على اثر اندلاع الحريق الذي شب في غابات جماعتي تطفت وبوجديان يومي الجمعة والسبت 10 و 11 غشت الماضيين ، انتقلت» الاتحاد الاشتراكي « الى المداشر المنكوبة بالجماعتين المذكورتين لاطلاع قرائها على الكوارث الجسيمة التي لحقت بالمنطقة ورصد الأضرار التي لحقت بها من خلال معاينتها المباشرة وتصريحات السكان لها فكان الروبورطاج الآتي : كانت الساعة تشير إلى السابعة صباحا من يوم الأربعاء 15 غشت الجاري عندما استقليت سيارة الأجرة الكبيرة في اتجاه القصر الكبير لأتوجه بعد ذلك إلى المداشر المنكوبة من جراء الحرائق في جماعتي تطفت وبوجديان .المدينة هادئة وحركات السير تكاد تكون منعدمة .كان الصمت يسود داخل السيارة إلا من ضجيج الراديو .تساءلت وأنا أستحضر شرائط صور الفيديو المبثوثة في الفايسبوك عن الجدوى من وراء هذه الحرائق والأهداف المتوخاة منها، خصوصا وأن هذه الأحداث ليست الأولى من نوعها في الإقليم كما استغربت أيضا من الأحداث الخطيرة التي أصبحت تهز الإقليم في الآونة الأخيرة بعد تعيين العامل الجديد خصوصا أحداث الشليحات وحرائق غابات تطفت وبوجديان ولم أهتد إلى جواب محدد : هل الأمر مجرد صدفة أم من تدبير فاعل ؟ عند وصولي إلى القصر الكبير بعد أربعين دقيقة من السفر استقليت سيارة أجرة صغيرة لتوصلني إلى باحة سيارات جماعات القلة وتطفت وبوجديان البعيدة عن المدينة .وأنا في الطريق فكرت في الكيفية التي سوف أتعامل بها مع سائقي السيارات : هل سأكتري سيارة وأطوف بها في المداشر المنكوبة أم أسافر فقط مع المواطنين في كل منطقة على حدة، خصوصا وأن الأمر يتعلق بمداشر متفرقة ومتباعدة وصعبة للوصول إليها بسبب تضاريسها الجبلية الوعرة وكم سأستغرق من الوقت في هذه الحالة ؟وبعد تفكير عميق اهتديت إلى أنه من المستحيل السفر مع الناس لأن ذلك سيكلف الكثير من الوقت والجهد خصوصا ونحن في شهر رمضان المعظم وفي هذه الليلة المباركة من السادس والعشرين المحبوبة إلى المغاربة والمسلمين قاطبة . استفردت ب»كورتي» السيارات وطلبت منه أن يدلني على سائق ابن هذه المنطقة يعرف المداشر المنكوبة وكيفية الولوج إليها مع معرفته بالسكان إذا أمكن ذلك .بعد دقائق قدم إلي سائقا وقال لي : هذا أحسن سائق يمكنك الاعتماد عليه في هذا المشوار .سلمت عليه وانفردنا جانبا لأشرح له رحلتي إلى المداشر المنكوبة لانجاز روبورطاج في الموضوع . رحب بالفكرة لكنه طالب بأجر في مستوى العمل الذي سيقوم به خصوصا وأن الرحلة صعبة ومحفوفة بالمخاطر وفي مناطق صعبة من حيث التضاريس الجغرافية. وبعد أخذ ورد توصلنا إلى اتفاق بمقتضاه سأمنحه خمسمائة درهم في المقابل سيظل معي طوال المدة التي سيستغرقها الروبورطاج ولو اقتضى اليوم كله . هول الكارثة في الطريق كانت الحقول تبدو خضراء بفعل السقي المتواجد في المنطقة، وبين فينة وأخرى كنت أسأل السائق عن الخسائر المحتملة لهذا الحريق. وبطريقة الحكماء رد علي وقال : لم تشهد المنطقة في تاريخها منذ أن وجدت حريقا مثل هذا الحريق الذي ستراه .