من Baleària لزبنائها المسافرين عبر ميناء طنجة المتوسط خلال شهر غشت    نشرة إنذارية: موجة حر وزخات رعدية قوية مصحوبة بالبرَد وبهبات رياح مرتقبة بعدد من مناطق المملكة    عدد ضحايا حوادث السير يرتفع بالمدن فيما يسجل انخفاضا خارجها خلال شهر يوليوز    مغاربة وجزائريين وآسيويين.. تقرير إسباني يكشف عن تنوع جنسيات المهاجرين نحو سبتة    تقرير: 327 مليار درهم احتياطات أنظمة التقاعد المغربية رغم العجز التقني المستمر    دعم بقيمة 25.84 مليون درهم لأربعين مهرجانا سينمائيا بالمغرب    طفل يرى النور بعد ثلاثين عامًا من التجميد    الكاف يعفي الوداد من الدور التمهيدي ويمنحه انطلاقة قوية في الكونفدرالية    بورصة الدار البيضاء تستهل الجلسة بأداء مستقر يميل للصعود    غزة.. انقلاب شاحنة مساعدات يخلف 20 قتيلا ومستوطنون يهاجمون قافلة معونات قرب مخيم النصيرات    سكان غزة يرفعون العلم المغربي في حركة شكرٍ وطنية بعد وصول مساعدات جوية ملكية مغربية    الموثقون بالمغرب يلجأون للقضاء بعد تسريب معطيات رقمية حساسة    أسعار النفط ترتفع    "وصل مرحلة التأزم البنيوي".. 3 مؤسسات رسمية تدق ناقوس الخطر بشأن أنظمة التقاعد                حزب "النهج" ينبه إلى تصاعد الاحتجاجات ضد التهميش ويستنكر الأسعار الخيالية المصاحبة للعطلة الصيفية    حادث مأساوي يودي بحياة سائق طاكسي ويرسل آخرين إلى مستعجلات الخميسات    بعد طول انتظار: افتتاح حديقة عين السبع في هذا التاريخ!    مراكش والدار البيضاء أفضل الوجهات المفضلة للأمريكيين لعام 2025    الهند تعزز شراكتها مع المغرب في سوق الأسمدة عقب تراجع الصادرات الصينية    بطولة فرنسا: لنس يتوصل لاتفاق لضم الفرنسي توفان من أودينيزي    الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم تعقد اجتماعاً حاسماً لدراسة تعديلات قانونية وهيكلية    إسبانيا توقف خططا لشراء مقاتلات طراز "إف-35"    المغرب يدرب 23 عسكرية من 14 دولة على عمليات حفظ السلام الأممية    "صحة غزة": ارتفاع وفيات التجويع الإسرائيلي إلى 193 بينهم 96 طفلا    «أكوا باور» السعودية تفوز بصفقة «مازن» لتطوير محطتي نور ميدلت 2 و3    بين يَدَيْ سيرتي .. علائم ذكريات ونوافذ على الذات نابضة بالحياة    حين يضع مسعد بولس النقاط على حروف قضية الصحراء المغربية في عقر قصر المرادية.    بنما تعلن من جديد: الصحراء مغربية... ومبادرة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية هي الحل النهائي    سفير إسرائيل السابق في فرنسا يناشد ماكرون: إذا لم تفرض عقوبات فورية على إسرائيل فسوف تتحول غزة إلى بمقبرة    الفنيدق: وضع خيمة تقليدية بكورنيش الفنيدق يثير زوبعة من الإنتقادات الحاطة والمسيئة لتقاليدنا العريقة من طنجة إلى الكويرة    نحن والحجاج الجزائريون: من الجوار الجغرافي …إلى الجوار الرباني    خواطر تسر الخاطر    اتحاديون اشتراكيون على سنة الله ورسوله    الرباط تحتضن النسخة الأولى من "سهرة الجالية" احتفاءً بالمغاربة المقيمين بالخارج    علي الصامد يشعل مهرجان الشواطئ بحضور جماهيري غير مسبوق    بجلد السمك.. طفل يُولد في حالة غريبة من نوعها    من الزاويت إلى الطائف .. مسار علمي فريد للفقيه الراحل لحسن وكاك    الأطعمة الحارة