شهد مدرج المدرسة العليا للدراسات الاقتصادية والتجارية بحي الداوديات بمراكش، السبت الماضي، لحظة عالية متميزة للوفاء لفكر وسيرة الباحث السوسيولوجي، والقائد السياسي الاتحادي المغربي الراحل، محمد جسوس، بحضور وازن لجمهور من الشباب والطلبة ورجال التعليم بعاصمة يوسف بن تاشفين. وهو الحضور الذي يترجم، ليس فقط التقدير العالي لسيرة الرجل، بل أساسا تميز مراكش بارتفاع درجة الانتباه الفكرية والأدبية والعلمية لشبيبتها ولساكنتها منذ عقود. وحين هيأت مؤسسة الأعمال الاجتماعية للتعليم بها ومركز التكوين والأبحاث والدراسات التربوية (ألقى كلمات تأطيرية باسمها الأساتذة: العزيز سيدي، عبد العزيز المسافري والسعيد بوبيل) وراديو مارس (فرع مراكش) الأسباب لاحتفالية فكرية مماثلة، كان التجاوب كبيرا وواضحا ومؤثرا. ذلك أن جمهور الحاضرين النوعي الكبير، رغم طول زمن الاحتفالية التكريمية (حوالي 4 ساعات)، بقي في مكانه ولم يغادر القاعة حتى نهاية اللقاء. كان الشعار الذي نظمت في إطاره تلك الاحتفائية هو «محمد جسوس وثلاثة أجيال من السوسيولوجيا المغربية»، بمشاركة الأساتذة مصطفى محسن، حسن المجاهد، عمر بنعياش ولحسن العسبي. مع شهادة خاصة في آخر اللقاء للأستاذ إدريس أبو الفضل، المحامي الإتحادي، باسم مدينة مراكش من موقعه السياسي كواحد من مسؤولي الإتحادي المركزيين الذي عايش الراحل سياسيا وإنسانيا عن قرب، والذي عدد خصوصيات جسوس التواصلية العميقة، وكذا حسه النقدي سياسيا، وانتصاره دوما للمعاني المغربية، مختتما شهادته القصيرة والعميقة عنه بمقولة كان الراحل دوما يثيرها عن التلاقي الفونيتيكي بين كلمة «الشيطان» وبين أسماء عدد من مفسدي السياسة ببلادنا مثل «أحرضان» و «عرشان»، بالمد المتضمن في آخر كل اسم منها «آن»، مما أثار موجة ضحك كبيرة بالقاعة (بينما تعذر حضور الأستاذ محمد الخصاصي لتقديم شهادته حول الراحل). وكانت البداية بعرض شريط وثائقي (18 دقيقة) يستعرض مسار حياة الراحل الكبير، متضمنا شهادات دقيقة من أساتذة جامعيين وعلماء اجتماع واقتصاد وصحفيين ممن عايشوا محمد جسوس عن قرب، مثلما تضمن معلومات دقيقة تعرف عنه وعن حياته لأول مرة. لتتوالى المداخلات الأربع التي ركزت كل على حدة على جوانب من سيرة الراحل المعرفية والإنسانية. وكانت شهادة مصطفى محسن (أستاذ علم الإجتماع بكلية الآداب بالرباط) أرقها، بلغة شاعرية شفيفة، فيها تفاعل الطالب والمريد مع أستاذه وشيخه. فكانت أشبه ببورتريه خاص يرسم مناقب سيرة الراحل إنسانيا ومعرفيا، نجحت في تقريب الحضور، الذي بقي مشدوها لتفاصيلها، من سي محمد جسوس الإنسان والمربي والعالم. فيما ذهبت مداخلة عمر بنعياش (أستاذ علم الإجتماع بذات الكلية) الدقيقة منهجيا وأكاديميا، إلى رسم ما يمكن وصفه ب «غربة العالم السوسيولوجي» أمام و «وقاحة الواقع» المتخلف للمغرب، مستحضرا آلية التحليل الجسوسي التي كم تتقاطع مع آلية تحليل عالم ألماني كبير من قيمة ماكس فيبر. وكيف أن الراحل نجح في خلق مسافة نقدية مع الواقع وأيضا مع آليات التحليل الغربية لتمثل بنية مجتمع جد معقد التركيب مثل المجتمع المغربي. مثلما انتبه بذكاء لغربة الرجل ضمن عائلته السياسية، التي لم تدرك أهمية توظيف الرؤية الإجتماعية في التحليل السياسي للواقع، خوفا من تهمة اتهام المجتمع أن العطب كامن فيه وليس في الآلية السياسية للدولة. وكان هذا تلميحا ذكيا منه لما سبق وقوبل به التقرير المجتمعي الشهير الذي كان قد أنجزه الراحل خلال المؤتمر الثالث للإتحاد والذي لم يقدم للمصادقة عليه عمليا بسبب ذلك التوجس السياسي. مداخلة حسن المجاهد (أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب بمراكش وأحد مؤسسي تلك الشعبة في تلك الكلية)، المتخصص في جاك بيرك والذي أصدر حوله كتابه الأطروحة «سوسيولوجيا العالم العربي لدى جاك بيرك»، كانت مداخلة أكاديمية علمية دقيقة، سعت إلى تقديم البرهان بالدليل العلمي التحليلي، على أن محمد جسوس حقق تراكما لمبحث السوسيولوجيا مغربيا، لكن بصيغة مختلفة عن المعتاد، سمح اليوم بالجزم على أنه مارس درس السوسيولوجيا بشكل خاص، فيه إبداعية غير مسبوقة. معددا تجليات ذلك، من خلال المزاوجة عند الراحل بين الفعل الميداني (دين السوسيولوجي الإلزامي) وبين التحليل (بناء المعاني)، وأنه كان متهيبا جدا لقيمة مبحثه العلمي، وأنه ظل مقتنعا أنه ليس هناك مجال للتأليف، ما دام أنه لن يأتي بجديد، غير إعادة ترتيب أخرى للمباحث والأفكار التي أنتجها غيره من قبل من المؤسسين الكبار للسوسيولوجيا. وأنه بذلك كان يتميز بمكرمة العالم الفقيه الذي يتهيب قيمة الكلمة وأثر الحرف. وأنه لم يكن معنيا بإغراء النجومية الخداعة للكاتب التي ليس فيها إضافة نوعية للفكر. وهنا سر قوة الراحل من وجهة نظره. فيما ذهبت مداخلة لحسن العسبي (أستاذ تاريخ الصحافة وتقنيات التحرير بالدارالبيضاء والصحفي بيومية «الإتحاد الإشتراكي»)، إلى رسم ملامح شخصية الراحل معرفيا، من خلال إبراز مكرمته في تحرير السوسيولوجيا المغربية من الرؤية الغربية للمدرستين الفرنسية والأمريكية التي اشتغلت على امتداد القرن 20 كله على المغرب. وأنه بذلك أنتج اتجاها ثالثا لملامح مدرسة سوسيولوجية مغربية، ميزتها أنه نقدية للواقع وكذا لأطروحات المدرستين السابقتين، خاصة أطروحات إدموند دوتي وميشو بلير وروبير مونتين وغيريتز وواتربوري. مثلما توقف مطولا عند معنى الموائمة التي حاول الراحل تحقيقها بين العالم والسياسي فيه، التي تترجم من وجهة نظره غربة السوسيولوجيا مغربيا، التي حوربت بشراسة خلال أكثر من 30 سنة على المستوى الرسمي للدولة. فكان الرجل يقاوم على واجهات عدة دفعة واحدة.