اعتبرت جوابه مبالغة وصمت . عندما وصلنا إلى مدشر صخرة القط وهو أول مدشر يصادفنا في رحلتنا هذه، أصبح السواد يعم كل شيء : أشجار الغابات وأشجار الزيتون والتين والفواكه المختلفة .ومن حسن حظ هذا المدشر أن منازله لم تتضرر بسبب تواجدها في سفح الجبل وبعدها القليل عن الغابة . لم أجد من أتحدث معه وتابعنا طريقنا. السواد واللون الرمادي وبقايا الدخان المنبعثة تشهد على كارثة المنطقة . طوال الطريق وعلى بعد مسافات طويلة كانت المنطقة تتشح بالسواد بعدما كانت خضراء بفضل غاباتها الكثيفة وأشجارها المخضرة على الدوام. الأمر نفسه عندما وصلنا إلى منطقة دلم الغميق المقابل لمشارف سد وادي المخازن . واصلنا طريقنا وفي مدشر صف تراولة كانت الكارثة : انهيار ثلاثة أقسام ومنزل المدير المتواجدة على يسار مدخل المدرسة المحاذية لأشجار الغابة بفعل النيران بينما نجا قسمان ومكتب للإدارة المتواجد على يمين مدخل المؤسسة، إضافة إلى مرحاض للاستعمال . تابعنا المسير إلى المدشر . هنا تتجسد الكارثة بوضوح: انهيار مسجد المدشر واحتراق عدد لا يستهان به من المنازل .الحيوانات هنا أخذت نصيبها من الكارثة حيث النيران أتت على الدجاج والكلاب والحمير كما أحرقت الأبقار . لاحظنا بقرة متضررة في ثديها بفعل الحرائق .الناس هنا مشدوهون وحائرون من جراء ما وقع . لم يستوعبوا هول الكارثة بعد. وهنا على امتداد البصر في هذا الفضاء اللامتناهي كان كل شيء أسود : الحقول الممتدة ، أشجار الغابات ، أشجار التين ، والمنازل المنهارة . أخذت تصريحات السكان وانصرفت . تابعنا الرحلة .السواد يلفنا من كلا جانبي الطريق كأننا نجتاز الجحيم فوق الصراط المستقيم. في منطقة تيفير ، استوقفنا مواطنا وحكى لنا عن منزله المحترق والضرر الذي لحق بأسرته . هنا أيضا النيران أتت على غابات «البينيا» وأشجار الزيتون. سجلت تصريحه وتابعنا المسير . في منطقة ً الحرارة ً المكناة على ميزان الحرارة الموجود بها، صادفنا سوقا صغيرا يضم بعض بائعي الخضر وبعض المتسوقين . مظاهر الأزمة هنا واضحة وجلية سواء من خلال الباعة أو من خلال المتسوقين. انعطفنا جانبا على يسار الطريق وتابعنا السير في اتجاه منطقة العزيب السفلي ثم العزيب الفوقي في طريق قيد التعبيد في مراحلها الأولى . بعد مسيرة ربع ساعة تقريبا انعطفنا على اليسار في طريق غير معبدة وصعبة التضاريس في اتجاه منطقة العزيب السفلي ثم العزيب الفوقي الذي اندلعت منه شرارة النيران الأولى . العزيب الفوقي منطقة جبلية من الصعوبة الوصول اليها لأنها في قمة الجبل وهي تشرف على مداشر المنطقة كلها، سواء من جانب اليمين على مداشر جماعة بوجديان أو من اليسار على مداشر جماعة تطفت . واصلنا الطريق بصعوبة كأننا نتسلق الجبال، وبعد حوالي ساعة وصلنا إلى مجموعة مدارس العزيب السفلي المتواجدة بسفح الجبل . مكثنا هناك مدة