قد تسبب خفقان القلب المفاجئ    دراسة كندية: لا علاقة مباشرة بين الغلوتين وأعراض القولون العصبي    دراسة: الانضباط المالي اليومي مفتاح لتعزيز الصحة النفسية والعلاقات الاجتماعية    بنكيران يدعو شبيبة حزبه إلى الإكثار من "الذكر والدعاء" خلال عامين استعدادا للاستحقاقات المقبلة    "العدل والإحسان" تناشد "علماء المغرب" لمغادرة مقاعد الصمت وتوضيح موقفهم مما يجري في غزة ومن التطبيع مع الصهاينة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دراسات ..كيف نقرأ ناس الغيوان اليوم؟
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 23 - 06 - 2012

وبخصوص قراءتي للظاهرة سنة 2004 من خلال مقدمة الطبعة الثانية للكتاب، فيمكن القول بأنها تؤكد، مرة أخرى، أنموذج براديكم = paradigme السميأة باستكمال مظاهرها، مع تأكيد أحقية المقاربة الأولى التي لا تنفي مقاربات أخريات لا تقصي بعضها البعض. فقد تم التنبيه على الارتباط بالجذور: الأرض، والإنسان، والقيم الرمزية، والتعبيرات الفنية واللفظية، والإبداع والابتكار. كما تم توضيح كيف أن الأداء الفني والإيقاع يتناغمان مع وجدان الرفض والحلم بأشكاله، وكيف أن اللغة الدارجة ترتفع بشاعريتها، وكيف استطاع الغيوان أن يجعلوا من صنعتهم اللفظية تعيد إلى الدارجة العربية حيويتها ورفعتها وإضاءاتها النورانية، وكيف امتزجت اللغة العادية باللغة الرفيعة أو الراقية3 (لغة النص الصوفي أو لغة المجاذيب) لتصبح الدلالة شديدة العمق والثراء وتستعصي على القبض بها. لقد انفتحت اللغة، عند ناس الغيوان، على كل اللغات التي تشكل روافدها المتعددة، فيما جعلتنا الفرقة نعيش بساطة الكلمات وعمقها ونبذ القوانين اللغوية الأكاديمية. ومن جهة أخرى، جددت الدراسة اعتبار الأغنية الغيوانية قد شكلت شكلا وأنموذجا جديدين خلخلا معا عددا من المقدمات الفكرية التي كانت تعج بها ساحتنا الوطنية. وفي هذا السياق، يمكن اعتبار الحفل الغيواني، بأحد المعاني، جلسة من جلسات الاستماع الفنية المرتبطة بمغرب الطوارئ وسنوات الرصاص. ومن ثمة، لا يبالغ من رأى أن الأغاني الغيوانية قد شكلت حدثا- قطيعة في الفهم والممارسة لأن الأغنية كانت وسيلة تعبيرية وإبداعية تعد، في حد ذاتها، رافدا من روافد المنظومة الفكرية السائدة. من هذه الزاوية، تندرج الأغاني الغيوانية ضمن خلخلة منظومة القيم الفنية بتواز مع خلخلة منظومة تدبير الشأن السياسي. وهو ما جعلني أؤكد أن سياق الظاهرة محدد أساسي لفهمها، وأنها إفراز من إفرازات الواقع آنئذ، لذا شكلت جذبة فنية توازت مع التحولات التي كان الوطن يعرفها دون أن تخضع لقانون مجريات الأحداث. أي أن تفاعل الغيوان لم يكن تفاعلا ميكانيكيا آليا، بل كان تفاعل اختمار فني عميق.
هذه القراءة، على الرغم من أنها تبدو قراءة جديدة بحكم الإطار الفكري المنظم والجامع لتلابيبها، فإنها تبقى قراءة مضمونية. لكن، أتعتبر القراءة المضمونية قدحا وسقوطا بالمقومات الفنية؟ لا أعتقد، اليوم، ذلك. فكل القراءات تروم الكشف عن دلالات الأشياء بما فيها الأشياء الفنية مهما بلغت من التعقيد ومن الإحكام، كل الأشياء دلائل تنتظمها السيميائيات النقدية وتقوم بدراستها بما فيها الأشكال الفنية باعتبارها نتاجا إنسانيا يحمل معنى ما في سياق تاريخي ما.
