ابن الحسيمة نوفل أحيدار يناقش أطروحته حول تثمين النباتات العطرية والطبية بالريف    الناظور .. افتتاح فعاليات الدورة 14 للمهرجان الدولي لسنيما الذاكرة    أمين نقطى: زيارة أخنوش لمديونة سنة 2021 آتت أكلها بتنفيذ عدة مشاريع لفائدة الساكنة    كوب 30: تسليط الضوء على جهود المغرب في تعزيز السياحة المسؤولة والمستدامة    ألعاب التضامن الإسلامي (الرياض 2025): البطلة المغربية أمينة الدحاوي تتوج بذهبية التايكواندو لفئة أقل من 57 كلغ    المنتخب المغربي الرديف يتفوق وديا على منتخب جيبوتي ب( 6-0)    حجز كميات قياسية من الكوكايين والشيرا بوجدة وتوقيف أربعة متورطين    أحكام ثقيلة في الحسيمة ضد متهمين بالاتجار في المخدرات القوية والاعتداء على موظفين عموميين    الرميلي: الدولة الاجتماعية تتحقق على الأرض ونجاحات الجماعات الترابية بالبيضاء دليل على أن التنمية المجالية ممكنة    العلمي يهاجم "العقول المتحجرة" .. ويرفض توزيع صكوك الغفران السياسية    سيدات الجيش في نصف نهائي الأبطال    عمر هلال: الدبلوماسية المغربية تقوم على الفعل الملموس بقيادة جلالة الملك    البرازيل تزيد تصدير اللحوم للمغرب    المحروقات للربع الثاني من 2025 .. الأسعار تتقلب وهوامش الربح تستقر    تطبيقا للقرار 2797.. واشنطن تدفع البوليساريو نحو مفاوضات على أساس الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية    منعطف جديد في ملف أدم بنشقرون.. متابعة الأم بجنايات ثقيلة وإحالة الابن على المحكمة الابتدائية    المعتقل نبيل أحمجيق «بلبل حراك الريف» ينجح في مباراة ولوج سلك الدكتوراه    فيروس "ماربورغ" يقتل في إثيوبيا    في ظرف ثلاثة أشهر .. أنترنت الجيل الخامس (5G) يغطي 60 مدينة بالمغرب    نشرة إنذارية.. زخات مطرية محليا قوية مرتقبة اليوم السبت وغدا الأحد بعدد من مناطق المملكة    بعد افتتاحه.. صحيفة AS الإسبانية تشيد بملعب طنجة وتبرز أبرز ميزاته    "كاف" تثمن افتتاح ملعب طنجة الكبير    هجوم إلكتروني بالصومال.. بيانات آلاف الأمريكيين بقبضة مجهولة    المغرب... دولة الفعل لا الخطاب    رياض السلطان يقدم مسرحية الهامش وموسيقى لؤلؤة البحيرات العاجية ولقاء فكري حول ذاكرة المثقف    غزة: عشرات الخيام تغرق في مواصي خان يونس جراء الأمطار الغزيرة    نزاع حول أرض زراعية يخلف قتلى بالعراق    عامل العرائش و السلة الفارغة: كيف أنهى الأسطورة و تحققت نبوءة الانهيار!    وليد الركراكي: علينا المحافظة على الثقة في هذه المجموعة ونحن نعرف كيفية تحقيق الفوز    ليكيب: المغرب يحطم رقمه العالمي في عدد الانتصارات المتتالية بفوزه على الموزمبيق    ترامب: آمل بانضمام السعودية إلى "اتفاقات أبراهام" قريبا... وبن سلمان يزور واشنطن الأسبوع المقبل    ارتفاع سعر صرف الدرهم ب 0,2 في المائة مقابل الدولار الأمريكي ما بين 6 و12 نونبر 2025    استفادة الجيش الصيني من "علي بابا" تثير الجدل    الملك يجدد الدعم لحقوق