مشروع القانون التنظيمي لمجلس النواب يوسع دائرة المنع من الترشح للانتخابات    الملك محمد السادس يبارك عيد زامبيا    نشطاء يطالبون بالأمازيغية على أقمصة المنتخبات وواجهات المنشآت الرياضية    في رسالة لمجلس الأمن.. "بوليساريو" تعتبر مشروع القرار الأمريكي حول الصحراء "منحازاً" وتلوّح بعدم المشاركة في المفاوضات    "اتصالات المغرب" تواصل النمو والتطور    ترامب يعفو عن مؤسس "بينانس" للعملات المشفرة    الهلالي ينتخب بالاتحاد الدولي للتايكوندو    لويس إنريكي: حكيمي لا يحتاج إلى بديل    رسميا.. الوداد يعلن ضم حكيم زياش    نزلة برد تؤجل جلسة "محاكمة مبديع"    المهرجان الوطني للفيلم في طنجة يستحضر ثلاثية الذاكرة والأنوثة والكرامة    دبوس ماسي لنابليون بونابرت يعرض للبيع في مزاد    الصين تطلق أكبر سفينة شحن كهربائية بالكامل لتعزيز النقل البحري الأخضر    الدوحة..انطلاق منافسات بطولة كأس الأمم للكارتينغ لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بمشاركة المغرب    على رأسهم بنبركة والمانوزي..مطالب متجددة للدولة بالكشف عن مصير ضحايا الاختفاء القسري    "اتصالات المغرب" تتجاوز حاجز 81 مليون زبون    تراجع أسعار النفط وسط مخاوف بشأن الإمدادات    إنتاج الطاقة الكهربائية في المغرب يرتفع ب5.3% بينما تتراجع الطاقات المتجددة ب11%    محاكمات "جيل زد".. 240 حكما بالسجن النافذ وصلت حتى 15 سنة ومئات الأحكام الحبسية بأقل من سنة    حزب "النهج الديمقراطي" يطالب بالإفراج الفوري عن معتقلي حراك "جيل زد" وفتح تحقيق نزيه في وفاة 3 شبان بالقليعة    الكشف عن صور تظهر أوضاعا قاسية لأسرى فلسطينيين داخل سجن إسرائيلي    المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب يطلق مشروعا لنشر أطروحات الدكتوراه    مطالب بالتنصيص القانوني على معاقبة المدارس الخاصة التي ترفض تسجيل أطفال في وضعية إعاقة    "كاف" يعلن عن موعد إجراء قرعة دور مجموعات دوري أبطال إفريقيا وكأس الكونفدرالية    احتجاجات جيل Z من أين؟ وإلى أين؟    تحفظات المجلس الأعلى للسلطة القضائية على مشروع قانون الدفع بعدم دستورية القوانين    أردوغان: على أمريكا والدول الأخرى الضغط على إسرائيل للالتزام بوقف إطلاق النار    مزارعو الضفة الغربية يجمعون الزيتون وسط هجمات المستوطنين المعتادة بموسم الحصاد    رسميا.. ليونيل ميسي يمدد عقده مع إنتر ميامي حتى 2028    لجنة نداء الكرامة بتاونات تصعد من احتجاجاتها وتدعو إلى مسيرة للمطالبة بالتنمية المجالية    توقيف ثلاثة قاصرين بسوق الأربعاء الغرب بعد تعنيف شخص من ذوي الاحتياجات الخاصة في مقطع مصوّر    لامين يامال يشن هجوما على الريال قبل الكلاسيكو: "يسرقون ثم يشتكون"    انطلاقة نارية للجولة السادسة من البطولة.. وديربي البيضاء يلهب منتصف الأسبوع    بلدان الاتحاد الأوروبي توافق على الانتقال إلى نظام التأشيرة الإلكترونية الموحدة ل"شنغن"    طقس حار نسبيا في توقعات اليوم الجمعة بالمغرب    كيوسك الجمعة | غوتيريش يشدد على اغتنام الزخم الدولي الراهن لحل قضية الصحراء    حادثة سير تودي بحياة شابين ضواحي الجديدة    الذهب يرتفع قبيل صدور بيانات التضخم الأمريكية    الصين: انتخاب المغربي ادريس الهلالي نائبا لرئيس الاتحاد الدولي للتايكوندو    أكاديمية المملكة