راكم القاص المغربي عبد الهادي الفحيلي القصصي، طوال قرابة عشرين سنة، مشروعا قصصيا يتألف من ثلاث مجموعات هي: 'شجرة الحكاية' (2008) و'مثل تفاحة مقضومة' (2015) و'دخان الملائكة' (2025) وعشرات النصوص المبثوثة في صفحات الجرائد والمواقع الوطنية والعربية. وهذا المشروع، وإن كان محصورا مقارنة مع نتاج أبناء جيله، فهو يفرض نفسه بقوة في الساحة الأدبية المغربية، إذ يقدّم مساحة نقدية خصبة تسمح باستكشاف الأبعاد الاجتماعية والثقافية العميقة المتوارية خلف السرد في تجربته. في هذه القراءة، أنطلق مما يمكن تسميته ب'سردية الطفولة'، التي تتخذ الطفولة موضوعا وآلية سرد في الآن، مع الاغتراف من مفاهيم النقد الثقافي الذي يعنى بتفكيك الهامش وكشف المسكوت عنه وتحليل بنى السلطة والقيم الثقافية في النصوص الأدبية. بهذا الاختيار، سنجد أن الفحيلي لا يكتفي بسرد القصص للأطفال أو حول الأطفال، بل يجعل من الطفولة منطلقا سرديا، ليشرح الواقع الاجتماعي والثقافي في مدينته/ بلده، ويطرح قيمه المختلفة على مشرحة القصة بمشرط حاد لا يرحم البثور والتقرحات. كما يسلط الضوء على قضايا التهميش، والقهر بمختلف أشكاله، والاضطراب النفسي، دون أن يتقيد بحدود خاصة تلزمه ضرورة بالزمان والمكان- رغم أن القصص ترتبط بأحياء القصدير في زمن معين- أو تحول دون أن يعانق التجربة الإنسانية بآفاقها الواسعة. في ما سيلي، سأتوقف من خلال تيمات معينة عند بعض أبعاد هذا التوجه التعبيري في تجربة الفحيلي. تعرية الطبقات يعد اهتمام الفحيلي، من ناحية أولى، بالشخصيات الهامشية والمكبوتة قاسما مشتركا في أعماله كلها، إذ بمقدور الناقد هنا أن يجمل هذا الاهتمام في العنوان التالي: رصد واقع حياة القسوة في أحياء المجتمع الخلفية (أحياء القصدير خصوصا). غالبا ما تسلط قصصه الضوء على الفقر، والقهر المادي، والكبت الجنسي، والحرمان، والصراعات الأسرية، الخ. بل أكاد أقول، ببساطة متناهية، إن هذا الاختيار ليس مجرد ميل أدبي، بل هو تعرية لطبقات مجتمعية غالبا ما تقصيها السرديات الرسمية/ النخبوية/ العالمة وتهمشها. يكشف المتن القصصي الذي تكونه تجربة الفحيلي عن مختلف السلط القهرية التي تمارس على هذه الفئات الاجتماعية، سواء كانت مادية سياسية واقتصادية، أو حتى اجتماعية أو ثقافية- دينية، رمزية، الخ. وفي كشفه طبيعة هذه السلط، وتصويره ما ينتج عنها من حرمان ومعاناة وألم، تصير الكتابة/ القصة شكلا من أشكال مقاومة الصمت والتجاهل والقهر والحرمان؛ ومن ثمة، فهي ترفض هذه السلط برمتها وتندد بها. هكذا، تغدو الكتابة فعلا يروم إنتاج سرديات مضادة، إن لم نقل إنه يساهم في هدم النسق الثقافي السائد الذي يفضل التستر على جوانب الواقع المظلمة هذه. مثلا، في قصة 'أمي والرائحة وجدتي' (الواردة في مجموعة 'دخان الملائكة')، يقدم الفحيلي مقارنة حادة بين عالمين ثقافيين متباينين: عالم الفقر والحرمان المتمثل في أسرة السارد الطفل، وعالم 'الآخرين' (الجيران) الذين ينعمون بالوفرة. لا ترصد هذه المقارنة الاختلافات المادية فحسب، بل تفضح القيم المرتبطة بالاستهلاك المفرط، واللذة، والتهتك، وحتى مفهوم 'الحلال والحرام'. يبرز النص كيف تتغلغل المفاهيم الدينية («ليس فيه بركة،» «ليسمح لي الله») لتبرير الفقر أو لوم الأغنياء، بينما يظل الطفل أسير رغبته في التذوق والتمتع. تكشف