تنهض رواية ( محنة ابن اللسان ) للأديب جمال بندحمان « 1 « على مستويات عديدة من الإنزياحات المتعلقة بتعاقدات الشكل الروائي ، لذا فهي بالأساس تتطلب متلقيا ب « كفايات إقرائية « خاصة لفك الشفرات التأويلية لهذا العمل الأدبي المندرج فيما يجوز وصفه ب [ استطيقا السرود الثقافية ] . تنبني هذه الاستراتيجيات الإنزياحية بالدرجة الأولى على الرواكز التالية : أ – كوننا بصدد [ رواية أفكار ] حيث السرد الحدثي ليس سوى ذريعة بنائية لصوغ تخييل حكائي مضارع لروح ( الرواية الذهنية ) . ب – كون هذا العمل الأدبي على مستوى البناء السردي اعتمد على محفل [ المحكي الميتاروائي ] و صنعة التضعيف الذاتي بجغل السرد موضوع ميتا – اشتغال ، أي أن الرواية تعرف محايثة متعددة الصيغ لاشتباك السرد بالميتاسرد . « 2 « ج – اعتماد الرواية في صناعة الشخصية على نمط من « التجريد الرمزي « يختلف عن القياسات التخييلية لمبدأ « تطابقات التشخيص المرجعي « . فالشخصية في الرواية تنزاح عن قاعدة ( الإيهام بالمرجع ) « 3 « من أجل تشخيصية رمزية هي من وجهة سيميائيات الأهواء لدى غريماس تعبيرعن مثالات من الوعي و القيم و الفكر . « 4 « هذه الرواكز الثلاث تنعقد في اشتغالها حول تدبير ما ينعت في المقاربة السيميائية ب ( وضعيات سردية ) تتمحور دلاليا حول [ بنية الإخفاق ] التي صاغ حولها الناقد الحصيف محمد الداهي أطروحة نقدية بعنوان [ متعة الإخفاق : المشروع التخييلي لعبد الله العروي ] « 5 « ، و هي موضوعة مرتبطة في تأسيسات الفكر الهيجلي ( بانتفاء التطابق بين الواقع و المثال ) « 6 « و أيضا في مفارقات الذاتية الخالصة و المطلق الخالص للكينونة . ينضاف إلى هذا المستوى من التأويل أن النمذجة الشخوصية المعتمدة ( الراوي باعتباره أنا تخييلية ثانية للكاتب ، و المعلم ، و الصحفي ، و المحامي ، و المتكلم نسبة إلى علم الكلام في دلالته التعيينية و الرمزية ) ، و لكي نعفي القارىء من مشقة كشف الفروق و التمايزات بينها سنحيلها إلى ثلاث مدونات و هي : ( القبيلة و الزاوية و الحزب ) باعتبارها البنيات الثقافية السوسيولوجية و الانتروبولوجية الرمزية التي تتحرك في فضاء الوعي الروائي . من داخل هذا المناخ التخييلي و على مستوى التشخيص السردي ينطلق الروائي جمال بندحمان – و هو الضليع بمشابك و كمائن المنهج السيميائي و تحليل الخطاب – من تشغيل فاتك تتضافر فيه سيميائيات الخطاب الصوفي و الخطاب الإعلامي و الخطاب السياسي وفق سردنة تحبيكية لتقاطعات اللغة / اللسان بأنماط متعددة من الوعي / الأوعاء . كل ذلك في أفق رسم المناخات الاجتماعية و الوعي الثقافي المصاحب لها على مسار حقبة تاريخية من أول السبعينات إلى اللحظة الراهنة ، مجتلبا إلى ديناميات التخييل الآثار المرجعية للوافع و التاريخ و السيرة في بعديها الأوتوبيوغرافي و البيوغرافي ، و نسجا متعدد الطبقات من نصوص الذاكرة و الأدب و الشعر و الفلسفة و