تحتفي بالمسار العلمي الحافل للباحث جان فرانسوا تروان    الخطوط الملكية المغربية تعزز رحلاتها الداخلية نحو الأقاليم الجنوبية للمملكة    وفاة الفنان محمد الرزين إثر معاناته مع المرض    وزارة الأوقاف تعمم على أئمة المساجد خطبة تحث على تربية الأولاد على المشاركة في الشأن العام    الفنان محمد الرزين في ذمة الله    الحكومة تصادق على مرسوم يحدد شروط إنتاج الطاقة الكهربائية ذاتياً    وجدة: حين يصبح الحبر مغاربياً    في مديح الإنسانية التقدمية، أو الخطاب ما بعد الاستعماري وفق مقاربة فلسفية ايتيقية    المؤسسات والمقاولات العمومية: استثمارات متوقعة لعام 2026 تقارب 180 مليار درهم    طب العيون ينبه إلى "تشخيص الحول"    دوري أبطال أوروبا.. ريال مدريد ينجو من فخ يوفنتوس وبايرن يبدع وليفربول ينتفض    أمير المؤمنين يطلع على نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة ويأذن بوضعها رهن إشارة العموم    الملك محمد السادس يأذن بنشر فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة    ندوة تبرز الاحتفاء القرآني بالرسول    علماء يصلون إلى حمض أميني مسبب للاكتئاب    أونسا: استعمال "مضافات الجبن" سليم    مواقع التواصل الاجتماعي تفسد أدمغة الأطفال وتضر بشكل خاص بذاكرتهم ومفرداتهم اللغوية    دراسة: مواقع التواصل الاجتماعي تفسد أدمغة الأطفال وتضر بشكل خاص بذاكرتهم ومفرداتهم اللغوية    العِبرة من مِحن خير أمة..    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السرد و أنساقه السيميائية
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 07 - 08 - 2025

تنهض رواية ( محنة ابن اللسان ) للأديب جمال بندحمان « 1 « على مستويات عديدة من الإنزياحات المتعلقة بتعاقدات الشكل الروائي ، لذا فهي بالأساس تتطلب متلقيا ب « كفايات إقرائية « خاصة لفك الشفرات التأويلية لهذا العمل الأدبي المندرج فيما يجوز وصفه ب [ استطيقا السرود الثقافية ] .
تنبني هذه الاستراتيجيات الإنزياحية بالدرجة الأولى على الرواكز التالية :
أ – كوننا بصدد [ رواية أفكار ] حيث السرد الحدثي ليس سوى ذريعة بنائية لصوغ تخييل حكائي مضارع لروح ( الرواية الذهنية ) .
ب – كون هذا العمل الأدبي على مستوى البناء السردي اعتمد على محفل [ المحكي الميتاروائي ] و صنعة التضعيف الذاتي بجغل السرد موضوع ميتا – اشتغال ، أي أن الرواية تعرف محايثة متعددة الصيغ لاشتباك السرد بالميتاسرد . « 2 «
ج – اعتماد الرواية في صناعة الشخصية على نمط من « التجريد الرمزي « يختلف عن القياسات التخييلية لمبدأ « تطابقات التشخيص المرجعي « . فالشخصية في الرواية تنزاح عن قاعدة ( الإيهام بالمرجع ) « 3 « من أجل تشخيصية رمزية هي من وجهة سيميائيات الأهواء لدى غريماس تعبيرعن مثالات من الوعي و القيم و الفكر . « 4 «
هذه الرواكز الثلاث تنعقد في اشتغالها حول تدبير ما ينعت في المقاربة السيميائية ب ( وضعيات سردية ) تتمحور دلاليا حول [ بنية الإخفاق ] التي صاغ حولها الناقد الحصيف محمد الداهي أطروحة نقدية بعنوان [ متعة الإخفاق : المشروع التخييلي لعبد الله العروي ] « 5 « ، و هي موضوعة مرتبطة في تأسيسات الفكر الهيجلي ( بانتفاء التطابق بين الواقع و المثال ) « 6 « و أيضا في مفارقات الذاتية الخالصة و المطلق الخالص للكينونة .