ما عساي أرى في الظاهرة، اليوم من سنة 2011، بعدما اطلعت على أغنية الاحتجاج في كل من فرنسا وأمريكا وكندا وبلدان إفريقيا، وجددت اطلاعي على علاقة الموسيقى بالسياسة، وحسنت معلوماتي الموسيقية واستحضرت معرفتي الصواتية والصوتية؟
لا أكاد أجدني حائدا عما سبق لي أن كتبته، فلم تزدني قراءاتي ومعارفي إلا اقتناعا بأساس ما انتهيت إليه من مختلف قراءاتي السابقة لظاهرة ناس الغيوان. لذا، أبادر فأقول بأن الظاهرة يؤطرها سياق اتسم بانزياح اجتماعي وسياسي ولغوي وفني. والسياق لا يجب بأي حال من الأحوال أن يختزل في السياسي، فقد كان سياق تجديد وتجريب على مستوى السياسة والفكر والتعبيرات اللغوية والفنية. ولم يكن بإمكان قراءتي إلا أن تكون متعددة: قراءة فنية وقراءة اجتماعية وسياسية وقراءة سيميائية.
لقد كان انطلاقي من اقتناع مفاده أن الأدب مبني داخليا وخارجيا. لهذا السبب، نظرت إلى الأغنية من زاوية بنائها الداخلي: 1. المكون اللغوي بمختلف مستوياته منها أساسا المستوى الصواتي/ الصوتي في حدود المعرفة الصوتية المنتشرة في الوسط الأكاديمي آنئذ؛ 2. المكون الموسيقي في حدود المكتسب المعرفي علما بأن الموسيقى لا مكان لها في الفضاءات الأكاديمية (الجامعات والمعاهد التابعة لوزارة التعليم العالي..)، 3. المكون السيميائي غير اللفظي (اللباس، التعبيرات الموسيقية، الرقص والجذبة، الآلات الموسيقية...).
لقد اعتبرنا النص بناء لغويا داخليا مخصوصا مفتوحا على شروط إنتاجه. ومفاد ذلك أن النص الفني لا يكتسب صفة الفنية إلا بعاملين: عامل داخلي وعامل خارجي. وتجدر الإشارة، هنا، إلى أن الاتجاه الاجتماعي لعلم النص كان، وقتها، هو الاتجاه الغالب. لقد كان النص نسقا مستقلا استقلالا ذاتيا، إلا أنه نسق يشمله نسق أكبر أو يؤطره نسق أكبر هو نسق العلاقات بين الداخلي والخارجي. والعمل الفني تبرزه الدلائل وينشأ عن هندستها، ويولد هذا التشكيل الهندسي الدلائل وتراكبها. ومن شأن ذلك أن يفضي بنا إلى اعتبار المكون السياسي والإديولوجي جزءا صميميا من تصور العمل الإبداعي لأن المسلمة السياسية مصدر كل صرخة شعرية. فكان أن حضرت السياسة وحضرت الإيديولوجيا باعتبار العمل الفني الاحتجاجي عملا سياسيا كما أسلفت.
لقد أكدت مختلف قراءاتي ثوابت النص الغيواني الذي أكدته قراءات أخرى. وأنا أراجع قراءاتي، تبرز أمامي مسألة الشفاهية ومفهوم الفرجة اللذين يتجاوزان الشكل ليشملا المضمون. فقد صارت الشفاهية مكونا لأدبية نص فني وشعريته وخاصة فن الغناء. وصارت الفرجة متعددة: فرجة الأذن والعين وربما مختلف الحواس، ويندرج كل ذلك ضمن مشروع كبير لخلخلة النظام الطبيعي للمؤسسات الاجتماعية والدينية والأخلاقية والفنية واللغوية. من هذه الزاوية بالذات، أعتقد أن الغيوان يقترحون كتابة جديدة، وطريقة جديدة في الكتابة وطرق حكايتها وغنائها مثبتين بذلك نوعا من التحرر من الأفق النضالي الذي يحدده العقل السياسي. في هذا الباب، يذكرنا الغيوان بالكتابات المتألقة والعليا التي تخرق السنن اللساني والسيميائي المألوف والمهيمن مع الرفع من مستوى الكلام اليومي والسمو به، باستعمال طرق تفكير وكتابة من مصادر وأشكال فنية مختلفة: الحضرة (الجذبة، الحال،) والزهد، والتسامي والصعود، والسحر، والأحاجي، والأمثال والحكم، والأساطير، والنصوص الروحية التصوفية، والقدسي والسري والحميمي، والكلمات أو اللغيات،.... بما يعنيه ذلك من استلهام « الكلام» العالي المؤثر من أصحاب الكلام وصناع الكلام: الله، المتصوف، المجذوب، الدرويش، الحكيم. والكشف عن مختلف صنوف الكلام: الكلام الثاخن، الشيء اللامرئي، اللامقول، اللامفكر فيه، الكلام المتعدد، المستغلق... بحيث أضحى التغني (موسيقى ولحنا ولغة) يشرف على المقدس ويقدح النشوة، واللذة، والنوسطالجيا، ويستمد جماليته من الجماليات المتعددة الممثلة في كناوة، سوس، العيطة، السماع الصوفي، الزوايا، أغاني الرعي والحصاد والبحر والصحراء، والحضارة الأندلسية....