الثقافة الشعبية و الخيال الرمزي و الأساطيري . لا يمكن قراءة هذه الرواية بمنأى عن التقاطع بين « حاضر السرد « و « أزمنة الذاكرة « فنحن بصدد رواية لا تسمح لنا ب ( قراءة الذات ) خارج الأثر النافذ لمعول الزمن و سطوة قبضته . فالذوات لا تملك تلك الهبة الإكسيرية لاسترجاع الزمن أو وقفه ، فقط ما يمكنها القيام به هو بالذات ما تقوم به الكتابة الروائية في مسعاها كسلطة تقديرية للمراجعة و النقد الذاتي . ذلك رهان الرواية و مرتكز قصديات الكاتب و هو يختبر وعي مرحلة بمجهر التأمل والمراجعة و التصحيح لمعرمة مكامن الخلل و العطب في انبناءات و عينا ، و أشكال الأقدار و المصائر التي تحكمت في وعينا و لا وعينا ،و نسجت البنيات النصية العميقة لثقافتنا المقيدة إلى [ بنية الإخفاق ] . يقول الصحفي في الفصل الثاني من الرواية : « كلنا نبيع الكلام « و هو ما يقتضي [ إرجاء الحقيقة ] كما ينصص على ذلك المحامي في الفصل الثالث في مرافعاتهالتي يخلط فيها [ خطاب الحقيقة بخطاب الوهم ]. نفس الشيء يفعله الراوي في الرواية ( و هو الممثل للضمير الأدبي ) حين يتكلم الكاتب عن [ مبدأ الرقابة في الحكي / الوعي ] التي تعمل بمنطق [ الإضاءة و التعتيم ] حسب القول المأثور لمحمد برادة في روايته ( لعبة النسيان ) « 7 « . تبدأ محنة ابن اللسان حين يتخلى عن الحقيقة و تتحول اللعة و الخطابات إلى أجروميات للوهم و الزيف و الترهات و مراكمات الأخطاء ، خضوعا لقهرية سلط القبيلة أو الزاوية أو الحزب ، و حين يتحول الوعي إلى إملاءات و ولاءات ، و حين يخضع الفكر بمقتضى تعبير ميشيل فوكو إلى نظام المراقبة و العقاب . تجسد الرواية هذا الوضع المفارق الساخر منذ الفصل الرابع ( المتكلمون ) من خلال البحث عن [ توافق ] ص 102 لتنميط مبدأ التعددية وفق قاعدة التراضي و إرجاء مبدأ الإختلاف لصالح ما تصفه الرواية بكونه توافقا . هكذا يتم التنازل تدريجيا عن ( حلم الراوي ) ص 108 و ( محكي الجرح ) ص 124 و ( حكي التشظي ) ص 131 بكل مكابداتها و تجاريحها و عذابات الكائن في أزمنة العتمة و الأحلام المجهضة لصالح ( محكي التقارير ) ص 136 .. و ذلك من حلال نوع من التسريد يضمن للكاتب صيغة للقول بأن الوعي و الفكر و الثقافة حين تغدو ضحية التنميط و تتخلى عن مبدأ الحرية و الإرادة ، مثلما أن تتخلى عن مبدأ التنسيب لصالح مطلق كلياني شمولي ، فإن سؤال المصير و حلم الدوات بوجود مثالي يصير حلما شبحيا داخل لغة تتكلم لتقول أي شيء و لا شيء . في مساحة التقاطع بين العام و الخاص و بين الذاتي و الموضوعي و في تشاكلات التلاقي بين السيرة الذاتية و نص الذاكرة و إحالات الواقع و التاريخ و خلال كل الفصول لا يكف الكاتب كلما قربنا من الجوهر الصميمي لذاته الخاصة كلما قلب علينا الطاولة و شردنا في التخوم البعيدة ل [ تعددية بوليفونية ] على مستوى اللغة و الصوت السردي . لا يكف يزاوج داخل الرواية بين لغة الاستبطان كما هو