ينضاف إلى هذا المستوى من التأويل أن النمذجة الشخوصية المعتمدة ( الراوي باعتباره أنا تخييلية ثانية للكاتب ، و المعلم ، و الصحفي ، و المحامي ، و المتكلم نسبة إلى علم الكلام في دلالته التعيينية و الرمزية ) ، و لكي نعفي القارىء من مشقة كشف الفروق و التمايزات بينها سنحيلها إلى ثلاث مدونات و هي : ( القبيلة و الزاوية و الحزب ) باعتبارها البنيات الثقافية السوسيولوجية و الانتروبولوجية الرمزية التي تتحرك في فضاء الوعي الروائي .
من داخل هذا المناخ التخييلي و على مستوى التشخيص السردي ينطلق الروائي جمال بندحمان – و هو الضليع بمشابك و كمائن المنهج السيميائي و تحليل الخطاب – من تشغيل فاتك تتضافر فيه سيميائيات الخطاب الصوفي و الخطاب الإعلامي و الخطاب السياسي وفق سردنة تحبيكية لتقاطعات اللغة / اللسان بأنماط متعددة من الوعي / الأوعاء . كل ذلك في أفق رسم المناخات الاجتماعية و الوعي الثقافي المصاحب لها على مسار حقبة تاريخية من أول السبعينات إلى اللحظة الراهنة ، مجتلبا إلى ديناميات التخييل الآثار المرجعية للوافع و التاريخ و السيرة في بعديها الأوتوبيوغرافي و البيوغرافي ، و نسجا متعدد الطبقات من نصوص الذاكرة و الأدب و الشعر و الفلسفة و الثقافة الشعبية و الخيال الرمزي و الأساطيري .
لا يمكن قراءة هذه الرواية بمنأى عن التقاطع بين « حاضر السرد « و « أزمنة الذاكرة « فنحن بصدد رواية لا تسمح لنا ب ( قراءة الذات ) خارج الأثر النافذ لمعول الزمن و سطوة قبضته . فالذوات لا تملك تلك الهبة الإكسيرية لاسترجاع الزمن أو وقفه ، فقط ما يمكنها القيام به هو بالذات ما تقوم به الكتابة الروائية في مسعاها كسلطة تقديرية للمراجعة و النقد الذاتي . ذلك رهان الرواية و مرتكز قصديات الكاتب و هو يختبر وعي مرحلة بمجهر التأمل والمراجعة و التصحيح لمعرمة مكامن الخلل و العطب في انبناءات و عينا ، و أشكال الأقدار و المصائر التي تحكمت في وعينا و لا وعينا ،و نسجت البنيات النصية العميقة لثقافتنا المقيدة إلى [ بنية الإخفاق ] .
يقول الصحفي في الفصل الثاني من الرواية : « كلنا نبيع الكلام « و هو ما يقتضي [ إرجاء الحقيقة ] كما ينصص على ذلك المحامي في الفصل الثالث في مرافعاتهالتي يخلط فيها [ خطاب الحقيقة بخطاب الوهم ]. نفس الشيء يفعله الراوي في الرواية ( و هو الممثل للضمير الأدبي ) حين يتكلم الكاتب عن [ مبدأ الرقابة في الحكي / الوعي ] التي تعمل بمنطق [ الإضاءة و التعتيم ] حسب القول المأثور لمحمد برادة في روايته ( لعبة النسيان ) « 7 « .
تبدأ محنة ابن اللسان حين يتخلى عن الحقيقة و تتحول اللعة و الخطابات إلى أجروميات للوهم و الزيف و الترهات و مراكمات الأخطاء ، خضوعا لقهرية سلط القبيلة أو الزاوية أو الحزب ، و حين يتحول الوعي إلى إملاءات و ولاءات ، و حين يخضع الفكر بمقتضى تعبير ميشيل فوكو إلى نظام المراقبة و العقاب .
تجسد الرواية هذا الوضع المفارق الساخر منذ الفصل الرابع ( المتكلمون ) من خلال البحث عن [ توافق ] ص 102 لتنميط مبدأ التعددية وفق قاعدة التراضي و إرجاء مبدأ الإختلاف لصالح ما تصفه الرواية بكونه توافقا .