هذه المقارنة عن 'ثقافة الفقر' التي تشكل المفاهيم والأحكام الأخلاقية وتهيكلها بوصفها آلية لتبرير الواقع المعيش والتكيف مع نتائجه الحتمية المختلفة. الهروب الى الحلم كما يعد توظيف الفحيلي فضاء الحلم والغرائبية والعجائبية في نصوصه، لا سيما في المجموعتين الأخيرتين، وسيلة أخرى لكشف المكبوتات الثقافية والنفسية. صحيح أن الحلم يمثل هروبا من تصوير الواقع وإضمارا للأحكام والمواقف النقدية حتى لا تقع القصة في التقرير والمباشرة. لكنه يمثل مساحة تخييلية تسمح بتفجير الرغبات المحرمة والأهواء المسكوت عنها، والتعبير عن الصراعات الداخلية التي يعيشها كل إنسان. كما يسمح استخدام الحلم البعد اللاواقعي بتجاوز الرقابة الاجتماعية والثقافية التي تفرضها الأعراف والتقاليد، بل بخرقها وتجاوزها، مما يتيح للشخصيات؛ ومن ثمة للقارئ، استكشاف عوالم نفسية وثقافية محظورة أو مكبوتة. فعلى سبيل المثال، ينطوي عنوان 'التفاحة المقضومة' نفسه على دلالات ثقافية عميقة تحيل إلى الخطيئة الأولى، كلنها تشير أيضا إلى الإغراء، والمنع، والمكبوت الجسدي، وهي دلالات متجذرة في الوعي الجمعي الديني والثقافي، وحتى الأسطوري كذلك. وهي تتعدى دلالتها الحرفية المباشرة، لتعكس صراعا ثقافيا أوسع حول الجسد والحرية. إليكم مثالا آخر من قصة 'سيرة بيضة' (الواردة في مجموعة 'دخان الملائكة'). ثمة تشابك بين 'الصيام'، بما هو فرض ديني، وواقع الحرمان المادي والرغبة الشديدة في البيضة الكاملة وربع لتر الحليب. هذا الحرمان هو ما يدفع الطفل إلى أن يصوم يوم انتصاف رمضان. تبرز هذه القصة كيف يستخدم المجتمع المفاهيم الدينية («الله يحب الأطفال الصائمين»، «الملائكة قريبة منا») بما هي آلية لضبط سلوك الطفل وتقديم وعود بمكافآت مستقبلية؛ ومن ثمة، إخضاعه لهذه المفاهيم وقولبته ضمن قالبها منذ الطفولة. في المقابل، يكشف الواقع عن قسوة الحرمان ومرارة المفاضلة في توزيع الموارد (ثلاث بيضات مقسومة على ستة أفراد، إذ يُعْطَى الأب والأخ الأكبر بيضتان كاملتان، بينما تقتسم الأم وباقي أبنائها بيضة واحدة). كما تسلط القصة الضوء على سلطة الأب والأخ الأكبر وقهرهما الذي يمارسانه داخل الأسرة، ما يعكس بنى سلطة الأب- ومن ثمة، سلطة الذكورة- بوصفها بنى متجذرة ثقافيا واجتماعيا، ومكرسة سياسيا واقتصاديا. هكذا، يصير هروب الطفل إلى الوهم والحلم آلية دفاع نفسية وثقافية ضد قسوة الواقع. الشرعية التجريبية ويتسم أسلوب الفحيلي القصصي، من ناحية ثالثة، بنزعة تجريبية واضحة، تتجلى في كسر البنى السردية التقليدية والاعتماد على لغة إيحائية مكثفة ثرة بالرموز. في الظاهر، يبدو كأنه يسير في هذا المنحى على خطى أدباء سابقين أمثال محمد زفزاف ومحمد شكري وإدريس الخوري، أو لاحقين مثل سعيد منتسب. لكنه مستقل عنهم، إذ يرسم لنفسه، في العمق، مسارا فنيا وجماليا، وحتى مضمونيا، خاصا به. هذه النزعة في تجربة الفحيلي، وإن كانت نابعة من تجربة ذاتية، فهي انعكاس لموقف ثقافي عميق تجاه الواقع والذات، إن لم نقل إنه فعل ثقافي متجذر بامتياز. ففي سياق مغربي شهد صراعات مريرة، وآخر عربي شهد هزائم وإحباطات متتالية، وانهيار العديد من القيم والمعايير، دفع بالكتاب إلى الثورة على الجماليات الفنية التقليدية، يحاول الفحيلي- ضمن هذين السياقين المتأزمين- أن يكسر البنية