حال روايات تيار اللاوعي و أسلوبية الديالوجيزم الحواري الباختيني ، بكل كرنفاله التخييلي من الأسلبة و المعارضة و الباروديا و المحاكاة الهجائية . إنه بارع في كلتا الصيغتين ، يزيد من ذلك حدة اقتناصه لمبدأ السخرية و استجلابه من المفارقات الساخرة لمشهدة و مسرحة عالم روائي فقد اليقين و صار أشبه بمتاهات و غموص و غرائبية عالم ( المسخ ) أو ( القلعة ) لفرانز كافكا ، مع سيادة عارمة لأجواء العبث و اللامعقول و فقدان المعنى . أحد مكمن جوانب الخصوصية في هذا العمل الروائي نقف عليه فيما سنسميه ب [ البوليفونية الأجناسية و البوليفونية الخطابية ] ، فعدا كون الرواية استقطبت إلى جماليات التشاكل الأجناسي : القصة القصيرة و الشعر و الخطابة و المقالة و المناظرة و النقد مبرزة عمق الأطروحة الجمالية التي أبان عنها سيرفانتس في « دون كيشوت « من كون أي نشوء روائي لا ينهض إلا على الحوار الدائب بين الرواية و مغايراتها الأجناسية وفق منطق ل ( تجاذبات سلطة الحقيقة و حقيقة السلطة ) « 8 « .. فإن الوجه الآخر هو الظاهر في اعتماد الروائي بنيتي [ النص المفتوح و النص المتراكب ] في تنضيد مستويات الخطاب جاعلا بنيات التجاور و التوازي و التقاطع تنسج لغة سردية يتكلم فيها اللسان : لغة الحوار و الجدل و المرافعة و المناظرة و الشرح و التعليق و التأويل و البيان و الخطابة و هو في هذا المسعى يكشف عن مفارقات « اللغة كوجود و الوجود كلغة « كما يعبر عن ذلك بول ريكور في كتابه ( الذات عينها باعتبارها آخر ) و هو يطارح مفهوم الهوية السردية و سؤال الحقيقة و التأويل . « 9 « لا يكتب جمال بندحمان الرواية من منظور كونه كان دائما منشغلا بسؤال الأدب و النقد و مقاربة كل أشكال الخطابات و التفكير في سؤال الثقافة و الإبداع . نعم هذا البروفايل قائم و لا غبار عليه و لكن لا ننسى أن رواية « محنة ابن اللسان « في مناشئها المقاصدية هي ترجمة ( بأحد الأشكال ) للوجه الآخر للكاتب الكاشف عن انخراطه في العمل الثقافي و العمل الأدبي [ كموقف و كالتزام و كأطروحة ] ذلك هو الميسم المحدد أيضا لهوية الكاتب و لهوية الرواية بشكل عام . و هذا المستوى من النظر نقف عليه بجلاء في تسخير خطاب السرد داخل الرواية من أجل بيان الأطروحة و الأطروحة النقيض و ذهاب لغة السرد نحو ما يسميه كبيدي فارغا في كتابه ( خطابات ، الحكي ، الصورة ) في القول أن المبدأ التشخيصي للواقع و الحقيقة في الرواية يقوم على الإدراك العميق بأنه ليس هناك واقع مرجعي محدد و مطلق ، بل أقوى ما تقدمه لنا الرواية يرسخ كون تمثلاتنا للواقع تؤكد أن الواقع الذي نتحدث هو في المحصلة ( تجسيد لمستويات متعددة من الواقع و تنضيدا متعدد الاشتغال في الكشف عن صور الواقع ) . « 10 « في النهاية رواية « محنة ابن اللسان « هي رواية جيل أتى إلى اللغة و الكلام من خرائط متعددة و من تصارعات وعي ثقافي متعدد المرجعيات ، من استلاب الموقف العرفاني إلى استلاب خطاب النضال اليساري و اغترابة في سياسة توافق المصالح و الميل إلى تغليب المصلحة الذاتية على مبدأ الحق و الواجب .