هكذا يتم التنازل تدريجيا عن ( حلم الراوي ) ص 108 و ( محكي الجرح ) ص 124 و ( حكي التشظي ) ص 131 بكل مكابداتها و تجاريحها و عذابات الكائن في أزمنة العتمة و الأحلام المجهضة لصالح ( محكي التقارير ) ص 136 .. و ذلك من حلال نوع من التسريد يضمن للكاتب صيغة للقول بأن الوعي و الفكر و الثقافة حين تغدو ضحية التنميط و تتخلى عن مبدأ الحرية و الإرادة ، مثلما أن تتخلى عن مبدأ التنسيب لصالح مطلق كلياني شمولي ، فإن سؤال المصير و حلم الدوات بوجود مثالي يصير حلما شبحيا داخل لغة تتكلم لتقول أي شيء و لا شيء .
في مساحة التقاطع بين العام و الخاص و بين الذاتي و الموضوعي و في تشاكلات التلاقي بين السيرة الذاتية و نص الذاكرة و إحالات الواقع و التاريخ و خلال كل الفصول لا يكف الكاتب كلما قربنا من الجوهر الصميمي لذاته الخاصة كلما قلب علينا الطاولة و شردنا في التخوم البعيدة ل [ تعددية بوليفونية ] على مستوى اللغة و الصوت السردي . لا يكف يزاوج داخل الرواية بين لغة الاستبطان كما هو حال روايات تيار اللاوعي و أسلوبية الديالوجيزم الحواري الباختيني ، بكل كرنفاله التخييلي من الأسلبة و المعارضة و الباروديا و المحاكاة الهجائية . إنه بارع في كلتا الصيغتين ، يزيد من ذلك حدة اقتناصه لمبدأ السخرية و استجلابه من المفارقات الساخرة لمشهدة و مسرحة عالم روائي فقد اليقين و صار أشبه بمتاهات و غموص و غرائبية عالم ( المسخ ) أو ( القلعة ) لفرانز كافكا ، مع سيادة عارمة لأجواء العبث و اللامعقول و فقدان المعنى .
أحد مكمن جوانب الخصوصية في هذا العمل الروائي نقف عليه فيما سنسميه ب [ البوليفونية الأجناسية و البوليفونية الخطابية ] ، فعدا كون الرواية استقطبت إلى جماليات التشاكل الأجناسي : القصة القصيرة و الشعر و الخطابة و المقالة و المناظرة و النقد مبرزة عمق الأطروحة الجمالية التي أبان عنها سيرفانتس في « دون كيشوت « من كون أي نشوء روائي لا ينهض إلا على الحوار الدائب بين الرواية و مغايراتها الأجناسية وفق منطق ل ( تجاذبات سلطة الحقيقة و حقيقة السلطة ) « 8 « .. فإن الوجه الآخر هو الظاهر في اعتماد الروائي بنيتي [ النص المفتوح و النص المتراكب ] في تنضيد مستويات الخطاب جاعلا بنيات التجاور و التوازي و التقاطع تنسج لغة سردية يتكلم فيها اللسان : لغة الحوار و الجدل و المرافعة و المناظرة و الشرح و التعليق و التأويل و البيان و الخطابة و هو في هذا المسعى يكشف عن مفارقات « اللغة كوجود و الوجود كلغة « كما يعبر عن ذلك بول ريكور في كتابه ( الذات عينها باعتبارها آخر ) و هو يطارح مفهوم الهوية السردية و سؤال الحقيقة و التأويل . « 9 «
