أخنوش: إصلاح مناخ الأعمال يثمر إحداث 95 ألف مقاولة في 2024 و81 ألفا إلى متم شتنبر 2025    تعليق الدراسة بإقليم الفقيه بن صالح    اتهام نجل المخرج الأمريكي روب راينر بقتل والديه    "أسود الأطلس" و"النشامى" وجهاً لوجه في نهائي تاريخي لكأس العرب    كأس العرب: نهائي بطابع مغربي خالص بين الأردن والمغرب    الأحمد .. مهاجر سوري يتصدى للإرهاب ويتحوّل إلى بطل في أستراليا    وزارة النقل تهيب بالحذر على الطرق    صرف مساعدات مالية لموظفي الأمن    "الأسود" يتوافدون على "المعمورة"    الثلوج والأمطار تحرك السلطات المحلية في تنغير    الأمن يوقف 23 مشاغبا من فصائل المشجعين في الرباط والدار البيضاء    حزب الاستقلال يعزي في ضحايا فيضانات آسفي ويؤكد تضامنه الكامل مع الساكنة    الصحافي الفرنسي كريستوف غليز يطعن أمام محكمة النقض بحكم الحبس الصادر بحقه في الجزائر    لجنة المعطيات تتبرأ من لوائح الصحافة    الرواية المغربية "في متاهات الأستاذ ف.ن." ضمن القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية 2026    تقرير إخباري: عشرات التحقيقات فُتحت بعد كوارث كبرى... ونتائجها غائبة عن الرأي العام    حكومة أخنوش تراهن على تعبئة العقار الصناعي في وجه المستثمرين لربح رهانات التنمية الترابية    أخنوش: إقرار ميثاق جديد للاستثمار هو إصلاح فارق خلال الولاية الحكومية بعد أكثر من 26 سنة من الانتظارية    تساقطات ثلجية وزخات مطرية قوية وهبات رياح قوية إلى الأربعاء بعدد من مناطق المملكة    المغرب يعبر الإمارات نحو نهائي كأس العرب قطر 2025    اكتفى بتعزية عابرة… أخنوش يمر سريعا على فاجعة آسفي في البرلمان    المؤثرات الأساسية على التخييل في السينما التاريخية    تعاون عربي في إصدار أغنية «روقان» للفنان المغربي محمد الرفاعي    فاس تحتظن الدورة ال13 لأيام التواصل السينمائي    كأس العرب.. السكيتيوي يعلن عن التشكيلة الرسمية لمواجهة الإمارات    تراجع ب5,7% في نفقات المقاصة    دورة ناجحة للجامعة الوطنية للأندية السينمائية بمكناس    انعقاد مجلس للحكومة الخميس المقبل    مركب نباتي يفتح آفاق علاج "الأكزيما العصبية"        التحكم في السكر يقلل خطر الوفاة القلبية    جدل واسع عقب اختيار محمد رمضان لإحياء حفل افتتاح كأس إفريقيا 2025    الدولار يستقر قرب أدنى مستوى له    التامني: آسفي طالها الإهمال والنسيان والفساد لا يسرق المليارات فقط بل أرواح المواطنين    "لارام" تُوسع شبكتها الجوية ب10 وجهات جديدة ابتداء من 2026    إعلام إسرائيل يكشف تفاصيل عن حاخام قتل في هجوم سيدني وعلاقته بحرب غزة    بروكسل توسع عقوبات السفن الروسية    كأس إفريقيا 2025: المغرب يرسخ معايير جديدة بتخصيص ملاعب تداريب حصرية لكل المنتخبات    البابا يحذر أجهزة المخابرات من إساءة استخدام برامج التجسس وتأثيرها على الحريات والديمقراطية    تقرير: ملايين المسلمين في بريطانيا عرضة لخطر سحب الجنسية    "البيجيدي" ينتقد توزيع الدعم على الفلاحين الصغار بمنطق الولاءات السياسية والانتماء الحزبي    أسعار صناعات التحويل تزيد بالمغرب    ترامب يوقع أمراً تنفيذياً جديداً ينظم قواعد الذكاء الاصطناعي    سيول آسفي ترفع