جيل حمل إرث ذاكرة معطوبة و كان ضحية قراءات خاطئة للواقع و التاريخ نتيجة تنابذ المواقف و الرؤى و المصالح في علاقته بمنظومة القبيلة و الزاوية و الحزب . ***** هوامش : 1 – جمال بندحمان « محنة ابن اللسان « أفريقيا الشرق 2024 المغرب . 2 – را : حول الميتاسرد كتاب ( السرد المفتون بذاته : من الكينونة المحضة إلى الوجود المقروء ) للناقد العراقي رسول محمد رسول ، منشورات الشارقة 2015 . 3 – رولان بارت « التحليل البنيوي للسرد « ترجمة منذر عياشي مركز الإنماء الحضاري حلب 1993 . 4 – غريماس و جاك فونتني « سيميائيات الأهواء « ترجمة سعيد بنكراد دار الكتاب الجديد 2010 . 5 – محمد الداهي ّ متعة الإخفاق : المشروع التخييلي لعبد الله العروي « المركز الثقافي للكتاب الدارالبيضاء 2022 6 – هيجل « فينومولوجيا الروح « – بالفرنسية – منشورات فلاماريون باريس 2012 . 7 – و قد اعتمدها بعد ذلك في مختلف رواياته و صارت استراتيجية نصانية لتنسيب الصوت و الوعي السردي 8 – ذلك هو عمق الأطروحة النظرية لميخائيل باختين في مختلف كتبه . 9 – بول ريكور « الذات عينها كآخر « ترجمة جورج زيناتي المنظمة العربية للترجمة بيروت 2005 . 10 – كيبيدي فارغا « خطابات ، الحكي ، الصورة « – بالفرنسية – منشورات مارسيل ديديه باريس 1970 .
تنهض رواية ( محنة ابن اللسان ) للأديب جمال بندحمان « 1 « على مستويات عديدة من الإنزياحات المتعلقة بتعاقدات الشكل الروائي ، لذا فهي بالأساس تتطلب متلقيا ب « كفايات إقرائية « خاصة لفك الشفرات التأويلية لهذا العمل الأدبي المندرج فيما يجوز وصفه ب [ استطيقا السرود الثقافية ] . تنبني هذه الاستراتيجيات الإنزياحية بالدرجة الأولى على الرواكز التالية : أ – كوننا بصدد [ رواية أفكار ] حيث السرد الحدثي ليس سوى ذريعة بنائية لصوغ تخييل حكائي مضارع لروح ( الرواية الذهنية ) . ب – كون هذا العمل الأدبي على مستوى البناء السردي اعتمد على محفل [ المحكي الميتاروائي ] و صنعة التضعيف الذاتي بجغل السرد موضوع ميتا – اشتغال ، أي أن الرواية تعرف محايثة متعددة الصيغ لاشتباك السرد بالميتاسرد . « 2 « ج – اعتماد الرواية في صناعة الشخصية على نمط من « التجريد الرمزي « يختلف عن القياسات التخييلية لمبدأ « تطابقات التشخيص المرجعي « . فالشخصية في الرواية تنزاح عن قاعدة ( الإيهام بالمرجع ) « 3 « من أجل تشخيصية رمزية هي من وجهة سيميائيات الأهواء لدى غريماس تعبيرعن مثالات من الوعي و القيم و الفكر . « 4 « هذه الرواكز الثلاث تنعقد في اشتغالها حول تدبير ما ينعت في المقاربة السيميائية ب ( وضعيات سردية ) تتمحور دلاليا حول [ بنية الإخفاق ] التي صاغ حولها الناقد الحصيف محمد الداهي أطروحة نقدية بعنوان [ متعة الإخفاق : المشروع التخييلي