لا يكتب جمال بندحمان الرواية من منظور كونه كان دائما منشغلا بسؤال الأدب و النقد و مقاربة كل أشكال الخطابات و التفكير في سؤال الثقافة و الإبداع . نعم هذا البروفايل قائم و لا غبار عليه و لكن لا ننسى أن رواية « محنة ابن اللسان « في مناشئها المقاصدية هي ترجمة ( بأحد الأشكال ) للوجه الآخر للكاتب الكاشف عن انخراطه في العمل الثقافي و العمل الأدبي [ كموقف و كالتزام و كأطروحة ] ذلك هو الميسم المحدد أيضا لهوية الكاتب و لهوية الرواية بشكل عام . و هذا المستوى من النظر نقف عليه بجلاء في تسخير خطاب السرد داخل الرواية من أجل بيان الأطروحة و الأطروحة النقيض و ذهاب لغة السرد نحو ما يسميه كبيدي فارغا في كتابه ( خطابات ، الحكي ، الصورة ) في القول أن المبدأ التشخيصي للواقع و الحقيقة في الرواية يقوم على الإدراك العميق بأنه ليس هناك واقع مرجعي محدد و مطلق ، بل أقوى ما تقدمه لنا الرواية يرسخ كون تمثلاتنا للواقع تؤكد أن الواقع الذي نتحدث هو في المحصلة ( تجسيد لمستويات متعددة من الواقع و تنضيدا متعدد الاشتغال في الكشف عن صور الواقع ) . « 10 «
في النهاية رواية « محنة ابن اللسان « هي رواية جيل أتى إلى اللغة و الكلام من خرائط متعددة و من تصارعات وعي ثقافي متعدد المرجعيات ، من استلاب الموقف العرفاني إلى استلاب خطاب النضال اليساري و اغترابة في سياسة توافق المصالح و الميل إلى تغليب المصلحة الذاتية على مبدأ الحق و الواجب .جيل حمل إرث ذاكرة معطوبة و كان ضحية قراءات خاطئة للواقع و التاريخ نتيجة تنابذ المواقف و الرؤى و المصالح في علاقته بمنظومة القبيلة و الزاوية و الحزب .
*****
هوامش :
1 – جمال بندحمان « محنة ابن اللسان « أفريقيا الشرق 2024 المغرب .
2 – را : حول الميتاسرد كتاب ( السرد المفتون بذاته : من الكينونة المحضة إلى الوجود المقروء ) للناقد العراقي رسول محمد رسول ، منشورات الشارقة 2015 .
3 – رولان بارت « التحليل البنيوي للسرد « ترجمة منذر عياشي مركز الإنماء الحضاري حلب 1993 .
4 – غريماس و جاك فونتني « سيميائيات الأهواء « ترجمة سعيد بنكراد دار الكتاب الجديد 2010 .
5 – محمد الداهي ّ متعة الإخفاق : المشروع التخييلي لعبد الله العروي « المركز الثقافي للكتاب الدار البيضاء 2022
6 – هيجل « فينومولوجيا الروح « – بالفرنسية – منشورات فلاماريون باريس 2012 .
7 – و قد اعتمدها بعد ذلك في مختلف رواياته و صارت استراتيجية نصانية لتنسيب الصوت و الوعي السردي
8 – ذلك هو عمق الأطروحة النظرية لميخائيل باختين في مختلف كتبه .
9 – بول ريكور « الذات عينها كآخر « ترجمة جورج زيناتي المنظمة العربية للترجمة بيروت 2005 .
10 – كيبيدي فارغا « خطابات ، الحكي ، الصورة « – بالفرنسية – منشورات مارسيل ديديه باريس 1970 .

تنهض رواية ( محنة ابن اللسان ) للأديب جمال بندحمان « 1 « على مستويات عديدة من الإنزياحات المتعلقة بتعاقدات الشكل الروائي ، لذا فهي بالأساس تتطلب متلقيا ب « كفايات إقرائية « خاصة لفك الشفرات التأويلية لهذا العمل الأدبي المندرج فيما يجوز وصفه ب [ استطيقا السرود الثقافية ] .
تنبني هذه الاستراتيجيات الإنزياحية بالدرجة الأولى على الرواكز التالية :
أ – كوننا بصدد [ رواية أفكار ] حيث السرد الحدثي ليس سوى ذريعة بنائية لصوغ تخييل حكائي مضارع لروح ( الرواية الذهنية ) .