حصيلة الضحايا إلى 37 وفاة واستنفار متواصل للسلطات    محطة القطار "الرباط الرياض" تفتتح تأهبا لاستقبال كان المغرب    رافينيا يحسم مستقبله مع برشلونة بقرار مثير: "لن أغادر الفريق قبل التتويج بدوري أبطال أوروبا"    عريضة توقيعات تطالب بالإفراج عن الرابور "PAUSE" وتدق ناقوس الخطر حول حرية الإبداع بالمغرب    بنسليمان تحتضن المعرض الجهوي للكتاب من 17 إلى 22 دجنبر احتفاءً بالقراءة في زمن التحول الرقمي    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الاثنين    طقس عاصف يوقف الدراسة بالمضيق-الفنيدق    استمرار إغلاق مسجد الحسن الثاني بالجديدة بقرار من المندوبية الإقليمية للشؤون الإسلامية وسط دعوات الساكنة عامل الإقليم للتدخل    سلالة إنفلونزا جديدة تثير القلق عالميا والمغرب يرفع درجة اليقظة    المغرب: خبير صحي يحدّر من موسم قاسٍ للإنفلونزا مع انتشار متحوّر جديد عالمياً    "الأنفلونزا الخارقة".. سلالة جديدة تنتشر بسرعة في المغرب بأعراض أشد وتحذيرات صحية    سوريا الكبرى أم إسرائيل الكبرى؟    الرسالة الملكية توحّد العلماء الأفارقة حول احتفاء تاريخي بميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم    تحديد فترة التسجيل الإلكتروني لموسم حج 1448ه    موسم حج 1448ه.. تحديد فترة التسجيل الإلكتروني من 8 إلى 19 دجنبر 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السرد و أنساقه السيميائية
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 07 - 08 - 2025

تنهض رواية ( محنة ابن اللسان ) للأديب جمال بندحمان « 1 « على مستويات عديدة من الإنزياحات المتعلقة بتعاقدات الشكل الروائي ، لذا فهي بالأساس تتطلب متلقيا ب « كفايات إقرائية « خاصة لفك الشفرات التأويلية لهذا العمل الأدبي المندرج فيما يجوز وصفه ب [ استطيقا السرود الثقافية ] .
تنبني هذه الاستراتيجيات الإنزياحية بالدرجة الأولى على الرواكز التالية :
أ – كوننا بصدد [ رواية أفكار ] حيث السرد الحدثي ليس سوى ذريعة بنائية لصوغ تخييل حكائي مضارع لروح ( الرواية الذهنية ) .
ب – كون هذا العمل الأدبي على مستوى البناء السردي اعتمد على محفل [ المحكي الميتاروائي ] و صنعة التضعيف الذاتي بجغل السرد موضوع ميتا – اشتغال ، أي أن الرواية تعرف محايثة متعددة الصيغ لاشتباك السرد بالميتاسرد . « 2 «
ج – اعتماد الرواية في صناعة الشخصية على نمط من « التجريد الرمزي « يختلف عن القياسات التخييلية لمبدأ « تطابقات التشخيص المرجعي « . فالشخصية في الرواية تنزاح عن قاعدة ( الإيهام بالمرجع ) « 3 « من أجل تشخيصية رمزية هي من وجهة سيميائيات الأهواء لدى غريماس تعبيرعن مثالات من الوعي و القيم و الفكر . « 4 «
هذه الرواكز الثلاث تنعقد في اشتغالها حول تدبير ما ينعت في المقاربة السيميائية ب ( وضعيات سردية ) تتمحور دلاليا حول [ بنية الإخفاق ] التي صاغ حولها الناقد الحصيف محمد الداهي أطروحة نقدية بعنوان [ متعة الإخفاق : المشروع التخييلي لعبد الله العروي ] « 5 « ، و هي موضوعة مرتبطة في تأسيسات الفكر الهيجلي ( بانتفاء التطابق بين الواقع و المثال ) « 6 « و أيضا في مفارقات الذاتية الخالصة و المطلق الخالص للكينونة .