لا يقتصر ما تم توظيفه من التراث من قبل ناس الغيوان على نصوص قديمة. بل تعداها إلى استدعاء مناخ أعم وأشمل بدءا من اللغة الموظفة العتيقة والقوية والرصينة والشديدة الإيحاء، والصور والمجازات المستعملة الشديدة الارتباط بالجو الثقافي والروحي الذي يلف النص المُغنَّى، مرورا بالإيقاع والآلات الموسيقية الممهورة بالحلول والتواجد اللذين يذيبان الحدود بين الأطراف والأشخاص والمواقف والحالات والسلوكات والأفكار، وانتهاء بالنصوص القديمة. هكذا، تميزت الأغنية الغيوانية، على مستوى مضمون الأغاني، بالتجديد في الموضوعات المطروقة لتبتعد عن المألوف الفني والموضوعاتي فتناولت قضايا الناس والمجتمع، القضايا الاجتماعية والسياسية، متخذة منحى التغني بالجراح المادية والروحية مع ما في الجرح من التذاذ وصعود وفتح للأفق المطلق.
يفضي بي ذلك إلى اعتبار المشهد الغنائي مشهدا سيميائيا مركبا: العودة إلى الأصول مع تنوعها، واللغات، والحضرة والرقص، والآلات الموسيقية، والتعبيرات الموسيقية، ومسرحة الأغنية، وإيقاعات الوجدان الجمعي بتجاوب مع توترات الواقع. والمتأمل في مكون الأداء الفني، لا شك أنه سيلاحظ أنه قدتم توظيف عدد كبير من التعبيرات حتى أضحى الغناء لحظة تكثيف للفنون الأخرى وتداخل وتشابك بينها (الغناء، والموسيقى، والمسرح، والرقص)، وقد انضاف إلى ذلك تأسيس الغناء الممتد.. الذي يرسم طريقه المجهول على نغمات الهجهوج والصيحات أو الصياح. ولأن الغناء، في الأصل، إيقاع لفظي وصوتي، ولأن هذا الإيقاع لم يكن أبدا مفصولا عن إيقاع الجسد، فقد أعاد الغيوان للجسد دوره في إثراء الإيقاع وتنميته، فكان أن فتحوا الباب أمام الرقص بتلاوينه الصوفية والدراويشية. لقد صار العرض، مع الغيوان، لحظة تحررية، ليس للفرقة وحدها، بل للجمهور أيضا، لحظة للتحرر من «الانضباط» القيمي والجسدي، لحظة للرقص والصراخ والتنديد، والإبداع الصوتي، فيما لم يعد مكون المغني فردا وإنما أصبح جماعة، وتغيرت هويته لتصبح هوية ثرية ومتعددة. فهو الشاعر والدرويش والمجذوب والمتأمل وصانع لذة الكلمة والإيقاع اللفظي والإيقاع الجسدي، لقد أوكلت إليه الجماعة مهمة الحديث عن الحياة اليومية بكل أبعادها وعمقها، والتغني عن طريق الشعر والغناء والمسرح. وقد امتد هذا التنوع الفذ ليشمل الآلات الموسيقية. فالآلات المختارة آلات غير مألوفة، وآلات تراثية تحضر بزخمها لتؤكد اختيار الغيوان الفني.