الفلسطينيين    أمطار رعدية قوية... نشرة إنذارية تشمل طنجة وتطوان وعدة مناطق شمالية    لحمداني ينال "جائزة العويس الثقافية"    وزارة الثقافة تعلن الإطلاق الرسمي لمشروع تسجيل "فن زليج فاس وتطوان" على قائمة يونسكو للتراث الثقافي غير المادي للإنسانية    تطور جديد في ملف "إنتي باغية واحد".. متابعة دي جي فان بتهمة تهديد سعد لمجرد    قمة متناقضة بين "الماط" المتصدر ورجاء بني ملال الأخير    نواب "العدالة والتنمية" يطالبون بلجنة تقصّي حقائق في صفقات الدواء وسط اتهامات بتضارب المصالح بين الوزراء    محام: المحجوزات تتراكم في المحاكم    ترامب يلمح لقرار بشأن فنزويلا والجيش الأمريكي يبدأ عملية ضد تجار المخدرات في أمريكا اللاتينية    إطلاق الموسم الفلاحي الجديد مع برنامج بقيمة 12.8 مليار درهم وتوزيع 1.5 مليون قنطار من البذور المختارة    "ترانسافيا" تطلق أربع رحلات أسبوعياً بين رين وبريست ومراكش على مدار السنة    طقس ممطر في توقعات اليوم السبت بالمغرب    الجديدة تحتضن المؤتمر العام الإقليمي للاتحاد العام للمقاولات والمهن بحضور شخصيات وازنة    هل تستطيع الجزائر تفكيك سردية العداء لبناء وطنها المُتخيَّل؟ .    منظمة الصحة العالمية تعترف بالمغرب بلدًا متحكمًا في التهاب الكبد الفيروسي "ب"    أبوظبي.. ثلاثة أعمال أدبية مغربية ضمن القوائم القصيرة لجائزة "سرد الذهب 2025"    وزارة الصحة تطلق حملة وطنية للكشف والتحسيس بداء السكري    دراسة: ضعف الذكاء يحد من القدرة على تمييز الكلام وسط الضوضاء    المسلم والإسلامي..    دراسة: لا صلة بين تناول الباراسيتامول خلال الحمل وإصابة الطفل بالتوحد    مرض السل تسبب بوفاة أزيد من مليون شخص العام الماضي وفقا لمنظمة الصحة العالمية    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من تأليف إدريس جبري ..قراءة في كتاب: سؤال الحداثة في الخطاب الفلسفي لمحمد عابد الجابري

بداية، أشكر مركز محمد بنسعيد آيت إيدر للأبحاث والدراسات، وجمعية أفق المحمدية، ومركز أجيال 21 للمواطنة والديمقراطية على تنظيم هذا النشاط. أتشرف بإلقاء هذه المداخلة بين يدي المجاهد محمد بنسعيد آيت إيدر. وأنا سعيد بالجلوس إلى جانب أستاذي الدكتور محمد العمري، لأشارك في الاحتفاء بأخي وصديقي وزميلي في مجلة البلاغة وتحليل الخطاب، وهو بالمناسبة المدير المسؤول فيها، الأستاذ ادريس جبري، بمناسبة صدور كتابه: سؤال الحداثة في الخطاب الفلسفي لمحمد عابد الجابري.
هذا الكتاب يسد فراغاً عانت منه المكتبة العربية. فالعمل الرائد الذي قام به المرحوم محمد عابد الجابري ما زال في حاجة إلى قراءة شمولية نسقية وتحليل موضوعي يمارس النقد من أجل البناء والتصحيح، وخلق إمكانات جديدة للتفكير في القضايا والإشكالات التي أثارها مُنجَزُه الفكري، من منطلَق نفس الهم الذي سكنه وحرّكه: همِّ الخروج بهذه الأمة من التخلف والتبعية إلى آفاق النهضة والحداثة دون أن تفقد هُويتها العربية الإسلامية.