ينضاف إلى هذا المستوى من التأويل أن النمذجة الشخوصية المعتمدة ( الراوي باعتباره أنا تخييلية ثانية للكاتب ، و المعلم ، و الصحفي ، و المحامي ، و المتكلم نسبة إلى علم الكلام في دلالته التعيينية و الرمزية ) ، و لكي نعفي القارىء من مشقة كشف الفروق و التمايزات بينها سنحيلها إلى ثلاث مدونات و هي : ( القبيلة و الزاوية و الحزب ) باعتبارها البنيات الثقافية السوسيولوجية و الانتروبولوجية الرمزية التي تتحرك في فضاء الوعي الروائي .
من داخل هذا المناخ التخييلي و على مستوى التشخيص السردي ينطلق الروائي جمال بندحمان – و هو الضليع بمشابك و كمائن المنهج السيميائي و تحليل الخطاب – من تشغيل فاتك تتضافر فيه سيميائيات الخطاب الصوفي و الخطاب الإعلامي و الخطاب السياسي وفق سردنة تحبيكية لتقاطعات اللغة / اللسان بأنماط متعددة من الوعي / الأوعاء . كل ذلك في أفق رسم المناخات الاجتماعية و الوعي الثقافي المصاحب لها على مسار حقبة تاريخية من أول السبعينات إلى اللحظة الراهنة ، مجتلبا إلى ديناميات التخييل الآثار المرجعية للوافع و التاريخ و السيرة في بعديها الأوتوبيوغرافي و البيوغرافي ، و نسجا متعدد الطبقات من نصوص الذاكرة و الأدب و الشعر و الفلسفة و الثقافة الشعبية و الخيال الرمزي و الأساطيري .
لا يمكن قراءة هذه الرواية بمنأى عن التقاطع بين « حاضر السرد « و « أزمنة الذاكرة « فنحن بصدد رواية لا تسمح لنا ب ( قراءة الذات ) خارج الأثر النافذ لمعول الزمن و سطوة قبضته . فالذوات لا تملك تلك الهبة الإكسيرية لاسترجاع الزمن أو وقفه ، فقط ما يمكنها القيام به هو بالذات ما تقوم به الكتابة الروائية في مسعاها كسلطة تقديرية للمراجعة و النقد الذاتي . ذلك رهان الرواية و مرتكز قصديات الكاتب و هو يختبر وعي مرحلة بمجهر التأمل والمراجعة و التصحيح لمعرمة مكامن الخلل و العطب في انبناءات و عينا ، و أشكال الأقدار و المصائر التي تحكمت في وعينا و لا وعينا ،و نسجت البنيات النصية العميقة لثقافتنا المقيدة إلى [ بنية الإخفاق ] .
يقول الصحفي في الفصل الثاني من الرواية : « كلنا نبيع الكلام « و هو ما يقتضي [ إرجاء الحقيقة ] كما ينصص على ذلك المحامي في الفصل الثالث في مرافعاتهالتي يخلط فيها [ خطاب الحقيقة بخطاب الوهم ]. نفس الشيء يفعله الراوي في الرواية ( و هو الممثل للضمير الأدبي ) حين يتكلم الكاتب عن [ مبدأ الرقابة في الحكي / الوعي ] التي تعمل بمنطق [ الإضاءة و التعتيم ] حسب القول المأثور لمحمد برادة في روايته ( لعبة النسيان ) « 7 « .
تبدأ محنة ابن اللسان حين يتخلى عن الحقيقة و تتحول اللعة و الخطابات إلى أجروميات للوهم و الزيف و الترهات و مراكمات الأخطاء ، خضوعا لقهرية سلط القبيلة أو الزاوية أو الحزب ، و حين يتحول الوعي إلى إملاءات و ولاءات ، و حين يخضع الفكر بمقتضى تعبير ميشيل فوكو إلى نظام المراقبة و العقاب .
تجسد الرواية هذا الوضع المفارق الساخر منذ الفصل الرابع ( المتكلمون ) من خلال البحث عن [ توافق ] ص 102 لتنميط مبدأ التعددية وفق قاعدة التراضي و إرجاء مبدأ الإختلاف لصالح ما تصفه الرواية بكونه توافقا .