واستحال علينا الوصول إلى قمة الجبل. فكرت في وسيلة أخرى لأخذ تصريحات السكان . مدني واحد من أبناء المنطقة برقم هاتف مواطن يسكن هناك واتصلت به عبر الهاتف . وبعد شرح الغرض من المكالمة مدني بتصريح سجلت أهم نقطه وانطلقت أصور قمة الجبل المحروقة: من هذه القمة اندلعت النيران وحملتها رياح الشركي إلى باقي المناطق المجاورة لتشهد المنطقة كارثة بيئية ربما لم يشهدها المغرب في تاريخ كوارثه الطبيعية. بداية الفاجعة يحكي لنا جمال وهو من سكان مدشر العزيب الفوقي أن ألسنة اللهب انطلقت من هذه المنطقة الصعبة المتواجدة في قمة الجبل في العزيب الفوقي حوالي التاسعة صباحا من يوم الجمعة 10 غشت الماضية: في البداية اشتعلت الشرارة الأولى في منطقة ً الراندا ً ثم انتقلت الى العزيب الفوقي وعندما انقلبت الريح غربية، اتجهت النيران إلى المناطق الأخرى في مداشر تيفير والصف ودلم الغميق وصخرة القط فالمصفار على مساحة غابوية شاسعة ذات قيمة ايكولوجية عالية تقدر بآلاف الهكتارات كانت تستغل من طرف تعاونيات تشتغل في تربية النحل وإنتاج العسل، إضافة إلى الزيتون وتربية الأرانب في إطار المشاريع المدرة للدخل التي عرفتها جماعة بوجديان في فترة تسييرها الذهبية مع شباب كان لهم الحماس الكافي لخلق مثل هذه المبادرات التي عمت بالخير على المنطقة. جمال أيضا أكد أن الخسائر كانت فادحة في العزيب الفوقي حيث النيران أتت على منزلين و22 من الأغنام وست بقرات وبهيمتين، ناهيك عن الخسارة الفادحة في أشجار الزيتون وأشجار الفرشي والبلوط إضافة إلى صناديق النحل للتعاونيات الموجودة بالمنطقة والمقدرة بالمئات. النيران هنا حسب أبناء المنطقة كانت تدور مثل ًالعجاجة ًوبسرعة كبيرة فاقت المائة كيلومتر في الساعة بكثير وكادت أن تعصف بمجموعة مدارس العزيب السفلي المتواجدة بسفح الجبل لولا الألطاف الإلهية . وعلى الرغم من تدخل أربع طائرات لإخماد الحريق بالمنطقة ومجهودات رجال الوقاية المدنية والقوات العمومية المختلفة، إلا أن النيران كانت قوية أكثر من كل شيء وزادت من قوتها الحرارة المفرطة في ذلك اليوم وهبوب رياح الشركي، وكذلك قابلية العشب الغابوي اليابس للاحتراق بسرعة في مثل هذا المناخ وغياب المسالك الطرقية . النيران أيضا أتت على معدات جلب المياه عبر الأنابيب البلاستيكية ً التيو ً وخلفت خسائر كبيرة في الحيوانات التي تعيش في الغابة خاصة الذئاب «والحلوف»، حيث لم يعد يسمع أي عواء للذئاب بعد أن كانت تشغل الناس ابتداء من أوائل المساء بعد العصر بقليل .