وهو ما عمل الأستاذ ادريس جبري على إنجازه في هذا الكتاب. وقد كان واعياً بالنواقص التي شابت معظم الأعمال التي تناولت إنجاز الأستاذ محمد عابد الجابري، والتي اتسمت بالتجزيء والاختزال والانتقاء، ولم »تُلمَّ بالسؤال الناظم لخطابه الفلسفي والفكري الذي أنشأه [...] ولم تَرْقَ بالتالي إلى مستوى مقاصد الخطاب وحصر آليات اشتغاله، وفهم أسباب نزوله«.
وقد تطلب هذا العمل النسقي الذي قام به الأستاذ ادريس جبري قراءة فاهمة لكل أعمال محمد عابد الجابري. وقد ركز فيه على الكتب الأربعة المشكِّلة لمشروعه الفكري: تكوين العقل العربي ? بنية العقل العربي ? العقل السياسي العربي ? العقل الأخلاقي العربي. لكنه كثيراً ما كان يعود إلى كتبه الأخرى، والتي تُعتبر إما ممهدة للمشروع أو امتداداً له، لتعميق الفهم وضبط النسق. وبذلك ضمن لعمله أن يكون ، فعلاً، قراءة نقدية شمولية نسقية للمُنجَز الفكري للأستاذ محمد عابد الجابري.
سأتناول في هذه المداخلة نقطتين:
أولاهما تتعلق بموقف المؤلف من الأستاذ عبد الله العروي والأستاذ طه عبد الرحمن اللذين يحلو له أن ينعتهما ب»المُتاخِمَين الثقافيين» لمحمد عابد الجابري، ويعتبر أنهما يقفان في الخط النقيض لموقفه. وقد صَنّف الأول ضمن ما سمّاه: «الأصولية الحداثية»، باعتبار أنه، أي العروي، يرى أن تحقيق الحداثة لن يتأتى دون القطيعة مع التراث وطي صفحاته، والانتظامِ غير المشروط في قيم الحداثة الغربية ومكتسبات الليبرالية «الأصلية». وصَنّف الثاني ضمن ما سمّاه «الأصولية التراثية»، باعتبار أنه ينزع نحو »نوع من التراث يجد مرجعيته في مجال الخطاب الصوفي، وينتهي عند تأصيل الأصول وتأثيلها من منطلقات تجعله نقيضاً لخطاب الجابري ومطلبه الحداثي، ومرجعاً أثيراً للخطاب التقليدي«.
والموقفان معاً مرفوضان عند المؤلف، باعتبار أنه يقف في صف محمد عابد الجابري الذي يُدرِج خطابه ضمن ما سمّاه: «خطاب إعادة البناء»، والذي يرى أنه لا سبيل لتحقيق حداثة عربية دون القيام بعملية تجديد من الداخل، تعود إلى التراث لقراءته قراءة نقدية تجعله قابلاً للتحديث والتطوير والتجديد، وموصولاً بأسئلة الحاضر وروح العصر، بما يضمن، كما يقول الجابري:»تحديث أصالتنا وتأصيل حداثتنا«. فالحداثة، عنده، مطلبٌ مصيري للوجود العربي. لكن الحداثة التي يطلبها عربية، وهذا المنظور لها يجعل منها ومن التراث وجهين لعملة واحدة. فتحقيقها يتطلب الانطلاق من التراث بروح تاريخية نقدية عقلانية، »فلا وجود، يقول الأستاذ ادريس جبري، لحداثة خارج التراث، ولا معنى لتراث دون حداثة [...] متى كانت الغاية من تفاعلهما تحقيقَ حداثة قومية«4. إن موقف الأستاذ عابد الجابري موقف استراتيجي يهدف إلى «تبيئة» الحداثة وقيمها العقلانية والديمقراطية في التربة العربية من بوابة التراث الإسلامي.