هكذا يتم التنازل تدريجيا عن ( حلم الراوي ) ص 108 و ( محكي الجرح ) ص 124 و ( حكي التشظي ) ص 131 بكل مكابداتها و تجاريحها و عذابات الكائن في أزمنة العتمة و الأحلام المجهضة لصالح ( محكي التقارير ) ص 136 .. و ذلك من حلال نوع من التسريد يضمن للكاتب صيغة للقول بأن الوعي و الفكر و الثقافة حين تغدو ضحية التنميط و تتخلى عن مبدأ الحرية و الإرادة ، مثلما أن تتخلى عن مبدأ التنسيب لصالح مطلق كلياني شمولي ، فإن سؤال المصير و حلم الدوات بوجود مثالي يصير حلما شبحيا داخل لغة تتكلم لتقول أي شيء و لا شيء .
في مساحة التقاطع بين العام و الخاص و بين الذاتي و الموضوعي و في تشاكلات التلاقي بين السيرة الذاتية و نص الذاكرة و إحالات الواقع و التاريخ و خلال كل الفصول لا يكف الكاتب كلما قربنا من الجوهر الصميمي لذاته الخاصة كلما قلب علينا الطاولة و شردنا في التخوم البعيدة ل [ تعددية بوليفونية ] على مستوى اللغة و الصوت السردي . لا يكف يزاوج داخل الرواية بين لغة الاستبطان كما هو حال روايات تيار اللاوعي و أسلوبية الديالوجيزم الحواري الباختيني ، بكل كرنفاله التخييلي من الأسلبة و المعارضة و الباروديا و المحاكاة الهجائية . إنه بارع في كلتا الصيغتين ، يزيد من ذلك حدة اقتناصه لمبدأ السخرية و استجلابه من المفارقات الساخرة لمشهدة و مسرحة عالم روائي فقد اليقين و صار أشبه بمتاهات و غموص و غرائبية عالم ( المسخ ) أو ( القلعة ) لفرانز كافكا ، مع سيادة عارمة لأجواء العبث و اللامعقول و فقدان المعنى .
أحد مكمن جوانب الخصوصية في هذا العمل الروائي نقف عليه فيما سنسميه ب [ البوليفونية الأجناسية و البوليفونية الخطابية ] ، فعدا كون الرواية استقطبت إلى جماليات التشاكل الأجناسي : القصة القصيرة و الشعر و الخطابة و المقالة و المناظرة و النقد مبرزة عمق الأطروحة الجمالية التي أبان عنها سيرفانتس في « دون كيشوت « من كون أي نشوء روائي لا ينهض إلا على الحوار الدائب بين الرواية و مغايراتها الأجناسية وفق منطق ل ( تجاذبات سلطة الحقيقة و حقيقة السلطة ) « 8 « .. فإن الوجه الآخر هو الظاهر في اعتماد الروائي بنيتي [ النص المفتوح و النص المتراكب ] في تنضيد مستويات الخطاب جاعلا بنيات التجاور و التوازي و التقاطع تنسج لغة سردية يتكلم فيها اللسان : لغة الحوار و الجدل و المرافعة و المناظرة و الشرح و التعليق و التأويل و البيان و الخطابة و هو في هذا المسعى يكشف عن مفارقات « اللغة كوجود و الوجود كلغة « كما يعبر عن ذلك بول ريكور في كتابه ( الذات عينها باعتبارها آخر ) و هو يطارح مفهوم الهوية السردية و سؤال الحقيقة و التأويل . « 9 «