أما على مستوى الإيقاع، فقد رسمت الأغنية الغيوانية مسارا متنوعا وغير مطروق يمكن إجمال مرتكزاته في استحداث الإيقاع الصاخب واعتماد إيقاع تحريك وتهييج يفضي إلى حالة مرغوب فيها أي الحال أو الحضرة. وبإيجاز، لقد استحدثت الفرقة موسيقى صاخبة كصخب الواقع، واستحدثت لغة متينة ورفيعة، ونصوصا قوية ومشحونة، وصوتا إنسانيا voix يشد الانتباه والاهتمام.
أما على مستوى اللغة، فقد أكد الغيوان، من خلال اعتمادهم اللهجة العربية المغربية نسقا في الاتصال والتواصل الفنيين، أن الدارجة، باعتبارها الوجه السلس للغة الأم، قد تجد من يطرز تعابيرها وينسق ألفاظها ويولد الصور الجميلة منها ويجعل كلماتها مشعة في الاستعمال ويرتفع بشاعريتها التي ينسينا إياها استعمال العربية الفصيحة.
ومن جهة ثانية، نشعر ونحن نعلو مع هذه اللغة أنها قد تحولت إلى لغة صوفية، لغة مقدسة، ولغة المجذوب، كما هو معلوم، تستهوي، وتذهل، وتشد الأنفاس والأخيلة. فهي لغة غير عادية، لأنها مشحونة بدلالات لا تدرك للتو، ودلالاتها تتجدد مع تجدد القراءة وتغير زوايا النظر. إن الأمر يتعلق بدلالات ممكنة تشدنا إلى عوالم ممكنة. وإذا صح هذا الذي ذهبنا إليه، صح معه أن اللغة ليست خاضعة للواقع وليست في خدمته، بل إنها تقاومه وتعارضه، وبذلك تسمح للإنسان برفض الواقع بما هو واقع.
لا أكاد أغفل ما تحاول الفرقة وبعض الدارسين إغفاله وإبعاده، أي عنصر الاحتجاج وصلته بالسياسة. عادة ما يتم التفكير في الاحتجاج وأسلوبه ولغته من زاوية التعبير المباشر الخطابي. في حين نعلم جميعا أن الشعارات السياسية والتعابير الإشهارية4، لكي تكون نافذة، يستوجب الأمر صنعتها اللغوية بما تتيحه اللغة من وسائل، بل كل الوسائل التي تتيحها للعمل الفني.
لقد أرسى ناس الغيوان الخطاب الفني الاحتجاجي. والاحتجاج، كما أشرت إلى ذلك أعلاه، سياسة، بل إن الاحتجاج قد يكون سياسيا أيضا. غير أن السياسي ليس هو الحزبي دائما. فالسياسي قد يكون المشترك الإنساني والكوني، باعتبار السياسة قيمة كبرى من قيم الإنسان. ومن الملحوظ أن الغيوان قد اتجهوا نحو الاجتماعي والإنساني باعتماد نظرة نقدية تتيحها كل الخلفيات الإديولوجية. فمن خلال الأغنية، رسم الغيوان ملامح واقع، وملامح وعي جماعي وأفقا. وحين نقرأ الغيوان، لا يمكن ألا نستحضر السياق، ولا يعني استحضار السياق وتأطير النصوص والبحث عن ارتباطاتها بالناس، ناس الغيوان وجمهور ناس الغيوان- لا يعني ذلك أي إسقاط أو أي توظيف.
غير أن الأغنية الغيوانية تقترح وتوحي ولا تملي، فهي ليست نصا ينص على معنى، على شيء ما، بل تفتح إمكانات للتأويل وتقترح انفعالات وأحاسيس وتؤججها من خلال اللغة والإيقاع والآلات المستعملة ومن خلال الحركات كالرقص والتصفيق الموقع والترديد والرقص.
وإذا شئنا عقد نوع من المقارنة بين أغنية ناس الغيوان وأغاني الاحتجاج اللاحقة، ستتبين لنا أوجه التقاطع والتآلف والتخالف بين مختلف أغاني الاحتجاج، وسيتضح لنا حجم الاختيارات اللغوية والأسلوبية والإيقاعية، بتراكبها، والاختلاف في الموضوعات المطروقة.