ليس المقام مقام مناقشة للمواقف الثلاثة، بل ما أسعى إليه في هذه المداخلة هو تأكيد صحة تصنيف المؤلف لموقف الأستاذ العروي وطه عبد الرحمن من خلال نصوص لهما تثبت ذلك.
وأبدأ بالأستاذ عبد الله العروي الذي يرى أن »تحقيق الحداثة في بعدها الليبرالي وتَدارُك التأخر [...] طموحٌ يستعصي إنجازه [...] دون الإقدام على القطيعة مع التراث وطي صفحاته«. فهو يقول: »لا بد إذن من امتلاك بداهة جديدة. وهذا لا يكون إلا بالقفز فوق حاجز معرفي، حاجزِ تراكم المعلومات التقليدية. لا يفيد فيها أبداً النقد الجزئي، بل ما يفيد هو طي الصفحة... وهذا ما أسميته ولا أزال أسميه بالقطيعة المنهجية«.
هذه القطيعة مع التراث التي يدعو إليها على صعيد الفكر، يرى أنها حدثت بالفعل في الواقع. من هنا، فالتراث »معطى «ميت» انتهت صلاحيته بانتهاء الظرفية التاريخية والثقافية والحضارية التي أنتجته«. يقول: »رباطنا بالتراث الإسلامي في واقع الأمر قد انقطع نهائيّاً وفي جميع الميادين. وإن الاستمرار الثقافي الذي يخدعنا، لأننا ما زلنا نقرأ القدامى ونؤلف فيهم، إنما هو سراب. وسبب التخلف عندنا هو الغرور بذلك السراب وعدم رؤية الانفصام الواقعي، فيبقى حتماً الذهن العربي مفصولاً عن واقعه، متخلفاً عنه«. وهو يرى أن دراسة التراث تتطلب أولاً القطيعة معه لتتصف بالعلمية والموضوعية. يقول: »لا يستطيع أحد أن يدّعي أنه يدرس التراث دراسة علمية موضوعية إذا بقي هو ? أعني الدارس ? في مستوى ذلك التراث. لا بد له قبل كل شيء أن يعي ضرورة القطيعة وأن يقدم عليها. كم من باحث يتكلم عليها كموضوع، وهو بنفسه غير قادر على تحقيقها«. ولتجاوز الذهنية السلفية يراهن عبد الله العروي على »ثورة ثقافية« تسهّل الانتظام في الحداثة، هذه الثورة من شأنها أن تخلق ذهنية جديدة منقطعة عن العقلية السلفية التراثية الأسطورية والخرافية؛ ذهنيةً حداثية علمية وإنتاجية. يقول: »هذه الثورة لا يقوم بها إلا من حمل أدلوجة عصرية. وهي ثورة للأسف أمامنا وليست وراءنا، إذ لا نتصور ثورة علمية منفصلة عن ثورة ثقافية شاملة؛ عن انتقال ذهني من كون إلى كون«. وأريد أن أؤكد أن هذا الكلام في حق الأستاذ عبد الله العروي يسعى إلى بيان موقفه من التراث (وهو موقف فيه نقاش)، ولا يعني بأي حال من الأحوال الغض منه أو التبخيس من جهده العلمي الذي استفدنا منه جميعاً.
