في شمال أفريقيا (أو المغرب العربي) يقع الحديث عن «الكاهنة» بصفتها رمزا وطنيا لشعوب المنطقة والبربر منهم خاصةً، و»شهيدة تونس ضد الاحتلال الإسلامي» كما كتب الصحفي التونسيّ سفيان بن فرحات عام 2012. ويُذكر أنها اسمها ديهيا بنت تابنة (585 م ? 712 م) المشهورة بلقب الكاهنة، وهي قائدة عسكرية وملكة أمازيغية خلفت الملك أكسيل في حكم الأمازيغ وحكمت شمال أفريقيا وتشكل مملكتها اليوم جزءا من الجزائروتونس والمغرب وليبيا.هذه المعلومات المعروضة عن الكاهنة في وكيبيديا تبدو وكأنها حقائق ثابتة موثقة، مستلة من ابن خلدون وابن عذاري المراكشيّ المتأخرين. يُذكر أنها حاربت الرومان والعرب والبيزنطيين أواخر القرن السادس ميلادي، وأنها استعادت معظم أراضي مملكتها بما فيها مدينة خنشلة في الأوراس الجزائري، بعد أن هزمت الرومان شر هزيمة (عن رياض النفوس للمالكي). كما أنها ألحقت الهزيمة بجيش المسلمين بقيادة حسّان بن النعمان عام 693 وتمكنت من طرده بعيدا عن تونس الحالية مرة، خاسرة المعركة في نهاية المطاف (هذا لا يقوله محرّر ويكيبيديا). حاليا ينتصب لها تمثال وسط مدينة خنشلة الجزائرية. تجاهل تاريخي لم تظهر في الأدبيات الأوروبية، الرومانية والبيزنطية وما تلاهما، طيلة العصور، كتابات عن الكاهنة رغم تعمّق الأوروبيين، خاصة الفرنسيين، في التاريخ البربريّ لأسباب ليست بريئة دائما. في السنوات المتأخرة ظهرت كتابات عدة منها مثلا عمل جيزيل حليمي (الكاهنة)، رواية مكتوبة على يد محامية يهودية تونسية، بعيدة عن متطلبات البحث التاريخيّ الجاد، وفيها تعتبرها يهودية. لماذا لم يظهر اسمها في مدوّنات التاريخ الأوروبيّ القديم الذي لم يترك شاردة وواردة تقريباً إلا ومرّ عليها؟. ولأي سبب يتجاهلها لو فعل حقاً؟ لماذا تسهو عن الكاهنة المصادر (الرومانية) و(البيزنطية) بشكل مطبق؟ وهل لدى الرومان الوثنيين والبيزنطيين المسيحيين هواجس مريبة مثل هواجس المسلمين المفترَضة بشأن البربر؟ لا أظن أن الاستحكام بالحجج الإيديولوجية وقضية الهوية المطموسة عمدا واتهام المدوَّنة التاريخية العربية - الإسلامية ستصمد هنا. إن جميع المعلومات التي يستقيها مؤرخو الكاهنة الحاليون مستقاة حصريا من هذه المصادر العربية، ولا شيء البتة عداها. أيقونة شعبية خبر الكاهنة موجود في (فتوح مصر وأخبارها) و(تاريخ أفريقية والمغرب) و(رياض النفوس في طبقات علماء القيروان وأفريقية) و(الكامل في التاريخ) و(معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان) و(البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب) و(كتاب العبر) و(الروض المعطار في خبر الأقطار). وكلها تنقل عن بعضها عدا مرويات ابن خلدون التفصيلية التي تبدو من التاريخ المتوارث الشفاهي الذي جمعه من على ألسنة البربر معاصريه. إن عدم وجود أي مصادر رومانية وبيزنطية، مقلق بالنسبة لشخصية ممنوحة هذه الأهمية الاستثنائية. كما أن المصادر العربية نفسها تبدو في النهاية رواية واحدة جرى تناقلها من كتاب (فتوح مصر) لعبدالحكم القرشي المصري 870 م أي نهاية القرن التاسع الميلاديّ. أضف إلى ذلك عدم وجود أدلة أثرية تبرهن عن وجود هذه الزعيمة والقائدة، سوى الإشارة إلى قصر الجم في تونس وهو ما لا نعرف طريقة منطقية لربطه بها. تبجيل الكاهنة في بعض وجوهه ذو طابع أيديولوجيّ أيقونيّ راسخ، كما لو أننا في المشرق العربيّ نبجِّل هند بنت عتبة لأنها فحسب حاربت الإسلام في حقبة ما.