لعبد الله العروي ] « 5 « ، و هي موضوعة مرتبطة في تأسيسات الفكر الهيجلي ( بانتفاء التطابق بين الواقع و المثال ) « 6 « و أيضا في مفارقات الذاتية الخالصة و المطلق الخالص للكينونة . ينضاف إلى هذا المستوى من التأويل أن النمذجة الشخوصية المعتمدة ( الراوي باعتباره أنا تخييلية ثانية للكاتب ، و المعلم ، و الصحفي ، و المحامي ، و المتكلم نسبة إلى علم الكلام في دلالته التعيينية و الرمزية ) ، و لكي نعفي القارىء من مشقة كشف الفروق و التمايزات بينها سنحيلها إلى ثلاث مدونات و هي : ( القبيلة و الزاوية و الحزب ) باعتبارها البنيات الثقافية السوسيولوجية و الانتروبولوجية الرمزية التي تتحرك في فضاء الوعي الروائي . من داخل هذا المناخ التخييلي و على مستوى التشخيص السردي ينطلق الروائي جمال بندحمان – و هو الضليع بمشابك و كمائن المنهج السيميائي و تحليل الخطاب – من تشغيل فاتك تتضافر فيه سيميائيات الخطاب الصوفي و الخطاب الإعلامي و الخطاب السياسي وفق سردنة تحبيكية لتقاطعات اللغة / اللسان بأنماط متعددة من الوعي / الأوعاء . كل ذلك في أفق رسم المناخات الاجتماعية و الوعي الثقافي المصاحب لها على مسار حقبة تاريخية من أول السبعينات إلى اللحظة الراهنة ، مجتلبا إلى ديناميات التخييل الآثار المرجعية للوافع و التاريخ و السيرة في بعديها الأوتوبيوغرافي و البيوغرافي ، و نسجا متعدد الطبقات من نصوص الذاكرة و الأدب و الشعر و الفلسفة و الثقافة الشعبية و الخيال الرمزي و الأساطيري . لا يمكن قراءة هذه الرواية بمنأى عن التقاطع بين « حاضر السرد « و « أزمنة الذاكرة « فنحن بصدد رواية لا تسمح لنا ب ( قراءة الذات ) خارج الأثر النافذ لمعول الزمن و سطوة قبضته . فالذوات لا تملك تلك الهبة الإكسيرية لاسترجاع الزمن أو وقفه ، فقط ما يمكنها القيام به هو بالذات ما تقوم به الكتابة الروائية في مسعاها كسلطة تقديرية للمراجعة و النقد الذاتي . ذلك رهان الرواية و مرتكز قصديات الكاتب و هو يختبر وعي مرحلة بمجهر التأمل والمراجعة و التصحيح لمعرمة مكامن الخلل و العطب في انبناءات و عينا ، و أشكال الأقدار و المصائر التي تحكمت في وعينا و لا وعينا ،و نسجت البنيات النصية العميقة لثقافتنا المقيدة إلى [ بنية الإخفاق ] . يقول الصحفي في الفصل الثاني من الرواية : « كلنا نبيع الكلام « و هو ما يقتضي [ إرجاء الحقيقة ] كما ينصص على ذلك المحامي في الفصل الثالث في مرافعاتهالتي يخلط فيها [ خطاب الحقيقة بخطاب الوهم ]. نفس الشيء يفعله الراوي في الرواية ( و هو الممثل للضمير الأدبي ) حين يتكلم الكاتب عن [ مبدأ الرقابة في الحكي / الوعي ] التي تعمل بمنطق [ الإضاءة و التعتيم ] حسب القول المأثور لمحمد برادة في روايته ( لعبة النسيان ) « 7 « . تبدأ محنة ابن اللسان حين يتخلى عن الحقيقة و تتحول اللعة و الخطابات إلى أجروميات للوهم و الزيف و الترهات و مراكمات الأخطاء ، خضوعا لقهرية