فيما يتعلق بالأستاذ طه عبد الرحمن، فهو يقول معبراً عما سماه ب»مبدإ التفضيل التداولي العام»: »ليس في جميع الأمم، أمة أوتيت من صحة العقيدة وبلاغة اللسان وسلامة العقل مثل ما أوتيت أمة العرب، تفضيلاً من الله«. ويستنبط من هذا المبدإ قواعد من بينها ما سماه «قاعدة الاختيار» التي تقول: »سَلِّم بأن العقيدة التي لا تنبني على أصول الشرع الإسلامي، قولاً وعملاً، كائنة ما كانت، لا تُعَدّ عقيدة مقبولة عند الله عز وجل«. ومن بينها كذلك ما سماه «قاعدة الاتساع» التي تقول: »سَلِّم بأن المعرفة الإسلامية حازت اتساع العقل بطلبها النفع في العلم والصلاح في العمل، ولا نفع في العلم ما لم يقترن بالعمل، ولا صلاح في العمل ما لم يقترن بطلب الآجل«. و»قاعدة الاتباع» التي تقول: »لتكن في توسُّلك بالعقل الوضعي، طلباً للعلم بالغايات الخفية للكون، متَّبِعاً إشارات العقل الشرعي«. ويؤمن طه عبد الرحمن بأن الخاصية المميِّزة للإنسان ليست العقل بل «صالح الأخلاق» (بمعناها الصوفي). يقول: »إن هذه الأسماء الثلاثة: «الإنسانية» و»الرجولة» و»المروءة» [وهي الأسماء التي يرى أنها وُضعت في العربية للدلالة على «الخاصية البشرية»، وهي مراتب للأخلاقية، أدناها «الإنسانية» وأعلاها «الفتوة»] تشترك كلها في إفادة معنى واحد هو: «اكتساب الأخلاق الكريمة»، بحيث إن ما ينبغي أن يميز الكائن البشري عن الكائن الحيواني ? أي ما يحدد هُويته ? ليس هو، كما ساد الاعتقاد، ممارسة العقل ? أو قل «التعقل» ? وإنما ممارسة الخُلق ? أو قل التخلق ? ومتى أخل هذا الكائن بشرط التخلق، سقط إلى رتبة الحيوان أو البهيمة«. والأستاذ طه عبد الرحمن يرفض فكر ابن رشد، ويربطه برفضه للحداثة بشكل عجيب. يقول: »وإذا بدا أنهم اتفقوا على أن ينتصروا لابن رشد على الإطلاق، وأن يكونوا رشديين في فكرهم، فإني اخترت أن لا أنتصر له على هذا الوجه. لأنه لا يمكنني أبداً أن أكون رشديّاً [...] فقد شهد المتقدمون والمتأخرون بأن ابن رشد مُقلِّد لأرسطو [...] ولا ينحصر هذا التقليد في شروحه وتفاسيره وملخصاته وجوامعه [...] لمؤلفات المعلم الأول، بل تعداها إلى ما وضعه من مصنفات من عنده [...] ولا سيما كتبه الثلاثة المشهورة: تهافت التهافت والكشف عن مناهج الأدلة وفصل المقال؛ إذ يكفي القليل من التأمل [...] لكي نتبين كيف أن الكتاب الأول منها هو عبارة عن الدفاع عن التقليد في وجه المعترضين على هذا التقليد، ممثَّلين في شخص الغزالي، وكيف أن الكتاب الثاني هو عبارة عن الدفاع عن التقليد في وجه المتكلمين، ممثَّلين في الأشاعرة، وكيف أن الكتاب الثالث هو عبارة عن الدفاع عن التقليد في وجه رجال الدين ممثَّلين في الفقهاء. والأدهى في دعوة ابن رشد إلى التقليد في المجال الفلسفي هو أن يدعونا إلى تقليد من يعود فكره إلى التاريخ السحيق، إذ تفصله عن أرسطو خمسة عشر قرناً، كأن الفترة الحضارية التي عاشها المسلمون لم تكن قطّ، أو كان عطاؤها الفلسفي لا يُعتبر كليّاً. ولما كان ابن رشد قد وضع أصول التقليد في الفلسفة وبدا أبرز مشرِّع له [...] أمدّ المحدَثين بمشروعية هذا التقليد وسهّل عليهم طريق ممارسته. فإذن لا عجب أن يتهافتوا على الفكر الغربي الحديث، ينقلون ويجترّون - كما تهافت هو على أرسطو [...]