ب – كون هذا العمل الأدبي على مستوى البناء السردي اعتمد على محفل [ المحكي الميتاروائي ] و صنعة التضعيف الذاتي بجغل السرد موضوع ميتا – اشتغال ، أي أن الرواية تعرف محايثة متعددة الصيغ لاشتباك السرد بالميتاسرد . « 2 «
ج – اعتماد الرواية في صناعة الشخصية على نمط من « التجريد الرمزي « يختلف عن القياسات التخييلية لمبدأ « تطابقات التشخيص المرجعي « . فالشخصية في الرواية تنزاح عن قاعدة ( الإيهام بالمرجع ) « 3 « من أجل تشخيصية رمزية هي من وجهة سيميائيات الأهواء لدى غريماس تعبيرعن مثالات من الوعي و القيم و الفكر . « 4 «
هذه الرواكز الثلاث تنعقد في اشتغالها حول تدبير ما ينعت في المقاربة السيميائية ب ( وضعيات سردية ) تتمحور دلاليا حول [ بنية الإخفاق ] التي صاغ حولها الناقد الحصيف محمد الداهي أطروحة نقدية بعنوان [ متعة الإخفاق : المشروع التخييلي لعبد الله العروي ] « 5 « ، و هي موضوعة مرتبطة في تأسيسات الفكر الهيجلي ( بانتفاء التطابق بين الواقع و المثال ) « 6 « و أيضا في مفارقات الذاتية الخالصة و المطلق الخالص للكينونة .
ينضاف إلى هذا المستوى من التأويل أن النمذجة الشخوصية المعتمدة ( الراوي باعتباره أنا تخييلية ثانية للكاتب ، و المعلم ، و الصحفي ، و المحامي ، و المتكلم نسبة إلى علم الكلام في دلالته التعيينية و الرمزية ) ، و لكي نعفي القارىء من مشقة كشف الفروق و التمايزات بينها سنحيلها إلى ثلاث مدونات و هي : ( القبيلة و الزاوية و الحزب ) باعتبارها البنيات الثقافية السوسيولوجية و الانتروبولوجية الرمزية التي تتحرك في فضاء الوعي الروائي .
من داخل هذا المناخ التخييلي و على مستوى التشخيص السردي ينطلق الروائي جمال بندحمان – و هو الضليع بمشابك و كمائن المنهج السيميائي و تحليل الخطاب – من تشغيل فاتك تتضافر فيه سيميائيات الخطاب الصوفي و الخطاب الإعلامي و الخطاب السياسي وفق سردنة تحبيكية لتقاطعات اللغة / اللسان بأنماط متعددة من الوعي / الأوعاء . كل ذلك في أفق رسم المناخات الاجتماعية و الوعي الثقافي المصاحب لها على مسار حقبة تاريخية من أول السبعينات إلى اللحظة الراهنة ، مجتلبا إلى ديناميات التخييل الآثار المرجعية للوافع و التاريخ و السيرة في بعديها الأوتوبيوغرافي و البيوغرافي ، و نسجا متعدد الطبقات من نصوص الذاكرة و الأدب و الشعر و الفلسفة و الثقافة الشعبية و الخيال الرمزي و الأساطيري .
لا يمكن قراءة هذه الرواية بمنأى عن التقاطع بين « حاضر السرد « و « أزمنة الذاكرة « فنحن بصدد رواية لا تسمح لنا ب ( قراءة الذات ) خارج الأثر النافذ لمعول الزمن و سطوة قبضته . فالذوات لا تملك تلك الهبة الإكسيرية لاسترجاع الزمن أو وقفه ، فقط ما يمكنها القيام به هو بالذات ما تقوم به الكتابة الروائية في مسعاها كسلطة تقديرية للمراجعة و النقد الذاتي . ذلك رهان الرواية و مرتكز قصديات الكاتب و هو يختبر وعي مرحلة بمجهر التأمل والمراجعة و التصحيح لمعرمة مكامن الخلل و العطب في انبناءات و عينا ، و أشكال الأقدار و المصائر التي تحكمت في وعينا و لا وعينا ،و نسجت البنيات النصية العميقة لثقافتنا المقيدة إلى [ بنية الإخفاق ] .