الأمر نفسه ينسحب على الكلاب والدجاج والأرانب والحمير وباقي الحيوانات الأخرى . انها كارثة حقيقية لم تشهدها المنطقة منذ أن وجدت تمتد على مساحات شاسعة تقدر بآلاف الهكتارات. المطالبة بالتعويض من خلال التصريحات التي استقيناها من الأمكنة التي زرناها في مختلف المداشر المنكوبة، سجلنا تدمير العشرات من المنازل كليا أو جزئيا خاصة في مدشر صف تراولة ودار العطار والعزيب الفوقي وتيفير وبني صفار ، وكذلك تدمير المحاصيل الزراعية وإحراق صناديق تربية النحل، إضافة إلى ضياع الآلاف من أشجار الزيتون والتين والفواكه المختلفة والعشرات من الأبقار والمواشي والحيوانات الأليفة كالدجاج والكلاب والحمير. وفي هذا الصدد صرح محمد الساطع من مدشر صف تراولة أن ألسنة اللهب قضت على أزيد من 600 شجرة زيتون من مزرعته، والأمر نفسه مع محمد الرحالي من الدوار عينه والذي التهمت ألسنة اللهب 600 شجرة من الزيتون و 20 شجرة من التين، بينما فاطمة الساطع أكدت أن النيران أتت على محاصيل فلاحتها ولم تعد تتوفر على أي شيء في المنزل باستثناء بقرتها المحروقة من ثديها، مشيرة الى أن المحسنين هم الذين أطعموها في تلك الأيام في الوقت الذي شدد فيه عبد الهادي مسيعيد من مدشر بني صفار على فقدانه لبقرتين وبغلتين و900 شجرة من الزيتون و 140 صندوقا من النحل، ناهيك عن محاصيل فلاحته مشيرا الى إتلاف الأنبوب البلاستيكي لجلب المياه الى منزله بشكل كامل وكذلك الأمر مع باقي ساكنة هذا الدوار سواء في مدشر صف تراولة أو المداشر المنكوبة الأخرى في تيفير والعزيب الفوقي وباقي المناطق المتضررة. أما أحمد الريفي فقد أحرق منزله بالكامل وكذلك الأمر نفسه مع نائب مدشر العطار الذي هاجر الى المدينة بسبب ضياع منزله. الساكنة أيضا لم تستسغ تجاهل السلطات لها ومساعدتها في هذه المحنة العصيبة التي تجتازها حسب ما صرحوا به للجريدة وأوضحوا أن صهريج الماء الذي أرسلته السلطات الى مدشر صف تراولة سرعان ما استحوذ عليه مقدم المدشر وفر به الى منزله. وفي هذا الصدد طالبوا الحكومة بمساعدتهم وتعويض الضرر الذي لحق بهم من جراء هذه النكبة التي أصابتهم وعدم تركهم للمجهول الذي يحدق بهم، خصوصا وأن العشرات منهم رحلوا إلى المدن المجاورة عند عائلاتهم أو في المداشر المجاورة لهم بعد أن فقدوا مصدر عيشهم وهم مهددون بالتسول في أي لحظة. فهل ستتحرك الحكومة لإنقاذ الوضع في المنطقة ؟ وهل سيسرع رئيسها في إيجاد بدائل لهذا الدمار الذي لحق بها ؟ السلطات تفتح تحقيقا من خلال الجولة التي قمنا بها في المنطقة، علمنا من السكان أن الدرك الملكي بالعرائش استدعى يوم الأحد المنصرم 15 شخصا، خمسة منهم يعملون بوصفهم حراسا للغابة والباقي مواطنون من العزيب الفوقي .وبعد بحث مطول معهم الى حدود ساعة متأخرة من الليل أخلي سبيلهم وعادوا الى مداشرهم ليظل التحقيق مفتوحا حتى الآن . وفي انتظار تشكيل لجنة لتقصي الحقائق يبقى على الحكومة واجب الاحتياط لمثل هذه الأحداث، خصوصا وأنها ليست المرة الأولى في تاريخ المنطقة ولكن تبقى أخطرها وأشدها تدميرا. كما أن عليها الاستعداد المبكر وتوفير الإمكانيات اللوجيستيكية والموارد البشرية الكافية للتقليل من هذه الكوارث المفاجئة، وللحفاظ على هذه الثروة الايكولوجية الهامة التي تدر مداخيل مهمة على الاقتصاد الفلاحي والاقتصاد التعاوني الوطنيين.