- معتقدين أنهم دخلوا عصر الحداثة من بابه الواسع«. وهو يعتبر ابن رشد، كما يقول: »فيلسوفاً غربيّاً بلسان عربي، لا فيلسوفاً عربيّاً بعقل عربي، لذلك يكون قد أمات الفلسفة بالنسبة لنا وأحياها بالنسبة لغيرنا«. ومقابل هذا العداء لابن رشد اتجه إلى الغزالي الذي يعتبره محمد عابد الجابري «زعيم» دائرة العرفان، وهي عنده ? أي الجابري ? أحد المعيقات الجوهرية في كل توجُّه عقلاني ومطلب حداثي، فطه عبد الرحمن يعتبر الغزالي كما يقول: »مفكراً عملاقاً قصُر معاصرونا عن مطاولة عقله الكبير فبَخَسوهُ حقه«. والعلمانية عند طه عبد الرحمن تهمة يستعملها استعمال الأصوليين لها، لنزع الشرعية من خصومهم ومُخالفيهم الرأي. فهو يرى أن الهدف من وراء الدعوة إلى تبني فكر ابن رشد كما يقول: »هو بث روح العلمانية في نفوس المسلمين والعرب، كما هي مبثوثة في الفكر الفلسفي الغربي«. وقريب من «تهمة» العلمانية حضور اليهودية والمسيحية عنده حضورهما عند الأصوليين بشحنة عنصرية عدائية. يقول: »فقد أخذ فلاسفة اليهود يوجِّهون على التدريج عموم الفكر الفلسفي الحديث فيما ينبغي أن يثير من أسئلة واستشكالات وما ينبغي أن ينتهج من مسالك ومقاربات، وحتى ما ينبغي أن يتوصل إليه من أحكام واستنتاجات [...] وأدى كل هذا إلى خلق بيئة فلسفية عامة موجَّهة بمعالم القومية اليهودية [...] وهكذا عدنا نشهد في مجال الفكر الحديث تَشكل فضاء فلسفي يهودي عالمي يندمج فيه غير اليهودي اندماج اليهودي فيه [...] وهذا يعني أن الفلسفة القومية اليهودية استطاعت أن تتستر على أصلها القومي، وتُنزل نفسها رتبةَ الفلسفة العالمية«21. وهو لا يتوانى أن يذكر لائحة فلاسفة لا يرى فيهم سوى أصلهم اليهودي، وأنهم عملوا على تهويد الفلسفة، ومنهم: هيرمان كوهن ? فرويد ? شيلر ? بيرجسون ? لوكاتش ? ليفي ستراوس ? هوسرل ? كاسيرر ? ماركوز ? تشومسكي ? دريدا... ليستخلص أن: »الكونية في الفلسفة أو الفلسفة الكونية التي ينتجها النظام العالمي الجديد ? أو ما أصبح يسمى ب»العالمية في الفلسفة» أو «الفلسفة العالمية» ? ليست على الحقيقة إلا فلسفة قومية مبنية على أصول التراث اليهودي المسخَّر لأغراض سياسية، أو قل فلسفة قومية مبنية على اليهودية المسيَّسة«. هكذا فالذين ينتصرون للحداثة، في تصور طه عبد الرحمن، ومنهم بالطبع محمد عابد الجابري، إنما ينتصرون للتراث اليهودي. من هنا فالمتفلسفون العرب يدورون على نفس الاستشكالات والمسلَّمات التي يتضمنها الفضاء الفلسفي العالمي. »يلزم عن هذا، والكلام لطه عبد الرحمن، أن الإنسان العربي، في نهاية المطاف، يتفلسف بما يخدم عدوه وهو لا يدري«.
