« إن الهروب من الموت موت ، وطلب الموت حياة» عبدالرحمان الكواكبي — الموت موضوعة متجذرة في الأدب، واضحة منذ بداياته وحتى يومنا هذا، ولم تتخلص رواية أو مجموعة قصصية أو شعرية من فكرة الموت أشكاله وتمثّلاته، والمؤديات التي أنتجت تلك الأشكال الموتية، ولم يقتصر فيه على الموت المادي الفيزيقي، إنما شملت الدراسة مظاهر الموت الرمزي والمعنوي كذلك. واستثمرته بطرق مختلفة وقدمته على أطباق مختلفة. وعطفا على ما سبق ، تحضر الموت كسؤال مركزي وتيمة مهيمنةوطاغية في نصوص المجموعة القصصية « الموتى لا يعودون 1» للبشير الأزمي ، فقد وردت لفظة الموت ومرادفاتها بشكل مباشر أشار الكاتب إليها في مواضع مختلفة طوال المحكى القصصي مثل : الموت / القبور / حفرة / النعش / الجنازة /غياب / الموتى / النعي / النقالة / المستودع … الخ ، كما تتمظهر في «النصوص المصاحبة» بتعبير جيرار جينيت كالعنوان «الموتى لا يعودون « ، وكذا عناوين النصوص القصصية الداخلية «موت ، أوراق ميت ، حادثة ، فواجع وأصلاف ، قبر من أجر وإسمنت ، عودة الموتى ، أموات بيننا « . وعليه ، إن تيمة الموت في هذه المجموعة القصصية لا تطفو على سطح النص ، بل تشكل جزءا من بنيته الموضوعاتية ، وتحضر في كل النصوص بطرائق فنية تتسم بالتجديد، وعصيان التقليدي والنمطي، بغاية جذب القارئ وإمتاعه . في قصته « لذة الغموض « ، يورطنا الراوي إيجابيا في أجواء السرد العجائبي التي يلجأ إليها في توظيف الموت ، يقول السارد « لا ، لم أمت بعد ، ما زلت على قيد الحياة ،أراكم كلكم لكن لا أستطيع الحديث إليكم ، لا قدرة لي على الحديث ، لا قدرة لي على إغماض عيني وفتحهما « ص 20. يتأكد لنا أن هذا المقطع لم يرد لذاته فقط، فقد جاء في خدمة الأهداف والغايات التي سطرها القاص، إذ يحدث الموت ويوجد على طول المدونة القصصية ، وأنه لا يسلب الحياة بل يعطي معنى للحياة ، في القصص التي تكتبه . وتتوالى عجائبية المتن الحكائي، وتغوص في لجة الواقع الملطخ وبالمفارقات ، التي تجسدها الصورتين المتناقضتين للفقيه» العربي» ، صورة الوقار « يجلس القرفصاء ، ويبدأ تلاوة القرآن « ص 20 ، ثم الصورة « التي يكون عليها كل مساء ونحن جالسون تحت سقيفة دكاكين الحي ، رائحة الخلاعة تنبعث من فمه وهو يروي قصصا وغامرات من مراحل شبابه « ص 20 ، مما يضعنا أمام مشهد يتداخل فيه الديني بالاجتماعي لتخليق بناء عجائبي ، لكنه رديف للواقع نفسه الذي يحبل باللامعقول، والنفاق الاجتماعي . في قصة « أوراق ميت «، يكشف لنا الراوي عن المعاناة التي يعاني منها القطاع الصحي من مضاعفات مرتبطة بغياب الضمير المهني يقول السارد : « لم يأت الطبيب المشرف على معالجتي هذا الصباح ، الممرضات أغلبهن نائمات ،في القاعة المجاورة لقاعة الاستعجالات « ص 26، بعد ذلك نلفي أنفسنا أمام الاستهتار بأرواح الطفولة « طفل في مثل عمري فارق الحياةأمس ،كانت حالته الصحية قد تحسنت هذا ماسجله الطبيب المعالج ، سرت إشاعات وإشاعات ، خطأ وأخطاء ، ممرضة وممرضات وقيل لوالديه قد انتهى أجله « ص 27، وفي نقس السياق نقرأ من قصة « حادثة « : « حضر رجال الإسعاف ، حملوني فوق النقالة ، وبقوة أدخلوني إلى سيارة الإسعاف ، جلس الممرضان إلى جانبي ، قال الذي على جانبي :» لم يجد وقتا للموت إلا وقت تناول وجبة الغذاء ، ابن الزانية» ص33. إنه تصوير لراهن الواقع الذي يترصد به شبح الموت من كل حدب وصوب ، وحتى النباتات الزهرية لم تنج من جبروته وقواته كما الإنسان :» انظر إلى المزهرية، زهرتان سامقتان تتعانقان ، تذبلان، تفوح من عناقهما روائح الموات «ص 52 وفي قصة « فواجع وأصلاف « ينفتح الموت الرمزي عديدة منها موت الأحلام « حدثتني عن أحلامك المجهضة « صص54، عن سقوط الذات» صورتك وقرت في قلبي وأدمته ، وقعت أرضا « ص55.