سلط القبيلة أو الزاوية أو الحزب ، و حين يتحول الوعي إلى إملاءات و ولاءات ، و حين يخضع الفكر بمقتضى تعبير ميشيل فوكو إلى نظام المراقبة و العقاب . تجسد الرواية هذا الوضع المفارق الساخر منذ الفصل الرابع ( المتكلمون ) من خلال البحث عن [ توافق ] ص 102 لتنميط مبدأ التعددية وفق قاعدة التراضي و إرجاء مبدأ الإختلاف لصالح ما تصفه الرواية بكونه توافقا . هكذا يتم التنازل تدريجيا عن ( حلم الراوي ) ص 108 و ( محكي الجرح ) ص 124 و ( حكي التشظي ) ص 131 بكل مكابداتها و تجاريحها و عذابات الكائن في أزمنة العتمة و الأحلام المجهضة لصالح ( محكي التقارير ) ص 136 .. و ذلك من حلال نوع من التسريد يضمن للكاتب صيغة للقول بأن الوعي و الفكر و الثقافة حين تغدو ضحية التنميط و تتخلى عن مبدأ الحرية و الإرادة ، مثلما أن تتخلى عن مبدأ التنسيب لصالح مطلق كلياني شمولي ، فإن سؤال المصير و حلم الدوات بوجود مثالي يصير حلما شبحيا داخل لغة تتكلم لتقول أي شيء و لا شيء . في مساحة التقاطع بين العام و الخاص و بين الذاتي و الموضوعي و في تشاكلات التلاقي بين السيرة الذاتية و نص الذاكرة و إحالات الواقع و التاريخ و خلال كل الفصول لا يكف الكاتب كلما قربنا من الجوهر الصميمي لذاته الخاصة كلما قلب علينا الطاولة و شردنا في التخوم البعيدة ل [ تعددية بوليفونية ] على مستوى اللغة و الصوت السردي . لا يكف يزاوج داخل الرواية بين لغة الاستبطان كما هو حال روايات تيار اللاوعي و أسلوبية الديالوجيزم الحواري الباختيني ، بكل كرنفاله التخييلي من الأسلبة و المعارضة و الباروديا و المحاكاة الهجائية . إنه بارع في كلتا الصيغتين ، يزيد من ذلك حدة اقتناصه لمبدأ السخرية و استجلابه من المفارقات الساخرة لمشهدة و مسرحة عالم روائي فقد اليقين و صار أشبه بمتاهات و غموص و غرائبية عالم ( المسخ ) أو ( القلعة ) لفرانز كافكا ، مع سيادة عارمة لأجواء العبث و اللامعقول و فقدان المعنى . أحد مكمن جوانب الخصوصية في هذا العمل الروائي نقف عليه فيما سنسميه ب [ البوليفونية الأجناسية و البوليفونية الخطابية ] ، فعدا كون الرواية استقطبت إلى جماليات التشاكل الأجناسي : القصة القصيرة و الشعر و الخطابة و المقالة و المناظرة و النقد مبرزة عمق الأطروحة الجمالية التي أبان عنها سيرفانتس في « دون كيشوت « من كون أي نشوء روائي لا ينهض إلا على الحوار الدائب بين الرواية و مغايراتها الأجناسية وفق منطق ل ( تجاذبات سلطة الحقيقة و حقيقة السلطة ) « 8 « .. فإن الوجه الآخر هو الظاهر في اعتماد الروائي بنيتي [ النص المفتوح و النص المتراكب ] في تنضيد مستويات الخطاب جاعلا بنيات التجاور و التوازي و التقاطع تنسج لغة سردية يتكلم فيها اللسان : لغة الحوار و الجدل و المرافعة و المناظرة و الشرح و التعليق و التأويل و البيان و الخطابة و هو في هذا المسعى يكشف عن مفارقات « اللغة كوجود و الوجود كلغة « كما يعبر