لا يكتب جمال بندحمان الرواية من منظور كونه كان دائما منشغلا بسؤال الأدب و النقد و مقاربة كل أشكال الخطابات و التفكير في سؤال الثقافة و الإبداع . نعم هذا البروفايل قائم و لا غبار عليه و لكن لا ننسى أن رواية « محنة ابن اللسان « في مناشئها المقاصدية هي ترجمة ( بأحد الأشكال ) للوجه الآخر للكاتب الكاشف عن انخراطه في العمل الثقافي و العمل الأدبي [ كموقف و كالتزام و كأطروحة ] ذلك هو الميسم المحدد أيضا لهوية الكاتب و لهوية الرواية بشكل عام . و هذا المستوى من النظر نقف عليه بجلاء في تسخير خطاب السرد داخل الرواية من أجل بيان الأطروحة و الأطروحة النقيض و ذهاب لغة السرد نحو ما يسميه كبيدي فارغا في كتابه ( خطابات ، الحكي ، الصورة ) في القول أن المبدأ التشخيصي للواقع و الحقيقة في الرواية يقوم على الإدراك العميق بأنه ليس هناك واقع مرجعي محدد و مطلق ، بل أقوى ما تقدمه لنا الرواية يرسخ كون تمثلاتنا للواقع تؤكد أن الواقع الذي نتحدث هو في المحصلة ( تجسيد لمستويات متعددة من الواقع و تنضيدا متعدد الاشتغال في الكشف عن صور الواقع ) . « 10 «
في النهاية رواية « محنة ابن اللسان « هي رواية جيل أتى إلى اللغة و الكلام من خرائط متعددة و من تصارعات وعي ثقافي متعدد المرجعيات ، من استلاب الموقف العرفاني إلى استلاب خطاب النضال اليساري و اغترابة في سياسة توافق المصالح و الميل إلى تغليب المصلحة الذاتية على مبدأ الحق و الواجب .جيل حمل إرث ذاكرة معطوبة و كان ضحية قراءات خاطئة للواقع و التاريخ نتيجة تنابذ المواقف و الرؤى و المصالح في علاقته بمنظومة القبيلة و الزاوية و الحزب .
*****
هوامش :
1 – جمال بندحمان « محنة ابن اللسان « أفريقيا الشرق 2024 المغرب .
2 – را : حول الميتاسرد كتاب ( السرد المفتون بذاته : من الكينونة المحضة إلى الوجود المقروء ) للناقد العراقي رسول محمد رسول ، منشورات الشارقة 2015 .
3 – رولان بارت « التحليل البنيوي للسرد « ترجمة منذر عياشي مركز الإنماء الحضاري حلب 1993 .
4 – غريماس و جاك فونتني « سيميائيات الأهواء « ترجمة سعيد بنكراد دار الكتاب الجديد 2010 .
5 – محمد الداهي ّ متعة الإخفاق : المشروع التخييلي لعبد الله العروي « المركز الثقافي للكتاب الدار البيضاء 2022
6 – هيجل « فينومولوجيا الروح « – بالفرنسية – منشورات فلاماريون باريس 2012 .
7 – و قد اعتمدها بعد ذلك في مختلف رواياته و صارت استراتيجية نصانية لتنسيب الصوت و الوعي السردي
8 – ذلك هو عمق الأطروحة النظرية لميخائيل باختين في مختلف كتبه .
9 – بول ريكور « الذات عينها كآخر « ترجمة جورج زيناتي المنظمة العربية للترجمة بيروت 2005 .
10 – كيبيدي فارغا « خطابات ، الحكي ، الصورة « – بالفرنسية – منشورات مارسيل ديديه باريس 1970 .

تنهض رواية ( محنة ابن اللسان ) للأديب جمال بندحمان « 1 « على مستويات عديدة من الإنزياحات المتعلقة بتعاقدات الشكل الروائي ، لذا فهي بالأساس تتطلب متلقيا ب « كفايات إقرائية « خاصة لفك الشفرات التأويلية لهذا العمل الأدبي المندرج فيما يجوز وصفه ب [ استطيقا السرود الثقافية ] .
تنبني هذه الاستراتيجيات الإنزياحية بالدرجة الأولى على الرواكز التالية :
أ – كوننا بصدد [ رواية أفكار ] حيث السرد الحدثي ليس سوى ذريعة بنائية لصوغ تخييل حكائي مضارع لروح ( الرواية الذهنية ) .