وهكذا، إذا نحن تأملنا في أغاني الاحتجاج التي ازداد انتشارها مع عصر العولمة وإفرازاته اللاإنسانية (البيغ، آش كاين، الفناير، كازا كراو، إكس صايد، هوبا هوبا سبيريت، زنقا فلاو..)، وخاصة بالمغرب مع التعبيرات الفنية الشبابية المتنوعة التي ملأت الفضاء المغربي، فإننا نقف على ملامح مميزة من بينها الالتصاق بالمشاكل والهموم اليومية وضغوط المعيش والتجاوب مع السياق السوسيو اقتصادي والاجتماعي. هكذا، تنوعت الموضوعات بين التغني بالانتماء إلى الوطن، وقلق الشباب، والبطالة، والتوتر الاجتماعي والعائلي، والآلام النفسية،.. وقد اختارت هذه الأغاني اللغة القادرة على الفضح والكشف والنبش عن الجذور الثقافية وعن التعابير القوية التي اختيرت لها لغة الشارع بهجنتها: الدارجة المغربية المختلطة بتعابير وكلمات وجمل فرنسية.. لتعكس بذلك جيل العولمة في هامش بلدان العولمة: جيل « التشمكير اللغوي» أو الحريك اللغوي»، و»التشمكير الهوياتي» أو «الحريك الهوياتي» و»التشمكير السياسي» و»الحريك السياسي» كتعبير عن رفض مثل هذا الواقع، واحتجاجا على تعميق شروخه. وقد توخى أصحاب هذه الأغاني أن تكون أغانيهم تعالج الروح، وتحرر الجسد من الأرواح الشريرة التي سكنته. وبذلك، تكون هذه الأغاني ذات قيمة احتجاجية تتخذ تلاوين متعددة بحسب الثقافات الفنية للفرق. وهو احتجاج مفض إلى الحرية بمعناها الشمولي: حرية الفرد، حرية المجتمع المغربي، حرية المجتمع الإنساني (فقد عالجت هذه الأغاني العنصرية، والحرب بالعراق والقضية الفلسطينية، والحركات الاحتجاجية في أكثر من موطن...).
وإذا كانت هذه الأغنية احتجاجية الطابع، وبذلك فهي تتقاسم مع الغيوان هذه الطبيعة، فإنه من البين أن هناك تقاطعا بين الأغنية الغيوانية وأغنية الراب والهيب الهوب. فمن جهة، نلاحظ تقليص حجم حضور النزوع الصوفي على مستوى اللغة والمضمون، وهو ما يعني، عموما، فسح المجال أمام اللغة الدارجة العادية المتحررة من مسوح التعالي، ومن ملامح الصنعة اللفظية. كما انفصلت الأغنية الاحتجاجية الجديدة عن الطابع التناصي الذي حكم الأغنية الغيوانية. أما القطيعة على مستوى الموسيقى وآلاتها فقد تكون عميقة أحيانا. ومن جهة ثانية، يبدو أن هناك، على مستوى الموضوعات، فروقا كبرى، وإن كان النوعان من الغناء يمتحان من نفس المصدر الحياتي المعيش. فقد أبانت أغنية الراب والهيب هوب عن قدرة هائلة في الانفتاح على موضوعات الحياة اليومية المتنوعة.
المراجع:
جان كوهين: اللغة العالية. ترجمة محمد الوالي. دار توبقال. الدار البيضاء.
حنون، مبارك: الأغنية الشعبية الجديدة: ظاهرة ناس الغيوان. 1987. منشورات عيون. الدارالبيضاء؛
حنون، مبارك: دروس في السيميائيات. 1987. دار توبقال. الدار البيضاء..
حنون، مبارك: ظاهرة ناس الغيوان. مجلة الثقافة الجديدة. العداد 5و6 المزدوج والعدد 7 ، 1977؛
حنون، مبارك: ظاهرة ناس الغيوان: تجربة تحديث الأغنية الشعبية. 2007. دار الأمان. : الرباط
ياكوبسون. قضايا الشعرية. دار توبقال للنشر. ترجمة مبارك حنون ومحمد الوالي. (1989)
. مقتطف من العرض الذي تقدمت به في اليوم الدراسي الذي نظمه مكتب التعريب للدراسات والأبحاث بالرباط في 21 يونيو 2011
. انظر مبارك حنون. 1987. دروس في السيميائيات. دار توبقال للنشر. الدار البيضاء
. لست أدري لماذا ينصرف ذهني إلى تعبير جان كوهين: اللغة العالية.. يمكن العودة إلى ياكوبسون. قضايا الشعرية. دار توبقال للنشر. ترجمة مبارك حنون ومحمد الوالي. (1989)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.