السردية المألوفة، ويعتمد على لغة مكثفة وإيحائية، متجاوزا بذلك السرد التقليدي المباشر ليعمق الغوص في الوعي واللاوعي الجمعي والفردي معا. لا غرو إذا أن يكون هذا التجريب، في حد ذاته، فعلا أدبيا وثقافيا بامتياز، لأنه يعيد تشكيل الوعي الجمالي، ويسائل طرق تمثيل الواقع، ويدعو القارئ إلى المشاركة الفعالة في بناء المعنى، بدل أن يمتفي بتلقيه بشكل بارد أو سلبي. ويمكن قراءة هذا التجريب بوصفه مقاومة للجمود الفني والفكري في التجربة الإبداعية، بما يمثله ذلك من دعوة إلى تجديد الرؤى الثقافية لمواكبة التعقيدات النفسية والاجتماعية، واستحضارها في الكتابة الإبداعية عموما. المفارقة الاجتماعية فضلا عن هذا، ينطوي هذا المشروع القصصي على ثيمات أخرى، لعل أبرزها الصراع الطبقي. غالبا ما نصادف في قصص الفحيلي هذه المفارقة الاجتماعية التي تجسدها كلمتا 'ماما' و'مي' مثلا. فعلى سبيل المثال، تجسد قصة 'سلم على ماما' (الواردة ضمن مجموعة 'دخان الملائكة') أزمة الهوية الثقافية والصراع الطبقي بوضوح. يحتار الطفل هل ينادي أمه ب'ماما' أو 'مي'. تربط الأم كلمة 'ماما' ب'الناس المهمين'، بينما يربطها الأب ب'النعيوات' ويفضل بديلها الشعبي 'مي'. تكشف القصة، عبر هذا الصراع بين الأم والأب حول الكلمة، عن توتر بين مفهوم الهوية الحداثي والموروث الشعبي. وفي الآن ذاته، تبرز قهر المرأة وسلطة الرجل المطلقة في البيت ورقابة المجتمع (الكل ينادي الطفل ب'ابن القرطاسة')، حيث تمنع من الطبخ أو الخروج وحدها. في حين، تقوم هلوسات الطفل بتمزيق وجه الأم وتركيب حنجرة بائع القطران مقام المتمرد الراغب في تجاوز تصورات المجتمع ومنظوراته العتيقة نحو جمال أمه، لكنها تعبر عن ضغوط الأجيال الجديدة النفسية والاجتماعية الهائلة الناتجة عن هذه الصراعات الثقافية المكبوتة. من جانب آخر، يسائل هذا المشروع القصصي قضايا إنسانية مختلفة، مثل الخرافة والموت والوعي الجمعي، نجدها مجتمعة أحيانا في نص واحد، مثل قصة 'لا يموت' ('دخان الملائكة'). في هذه القصة، يعكس الوعي الجمعي ثقافة الموت والخرافات المرتبطة بها. يسقط الطفل مفهوم الموت على 'الآخرين'، بينما يعتقد أن الأب 'لا يموت'. يربط النص أسباب الوفاة بالخرافات: ركلة بقرة، غضب الله، سخط الأم، إصابة بمرض، لعنة سرقة، ضربة جني، وما شابه ذلك. لكن الموت لا يصيب الأشرار، وإنما الأخيار الطيبين، حتى وإن كانوا 'لصوصا'. أمام هذه المفارقة التي تستعصي على التفكير العقلاني، ينتصب الأب متحصنا من الموت، يظهر بشخصيته القوية التي لا تقهر الموت فحسب، بل حتى عالم الطفل المتضتضع أصلا. هكذا تعكس صور الموت، التي تقدمها هذه القصة، غلبة التفكير الغيبي على التفسير العقلاني في ثقافة المجتمع. كما تعري بنى التفكير المجتمعي القائمة على الخوف من المجهول وتفسير الظواهر الحياتية بناء على الخرافة، بعيدا عن مبادئ العلم وأسسه ونتائجه. رمزية الدخان وأخيرا، لا بد من الوقوف عند بعد رمزية العنوان، لا سيما ما يحيط بها من تكثيف لغوي. تحتاج هاتان الكلمتان (دخان/ الملائكة) إلى دراسة عميقة. أكتفي هنا بالإشارة، باختصار شديد، إلى التضاد المكثف الكامن في هذا العنوان. غالبا ما يؤوَّل 'الدخان' بوصفه احتراقا، أو تلاشيا، أو غموضا، بينما تحيل 'الملائكة' إلى الطهرانية والصفاء والعالم العلوي النقي، الخ. لا