ب – كون هذا العمل الأدبي على مستوى البناء السردي اعتمد على محفل [ المحكي الميتاروائي ] و صنعة التضعيف الذاتي بجغل السرد موضوع ميتا – اشتغال ، أي أن الرواية تعرف محايثة متعددة الصيغ لاشتباك السرد بالميتاسرد . « 2 «
ج – اعتماد الرواية في صناعة الشخصية على نمط من « التجريد الرمزي « يختلف عن القياسات التخييلية لمبدأ « تطابقات التشخيص المرجعي « . فالشخصية في الرواية تنزاح عن قاعدة ( الإيهام بالمرجع ) « 3 « من أجل تشخيصية رمزية هي من وجهة سيميائيات الأهواء لدى غريماس تعبيرعن مثالات من الوعي و القيم و الفكر . « 4 «
هذه الرواكز الثلاث تنعقد في اشتغالها حول تدبير ما ينعت في المقاربة السيميائية ب ( وضعيات سردية ) تتمحور دلاليا حول [ بنية الإخفاق ] التي صاغ حولها الناقد الحصيف محمد الداهي أطروحة نقدية بعنوان [ متعة الإخفاق : المشروع التخييلي لعبد الله العروي ] « 5 « ، و هي موضوعة مرتبطة في تأسيسات الفكر الهيجلي ( بانتفاء التطابق بين الواقع و المثال ) « 6 « و أيضا في مفارقات الذاتية الخالصة و المطلق الخالص للكينونة .
ينضاف إلى هذا المستوى من التأويل أن النمذجة الشخوصية المعتمدة ( الراوي باعتباره أنا تخييلية ثانية للكاتب ، و المعلم ، و الصحفي ، و المحامي ، و المتكلم نسبة إلى علم الكلام في دلالته التعيينية و الرمزية ) ، و لكي نعفي القارىء من مشقة كشف الفروق و التمايزات بينها سنحيلها إلى ثلاث مدونات و هي : ( القبيلة و الزاوية و الحزب ) باعتبارها البنيات الثقافية السوسيولوجية و الانتروبولوجية الرمزية التي تتحرك في فضاء الوعي الروائي .
من داخل هذا المناخ التخييلي و على مستوى التشخيص السردي ينطلق الروائي جمال بندحمان – و هو الضليع بمشابك و كمائن المنهج السيميائي و تحليل الخطاب – من تشغيل فاتك تتضافر فيه سيميائيات الخطاب الصوفي و الخطاب الإعلامي و الخطاب السياسي وفق سردنة تحبيكية لتقاطعات اللغة / اللسان بأنماط متعددة من الوعي / الأوعاء . كل ذلك في أفق رسم المناخات الاجتماعية و الوعي الثقافي المصاحب لها على مسار حقبة تاريخية من أول السبعينات إلى اللحظة الراهنة ، مجتلبا إلى ديناميات التخييل الآثار المرجعية للوافع و التاريخ و السيرة في بعديها الأوتوبيوغرافي و البيوغرافي ، و نسجا متعدد الطبقات من نصوص الذاكرة و الأدب و الشعر و الفلسفة و الثقافة الشعبية و الخيال الرمزي و الأساطيري .
لا يمكن قراءة هذه الرواية بمنأى عن التقاطع بين « حاضر السرد « و « أزمنة الذاكرة « فنحن بصدد رواية لا تسمح لنا ب ( قراءة الذات ) خارج الأثر النافذ لمعول الزمن و سطوة قبضته . فالذوات لا تملك تلك الهبة الإكسيرية لاسترجاع الزمن أو وقفه ، فقط ما يمكنها القيام به هو بالذات ما تقوم به الكتابة الروائية في مسعاها كسلطة تقديرية للمراجعة و النقد الذاتي . ذلك رهان الرواية و مرتكز قصديات الكاتب و هو يختبر وعي مرحلة بمجهر التأمل والمراجعة و التصحيح لمعرمة مكامن الخلل و العطب في انبناءات و عينا ، و أشكال الأقدار و المصائر التي تحكمت في وعينا و لا وعينا ،و نسجت البنيات النصية العميقة لثقافتنا المقيدة إلى [ بنية الإخفاق ] .
يقول الصحفي في الفصل الثاني من الرواية : « كلنا نبيع الكلام « و هو ما يقتضي [ إرجاء الحقيقة ] كما ينصص على ذلك المحامي في الفصل الثالث في مرافعاتهالتي يخلط فيها [ خطاب الحقيقة بخطاب الوهم ]. نفس الشيء يفعله الراوي في الرواية ( و هو الممثل للضمير الأدبي ) حين يتكلم الكاتب عن [ مبدأ الرقابة في الحكي / الوعي ] التي تعمل بمنطق [ الإضاءة و التعتيم ] حسب القول المأثور لمحمد برادة في روايته ( لعبة النسيان ) « 7 « .