ثم يأتي موت الإنسان الذي يرمز إلى تحول الوعي ، واكتساب رؤى جديدة :» أترى هؤلاء العابرين؟» قالها وانتظر أن أجيبه ، لما لم يسمع مني ردا ازداد اقترابا مني وقال :» هؤلاء كلهم أموات ، رغم أنك تراهم يمشون ويتحدثون بعضهم إلى بعض « ص 76 إنه الموت الذي يسكن كل مساحات المتن القصصي ، يتطرق إليه القاص كهاجس، وكنافذة يطل -عبرها على واقع بشع من جهة ، وكرافد جمالي من جهة أخرى في الكتابة ، إذ يضفي عليها أبعادا درامية ، حيث يطرح أسئلة عديدة حول جدلية الحياة والموت ، الوجود والعدم ، والبحث عن المصير . وما أن ننهي ميتات الأنا الساردة حتى نجد أنفسنا أمام أمكنة الموت التي تحتل حيزاً واسعاً في قصص المجموعة ، ومكونا أساسيا يشكل مسرحا لأحداثها وشخصياتها ، ومن أبرز هذه الأماكن : المغسل ، المحمل ، القبر ، مستودع الأموات ، النقالة ، سيارة الإسعاف ، الصندوق ، حفرة ،النعش ،المقبرة» . يقول السارد : هاهم يضعون شخصا في المحمل ، إنه أنا « ص 21 حضر رجل الإسعاف ، حملوني فوق النقالة « ص 33 في قبر وضعوني ، أصوات مشيعي وهي تتلو القرآن تصلني « ص 21 أمكنة مغلقة ذات مساحات محددة ، حينا متحركة « سيارة الإسعاف» ، وحينا آخر ثابتة» القبر»على سبيل المثال ، بيد أنه تجتمع في أنها أمكنة للعبور إلى العالم الآخر ، كما تشكل والشخصيات لوحة تراجيدية متكاملة ، تحتفي بالموت هربا من الضغوط النفسية . ولم يغفل الكاتب الحديث عن الفوارق المتنوعة بين القبور التي هي فوارق اجتماعية « حدثتني عن أحلامك وآمالك … عن الموت وتفاوت القبور « ص57. هكذا يتمظهر الموت بحضوره الطاغي في قصص « الموتى لا يعودون» ، وبأشكال عديدة منها موت الإنسان ، موت النباتات ، موت المكان ، مما يعني أن البشير الأزمي كان أكثر قدرة على مواجهته وأكثر « تأملا في الوجود والعدم، يتنبط الأشياء ،يتغلغل فيها بحثا عن حقيقتها ، يتبعها وهي في أو حركتها وديمومتها ، إنه يكسر الحاضر الآني منطلقا إلى الآتي 2» يبقى أن نذكر أن لغة البشير الأزمي في هذه المدونة القصصية ، لغة موحية ومعبرة ، ارتبطت بالموت ، وبعالم متشظي قائم على الاختلاف ، لأن طبيعة الحكي هو تجميع التبعثر، وتنضيد التناقضات وإعادة إخراج تشكيل الأحداث المبعثرة. وتأتي الخلاصة، بأن القاص البشير الأزمي سعى في أن يكون كتابه القصصي الذي اختار له من العناوين « الموتى لا يعودون «، حياة في الموت ، وموتا في الحياة ، وبقدرة فنية عالية ، لأن الموت من القضايا الحساسة والأساسية في حياة الإنسان، ولقد جسدت القصص كل هذا، بانزياحها على المألوف ضمن سيرورة دينامية تستقي أهميتها من تيمة الموت ، بحثا عن الذي ينبغي أن يكون ، وضدا في هذا الكائن الذي لم يعد مستساغا . —- إحالات : البشير الأزمي ، الموتى لا يعودون ، مطبعة الخليج العربي ، ط1، 2024 عبدالناصر هلال ، تراجيديا الموت في الشعر العربي المعاصر ، مركز الحضارة العربية ، القاهرة، مصر ، ط1، 2025، ص 87