يقول الصحفي في الفصل الثاني من الرواية : « كلنا نبيع الكلام « و هو ما يقتضي [ إرجاء الحقيقة ] كما ينصص على ذلك المحامي في الفصل الثالث في مرافعاتهالتي يخلط فيها [ خطاب الحقيقة بخطاب الوهم ]. نفس الشيء يفعله الراوي في الرواية ( و هو الممثل للضمير الأدبي ) حين يتكلم الكاتب عن [ مبدأ الرقابة في الحكي / الوعي ] التي تعمل بمنطق [ الإضاءة و التعتيم ] حسب القول المأثور لمحمد برادة في روايته ( لعبة النسيان ) « 7 « .
تبدأ محنة ابن اللسان حين يتخلى عن الحقيقة و تتحول اللعة و الخطابات إلى أجروميات للوهم و الزيف و الترهات و مراكمات الأخطاء ، خضوعا لقهرية سلط القبيلة أو الزاوية أو الحزب ، و حين يتحول الوعي إلى إملاءات و ولاءات ، و حين يخضع الفكر بمقتضى تعبير ميشيل فوكو إلى نظام المراقبة و العقاب .
تجسد الرواية هذا الوضع المفارق الساخر منذ الفصل الرابع ( المتكلمون ) من خلال البحث عن [ توافق ] ص 102 لتنميط مبدأ التعددية وفق قاعدة التراضي و إرجاء مبدأ الإختلاف لصالح ما تصفه الرواية بكونه توافقا .
هكذا يتم التنازل تدريجيا عن ( حلم الراوي ) ص 108 و ( محكي الجرح ) ص 124 و ( حكي التشظي ) ص 131 بكل مكابداتها و تجاريحها و عذابات الكائن في أزمنة العتمة و الأحلام المجهضة لصالح ( محكي التقارير ) ص 136 .. و ذلك من حلال نوع من التسريد يضمن للكاتب صيغة للقول بأن الوعي و الفكر و الثقافة حين تغدو ضحية التنميط و تتخلى عن مبدأ الحرية و الإرادة ، مثلما أن تتخلى عن مبدأ التنسيب لصالح مطلق كلياني شمولي ، فإن سؤال المصير و حلم الدوات بوجود مثالي يصير حلما شبحيا داخل لغة تتكلم لتقول أي شيء و لا شيء .
في مساحة التقاطع بين العام و الخاص و بين الذاتي و الموضوعي و في تشاكلات التلاقي بين السيرة الذاتية و نص الذاكرة و إحالات الواقع و التاريخ و خلال كل الفصول لا يكف الكاتب كلما قربنا من الجوهر الصميمي لذاته الخاصة كلما قلب علينا الطاولة و شردنا في التخوم البعيدة ل [ تعددية بوليفونية ] على مستوى اللغة و الصوت السردي . لا يكف يزاوج داخل الرواية بين لغة الاستبطان كما هو حال روايات تيار اللاوعي و أسلوبية الديالوجيزم الحواري الباختيني ، بكل كرنفاله التخييلي من الأسلبة و المعارضة و الباروديا و المحاكاة الهجائية . إنه بارع في كلتا الصيغتين ، يزيد من ذلك حدة اقتناصه لمبدأ السخرية و استجلابه من المفارقات الساخرة لمشهدة و مسرحة عالم روائي فقد اليقين و صار أشبه بمتاهات و غموص و غرائبية عالم ( المسخ ) أو ( القلعة ) لفرانز كافكا ، مع سيادة عارمة لأجواء العبث و اللامعقول و فقدان المعنى .