تبدأ محنة ابن اللسان حين يتخلى عن الحقيقة و تتحول اللعة و الخطابات إلى أجروميات للوهم و الزيف و الترهات و مراكمات الأخطاء ، خضوعا لقهرية سلط القبيلة أو الزاوية أو الحزب ، و حين يتحول الوعي إلى إملاءات و ولاءات ، و حين يخضع الفكر بمقتضى تعبير ميشيل فوكو إلى نظام المراقبة و العقاب .
تجسد الرواية هذا الوضع المفارق الساخر منذ الفصل الرابع ( المتكلمون ) من خلال البحث عن [ توافق ] ص 102 لتنميط مبدأ التعددية وفق قاعدة التراضي و إرجاء مبدأ الإختلاف لصالح ما تصفه الرواية بكونه توافقا .
هكذا يتم التنازل تدريجيا عن ( حلم الراوي ) ص 108 و ( محكي الجرح ) ص 124 و ( حكي التشظي ) ص 131 بكل مكابداتها و تجاريحها و عذابات الكائن في أزمنة العتمة و الأحلام المجهضة لصالح ( محكي التقارير ) ص 136 .. و ذلك من حلال نوع من التسريد يضمن للكاتب صيغة للقول بأن الوعي و الفكر و الثقافة حين تغدو ضحية التنميط و تتخلى عن مبدأ الحرية و الإرادة ، مثلما أن تتخلى عن مبدأ التنسيب لصالح مطلق كلياني شمولي ، فإن سؤال المصير و حلم الدوات بوجود مثالي يصير حلما شبحيا داخل لغة تتكلم لتقول أي شيء و لا شيء .
في مساحة التقاطع بين العام و الخاص و بين الذاتي و الموضوعي و في تشاكلات التلاقي بين السيرة الذاتية و نص الذاكرة و إحالات الواقع و التاريخ و خلال كل الفصول لا يكف الكاتب كلما قربنا من الجوهر الصميمي لذاته الخاصة كلما قلب علينا الطاولة و شردنا في التخوم البعيدة ل [ تعددية بوليفونية ] على مستوى اللغة و الصوت السردي . لا يكف يزاوج داخل الرواية بين لغة الاستبطان كما هو حال روايات تيار اللاوعي و أسلوبية الديالوجيزم الحواري الباختيني ، بكل كرنفاله التخييلي من الأسلبة و المعارضة و الباروديا و المحاكاة الهجائية . إنه بارع في كلتا الصيغتين ، يزيد من ذلك حدة اقتناصه لمبدأ السخرية و استجلابه من المفارقات الساخرة لمشهدة و مسرحة عالم روائي فقد اليقين و صار أشبه بمتاهات و غموص و غرائبية عالم ( المسخ ) أو ( القلعة ) لفرانز كافكا ، مع سيادة عارمة لأجواء العبث و اللامعقول و فقدان المعنى .