ذكرت، في بداية هذا العرض، أن الأستاذ ادريس جبري اصطف إلى جانب محمد عابد الجابري في موقفه من التراث والحداثة. وقد دافع عن هذا الموقف بشدة واستماتة، رافضاً ومنتقداً طروحات «الأصولية الحداثية» ممثَّلة في الأستاذ عبد الله العروي، و»الأصولية التراثية» ممثَّلة في الأستاذ طه عبد الرحمن. غير أن هذا الاصطفاف إلى جانب موقف الأستاذ محمد عابد الجابري والدفاع عنه لم يمنعه من الحفاظ على المسافة التي تمكّنه من التعامل النقدي مع مشروعه. وهذا موضوع النقطة الثانية من هذه المداخلة، والتي سأركّز فيها على الانتقاد الرئيس الذي وجهه الأستاذ ادريس جبري لمشروع الجابري، قصد توضيحه وبيان أبعاده.
فمعلوم أن الأستاذ عابد الجابري قسّم العقل العربي إلى ثلاث دوائر ثقافية ونُظم معرفية هي: البيان الذي يضم النحو واللغة والبلاغة والكلام والفقه والشعر والخطابة... والعرفان الذي يحتوي التصوف والتنجيم والسحر... والبرهان الذي يشتمل على الفلسفة والمنطق والرياضيات والفيزياء... ومعلوم أيضاً أن الأستاذ الجابري خلُص إلى أن »ما آل إليه العقل العربي من أزمة وتصدع راجع بالأساس إلى «استقالة العقل» العربي من مهام التجديد والإبداع لمّا لجأ إلى مصادر غير عقلية وغير برهانية. وتتجسد هذه اللحظة التاريخية بقوة في فكر الغزالي الذي انتصر للعرفان الصوفي [...] فكان المجال البرهاني كمنهج أول ضحاياه«.
وقد اعتبر الأستاذ ادريس جبري أن هذه الدوائر المعرفية جاءت »منغلقة على ذاتها، ومفصولة عن باقي الدوائر، الأمر الذي أدى إلى تكريس الانفصال بينهما وقطع أواصر التفاعل والتكامل بينهما. وأنه إذا كانت دائرة البرهان تمثل قمة العقلانية، وكانت دائرة العرفان تمثل قمة اللاعقلانية [...] فإن دائرة البيان بقيت «معلقة» لا هي طالت قمة العقلانية ولاهي التحقت بسفحها«. ويأخذ الباحث على الأستاذ الجابري انحيازه إلى الدائرة البرهانية »في بعدها «الضيق» وانتصاره «المطلق» للعقل وحده دون غيره«، ويرى أن هذا الانحياز فرض عليه »»التقوقع» داخل هذه الدائرة دون توسيعها لتستوعب مكتسبات دائرة البيان«.
إن الأستاذ ادريس جبري، باعتباره بلاغيّاً، لم يستسغ موقف الجابري من البلاغة، واعتبره ضرراً يطال غايات الجابري من مشروعه. يقول: »وهذا يعني أن سكوت الجابري عن البلاغة والبلاغيين، ودورِ البلاغة في تسيير الشؤون العامة للحاضرة اليونانية، لم يكن سكوتاً محايداً «بريئاً»، بل في هذا السكوت «ضرر مقيم» بالمطلب الديمقراطي وبالحداثة السياسية في الوطن العربي التي يتحيز الباحث إليهما بكل ثقله المعرفي والسياسي والإيديولوجي، ويسعى إليهما. ذلك أنه يتعذر من الناحية التاريخية، وبالأساس من الناحية المبدئية، أن يتحيز المرء إلى الديمقراطية، ويسعى إلى الحداثة السياسية، دون أن يستحضر الخطاب الإقناعي/بلاغة الإقناع، ويقر بحقها في الوجود والتواجد إلى جانب باقي المعارف الأخرى في هذا المجال، وذلك بحكم دورها الفعال في تدبير الخلاف، وتصريف التعدد، وخلق الحوار حول قضايا احتمالية مختلفة، والمشاركة في صنع الرأي العام، ثم الدفاع عن «القيم المجردة: العدالة والصدق والخير والجمال»، بل ودورها في «تغيير الأنظمة والأوضاع القائمة» على حد تعبير بيرلمان وتيتكا«.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.