أحد مكمن جوانب الخصوصية في هذا العمل الروائي نقف عليه فيما سنسميه ب [ البوليفونية الأجناسية و البوليفونية الخطابية ] ، فعدا كون الرواية استقطبت إلى جماليات التشاكل الأجناسي : القصة القصيرة و الشعر و الخطابة و المقالة و المناظرة و النقد مبرزة عمق الأطروحة الجمالية التي أبان عنها سيرفانتس في « دون كيشوت « من كون أي نشوء روائي لا ينهض إلا على الحوار الدائب بين الرواية و مغايراتها الأجناسية وفق منطق ل ( تجاذبات سلطة الحقيقة و حقيقة السلطة ) « 8 « .. فإن الوجه الآخر هو الظاهر في اعتماد الروائي بنيتي [ النص المفتوح و النص المتراكب ] في تنضيد مستويات الخطاب جاعلا بنيات التجاور و التوازي و التقاطع تنسج لغة سردية يتكلم فيها اللسان : لغة الحوار و الجدل و المرافعة و المناظرة و الشرح و التعليق و التأويل و البيان و الخطابة و هو في هذا المسعى يكشف عن مفارقات « اللغة كوجود و الوجود كلغة « كما يعبر عن ذلك بول ريكور في كتابه ( الذات عينها باعتبارها آخر ) و هو يطارح مفهوم الهوية السردية و سؤال الحقيقة و التأويل . « 9 «
لا يكتب جمال بندحمان الرواية من منظور كونه كان دائما منشغلا بسؤال الأدب و النقد و مقاربة كل أشكال الخطابات و التفكير في سؤال الثقافة و الإبداع . نعم هذا البروفايل قائم و لا غبار عليه و لكن لا ننسى أن رواية « محنة ابن اللسان « في مناشئها المقاصدية هي ترجمة ( بأحد الأشكال ) للوجه الآخر للكاتب الكاشف عن انخراطه في العمل الثقافي و العمل الأدبي [ كموقف و كالتزام و كأطروحة ] ذلك هو الميسم المحدد أيضا لهوية الكاتب و لهوية الرواية بشكل عام . و هذا المستوى من النظر نقف عليه بجلاء في تسخير خطاب السرد داخل الرواية من أجل بيان الأطروحة و الأطروحة النقيض و ذهاب لغة السرد نحو ما يسميه كبيدي فارغا في كتابه ( خطابات ، الحكي ، الصورة ) في القول أن المبدأ التشخيصي للواقع و الحقيقة في الرواية يقوم على الإدراك العميق بأنه ليس هناك واقع مرجعي محدد و مطلق ، بل أقوى ما تقدمه لنا الرواية يرسخ كون تمثلاتنا للواقع تؤكد أن الواقع الذي نتحدث هو في المحصلة ( تجسيد لمستويات متعددة من الواقع و تنضيدا متعدد الاشتغال في الكشف عن صور الواقع ) . « 10 «
في النهاية رواية « محنة ابن اللسان « هي رواية جيل أتى إلى اللغة و الكلام من خرائط متعددة و من تصارعات وعي ثقافي متعدد المرجعيات ، من استلاب الموقف العرفاني إلى استلاب خطاب النضال اليساري و اغترابة في سياسة توافق المصالح و الميل إلى تغليب المصلحة الذاتية على مبدأ الحق و الواجب .جيل حمل إرث ذاكرة معطوبة و كان ضحية قراءات خاطئة للواقع و التاريخ نتيجة تنابذ المواقف و الرؤى و المصالح في علاقته بمنظومة القبيلة و الزاوية و الحزب .
*****
هوامش :
1 – جمال بندحمان « محنة ابن اللسان « أفريقيا الشرق 2024 المغرب .
2 – را : حول الميتاسرد كتاب ( السرد المفتون بذاته : من الكينونة المحضة إلى الوجود المقروء ) للناقد العراقي رسول محمد رسول ، منشورات الشارقة 2015 .
3 – رولان بارت « التحليل البنيوي للسرد « ترجمة منذر عياشي مركز الإنماء الحضاري حلب 1993 .
4 – غريماس و جاك فونتني « سيميائيات الأهواء « ترجمة سعيد بنكراد دار الكتاب الجديد 2010 .
5 – محمد الداهي ّ متعة الإخفاق : المشروع التخييلي لعبد الله العروي « المركز الثقافي للكتاب الدار البيضاء 2022
6 – هيجل « فينومولوجيا الروح « – بالفرنسية – منشورات فلاماريون باريس 2012 .
7 – و قد اعتمدها بعد ذلك في مختلف رواياته و صارت استراتيجية نصانية لتنسيب الصوت و الوعي السردي
8 – ذلك هو عمق الأطروحة النظرية لميخائيل باختين في مختلف كتبه .
9 – بول ريكور « الذات عينها كآخر « ترجمة جورج زيناتي المنظمة العربية للترجمة بيروت 2005 .
10 – كيبيدي فارغا « خطابات ، الحكي ، الصورة « – بالفرنسية – منشورات مارسيل ديديه باريس 1970 .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.