أحد مكمن جوانب الخصوصية في هذا العمل الروائي نقف عليه فيما سنسميه ب [ البوليفونية الأجناسية و البوليفونية الخطابية ] ، فعدا كون الرواية استقطبت إلى جماليات التشاكل الأجناسي : القصة القصيرة و الشعر و الخطابة و المقالة و المناظرة و النقد مبرزة عمق الأطروحة الجمالية التي أبان عنها سيرفانتس في « دون كيشوت « من كون أي نشوء روائي لا ينهض إلا على الحوار الدائب بين الرواية و مغايراتها الأجناسية وفق منطق ل ( تجاذبات سلطة الحقيقة و حقيقة السلطة ) « 8 « .. فإن الوجه الآخر هو الظاهر في اعتماد الروائي بنيتي [ النص المفتوح و النص المتراكب ] في تنضيد مستويات الخطاب جاعلا بنيات التجاور و التوازي و التقاطع تنسج لغة سردية يتكلم فيها اللسان : لغة الحوار و الجدل و المرافعة و المناظرة و الشرح و التعليق و التأويل و البيان و الخطابة و هو في هذا المسعى يكشف عن مفارقات « اللغة كوجود و الوجود كلغة « كما يعبر عن ذلك بول ريكور في كتابه ( الذات عينها باعتبارها آخر ) و هو يطارح مفهوم الهوية السردية و سؤال الحقيقة و التأويل . « 9 «
لا يكتب جمال بندحمان الرواية من منظور كونه كان دائما منشغلا بسؤال الأدب و النقد و مقاربة كل أشكال الخطابات و التفكير في سؤال الثقافة و الإبداع . نعم هذا البروفايل قائم و لا غبار عليه و لكن لا ننسى أن رواية « محنة ابن اللسان « في مناشئها المقاصدية هي ترجمة ( بأحد الأشكال ) للوجه الآخر للكاتب الكاشف عن انخراطه في العمل الثقافي و العمل الأدبي [ كموقف و كالتزام و كأطروحة ] ذلك هو الميسم المحدد أيضا لهوية الكاتب و لهوية الرواية بشكل عام . و هذا المستوى من النظر نقف عليه بجلاء في تسخير خطاب السرد داخل الرواية من أجل بيان الأطروحة و الأطروحة النقيض و ذهاب لغة السرد نحو ما يسميه كبيدي فارغا في كتابه ( خطابات ، الحكي ، الصورة ) في القول أن المبدأ التشخيصي للواقع و الحقيقة في الرواية يقوم على الإدراك العميق بأنه ليس هناك واقع مرجعي محدد و مطلق ، بل أقوى ما تقدمه لنا الرواية يرسخ كون تمثلاتنا للواقع تؤكد أن الواقع الذي نتحدث هو في المحصلة ( تجسيد لمستويات متعددة من الواقع و تنضيدا متعدد الاشتغال في الكشف عن صور الواقع ) . « 10 «
في النهاية رواية « محنة ابن اللسان « هي رواية جيل أتى إلى اللغة و الكلام من خرائط متعددة و من تصارعات وعي ثقافي متعدد المرجعيات ، من استلاب الموقف العرفاني إلى استلاب خطاب النضال اليساري و اغترابة في سياسة توافق المصالح و الميل إلى تغليب المصلحة الذاتية على مبدأ الحق و الواجب .جيل حمل إرث ذاكرة معطوبة و كان ضحية قراءات خاطئة للواقع و التاريخ نتيجة تنابذ المواقف و الرؤى و المصالح في علاقته بمنظومة القبيلة و الزاوية و الحزب .
*****
هوامش :
1 – جمال بندحمان « محنة ابن اللسان « أفريقيا الشرق 2024 المغرب .
2 – را : حول الميتاسرد كتاب ( السرد المفتون بذاته : من الكينونة المحضة إلى الوجود المقروء ) للناقد العراقي رسول محمد رسول ، منشورات الشارقة 2015 .
3 – رولان بارت « التحليل البنيوي للسرد « ترجمة منذر عياشي مركز الإنماء الحضاري حلب 1993 .
4 – غريماس و جاك فونتني « سيميائيات الأهواء « ترجمة سعيد بنكراد دار الكتاب الجديد 2010 .
5 – محمد الداهي ّ متعة الإخفاق : المشروع التخييلي لعبد الله العروي « المركز الثقافي للكتاب الدار البيضاء 2022
6 – هيجل « فينومولوجيا الروح « – بالفرنسية – منشورات فلاماريون باريس 2012 .
7 – و قد اعتمدها بعد ذلك في مختلف رواياته و صارت استراتيجية نصانية لتنسيب الصوت و الوعي السردي
8 – ذلك هو عمق الأطروحة النظرية لميخائيل باختين في مختلف كتبه .
9 – بول ريكور « الذات عينها كآخر « ترجمة جورج زيناتي المنظمة العربية للترجمة بيروت 2005 .
10 – كيبيدي فارغا « خطابات ، الحكي ، الصورة « – بالفرنسية – منشورات مارسيل ديديه باريس 1970 .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.