شك أن القاص عبد الفحيلي يريد، من خلال هذا المزج الخلاق بين 'الدخان' وعالم 'الملائكة' العلوي، الإشارة إلى تناقضات عالمنا الراهن الذي تبخرت فيه القيم النبيلة، عالم تلوث البراءة، أو حتى التباس المفاهيم الروحية في واقع مادي قاس، وعالم القتل والإبادة والتجويع باسم الحضارة والدين والأخلاق، الخ. أضف إلى هذا أن لغة الفحيلي في 'دخان الملائكة'، كما في أعماله السابقة، هي لغة واحدة تكاد تكون ثابتة، لم يمسسها أي تغيير. فهي تتميز بالتكثيف والاقتضاب الشديد، وبتجنب الحشو والوصف الزائد. تمثل هذه السمة خيارا جماليا في تجربته القصصية. ترفض كتابته الإطالة التي قد تطمس المعنى، والإسهاب الذي يحول القضايا المطروحة إلى نصوص مملة في القراءة. تُفَصِّح الدارج لتوليد معاني جديدة، أو لإضافة معنى ما إلى المعاني القائمة. يصيِّر التكثيف اللغة القصصية رشيقة، حتى إنها تقترب أحيانا من إيقاع الشعر، إذ تجبر القارئ على التوقف والتأمل وإعادة القراءة، وتحفزه على كشف الدلالات المتعددة الكامنة بين الكلمات والسطور. بل تساعده على تجاوز استهلاك النص إلى الانخراط في عملية القراءة وتوليد المعنى. كما أن السخرية اللاذعة التي تتخلل بعض النصوص، خاصة في وصف الشخصيات وأفعالها وأفكارها، تعد أداة نقدية فعالة تساهم في تعرية التناقضات الاجتماعية والثقافية. فضلا عن هذا، يكاد يمثل حضور السارد بصيغة 'الأنا' الطابع الخاص في قصص هذه التجربة. يمكن القول إن تسيد السرد بهذه الصيغة في معظم القصص ربما يكشف اهتمامَ الكاتب بنزعة الذاتية (subjectivity). ففي العالم المعاصر الذي تتلاطم فيه أمواج التغير والتحول، تصبح هذه الذات التي تتحدث عن نفسها، وعن علاقاتها المتأزمة ( كما في قصتي 'ذكرى من لهب' و'شأن ما' الواردتي في 'شجرة الحكاية')، مرآة يسائل فيها الرائي هويته وذاكرته وفكره وموقعه ووجوده في هذا النسق الثقافي المعاصر المعقد. ويعكس هذا التركيز على الذات الفردية، والأسرية أيضا، وهواجسها واستيهاماتها، انتقالا في القصة من الاهتمام بالكلي إلى الجزئي/ الخاص، ومن السرديات الكبرى إلى الحكايات الصغيرة التي قد تحمل في طياتها أسئلة وجودية وثقافية كبرى. انكسار المكبوت ختاما، يمكن القول إن تجربة عبد الهادي الفحيلي القصصية، من خلال مجموعاته الثلاث هذه، ولا سيما 'دخان الملائكة'، تقدم نقدا عميقا وغير مباشر للواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي الراهن، وإن كان لا يطرحه ضمن خطابات نقدية صريحة، إذ يشيد عوالمه القصصية بطريقة سردية تفضي إلى كشف الطبقات الخفية من الواقع الإنساني في مدينته/ بلده، بل يتيح له تجاوز السرد المباشر ليعمق الغوص في آليات تشكل بنى السلطة بمختلف أشكالها. فمن خلال تجريبه السردي، واهتمامه بالهامشي والمهمش، وتوظيفه اللغة الرمزية وفضاءات الحلم، يسائل الفحيلي القيم السائدة، ويعري المكبوت واللامفكر فيه والمسكوت عنه، ويبرز صراعات الفرد في مواجهة سلطات مجتمعية وسياسية متنوعة؛ ويبني من ثمة آليات الوعي بها وفهمها وتفكيكها. كما تمثل أعمال الفحيلي هذه مرآة تعكس انكسارات ثقافية عميقة، وتعلي من صوت المهمش والمقهور في محاولة لفك شفرات الواقع المعقد. هكذا، فهي تقدم صورة مركبة وثرية للواقع الإنساني والاجتماعي، تجعل تجربته القصصية إضافة نوعية للأدب المغربي المعاصر.