عن ذلك بول ريكور في كتابه ( الذات عينها باعتبارها آخر ) و هو يطارح مفهوم الهوية السردية و سؤال الحقيقة و التأويل . « 9 « لا يكتب جمال بندحمان الرواية من منظور كونه كان دائما منشغلا بسؤال الأدب و النقد و مقاربة كل أشكال الخطابات و التفكير في سؤال الثقافة و الإبداع . نعم هذا البروفايل قائم و لا غبار عليه و لكن لا ننسى أن رواية « محنة ابن اللسان « في مناشئها المقاصدية هي ترجمة ( بأحد الأشكال ) للوجه الآخر للكاتب الكاشف عن انخراطه في العمل الثقافي و العمل الأدبي [ كموقف و كالتزام و كأطروحة ] ذلك هو الميسم المحدد أيضا لهوية الكاتب و لهوية الرواية بشكل عام . و هذا المستوى من النظر نقف عليه بجلاء في تسخير خطاب السرد داخل الرواية من أجل بيان الأطروحة و الأطروحة النقيض و ذهاب لغة السرد نحو ما يسميه كبيدي فارغا في كتابه ( خطابات ، الحكي ، الصورة ) في القول أن المبدأ التشخيصي للواقع و الحقيقة في الرواية يقوم على الإدراك العميق بأنه ليس هناك واقع مرجعي محدد و مطلق ، بل أقوى ما تقدمه لنا الرواية يرسخ كون تمثلاتنا للواقع تؤكد أن الواقع الذي نتحدث هو في المحصلة ( تجسيد لمستويات متعددة من الواقع و تنضيدا متعدد الاشتغال في الكشف عن صور الواقع ) . « 10 « في النهاية رواية « محنة ابن اللسان « هي رواية جيل أتى إلى اللغة و الكلام من خرائط متعددة و من تصارعات وعي ثقافي متعدد المرجعيات ، من استلاب الموقف العرفاني إلى استلاب خطاب النضال اليساري و اغترابة في سياسة توافق المصالح و الميل إلى تغليب المصلحة الذاتية على مبدأ الحق و الواجب .جيل حمل إرث ذاكرة معطوبة و كان ضحية قراءات خاطئة للواقع و التاريخ نتيجة تنابذ المواقف و الرؤى و المصالح في علاقته بمنظومة القبيلة و الزاوية و الحزب . ***** هوامش : 1 – جمال بندحمان « محنة ابن اللسان « أفريقيا الشرق 2024 المغرب . 2 – را : حول الميتاسرد كتاب ( السرد المفتون بذاته : من الكينونة المحضة إلى الوجود المقروء ) للناقد العراقي رسول محمد رسول ، منشورات الشارقة 2015 . 3 – رولان بارت « التحليل البنيوي للسرد « ترجمة منذر عياشي مركز الإنماء الحضاري حلب 1993 . 4 – غريماس و جاك فونتني « سيميائيات الأهواء « ترجمة سعيد بنكراد دار الكتاب الجديد 2010 . 5 – محمد الداهي ّ متعة الإخفاق : المشروع التخييلي لعبد الله العروي « المركز الثقافي للكتاب الدارالبيضاء 2022 6 – هيجل « فينومولوجيا الروح « – بالفرنسية – منشورات فلاماريون باريس 2012 . 7 – و قد اعتمدها بعد ذلك في مختلف رواياته و صارت استراتيجية نصانية لتنسيب الصوت و الوعي السردي 8 – ذلك هو عمق الأطروحة النظرية لميخائيل باختين في مختلف كتبه . 9 – بول ريكور « الذات عينها كآخر « ترجمة جورج زيناتي المنظمة العربية للترجمة بيروت 2005 . 10 – كيبيدي فارغا « خطابات ، الحكي ، الصورة « – بالفرنسية – منشورات مارسيل ديديه باريس 1970 .