لا عينٌ واحدة ولا عيون كثيرة تستطيع أن ترى وأن تُلملم حواشي هذه الفلسطين، سليلة الأزل،المتجددة عبر الفصول والعابرين والمتجذرين في الأرض،وعبر تجاوُر أديان التوحيد وتسامُح المؤمنين...ذلك أن فلسطين المتعددة في سليقتها لها وجود يتلبّسُه الرمز،ويتدثر بغلائل منسوجة من حرير حضاراتٍ مُعتقة،انتسجتْ من خيوطها سردياتٌ كبرى كانت وراء تجدّد التاريخ،وتنزيل الرموز النبيلة إلى معترك الحياة . لكم تبدو هذه الصورة-الإيقونة المُشعّة في الذاكرة،بعيدة مُتوارية أمام فلسطين اليوم،المُمزقة الأوصال،المزروعة أسلاكا وجدرانا عازلة،ومستوطنات مدججة تطارد أهل البلاد،وتهدم بيوتهم،وتجثثُّ أشجارهم وطمأنينتهم ! ما تراه العينُ المجردة الآن،هو فلسطين في وصفها جرحاً في الذاكرة والوجدان،ومأساة ًواقعية يتأججُ لهيبها على مرّ الأيام،وشعبا يقاوم بكل الوسائل المتاحة،ليستعيد الأرض والكرامة والحرية. ما أراه قبل كل شيء،هو فلسطين في وصفها قضية َ تحرير وعدالةٍ إنسانية،تسائل المبدعين والمثقفين على اختلاف أجناسهم ،لأن استمرار الاستعمار الإسرائيلي ضدا على مشيئة الأمم والشعوب هو انتهاك للمبادئ الإنسانية الأولية التي تجعل التعايش والحوار مُمكنيْن في عالم يبتعد أكثر فأكثر عن الصفة البشرية وما تستوجبُه من قيَمٍ في حدها الأدنى... إلا أن سؤال فلسطين وعلاقتي بها،يتخصص نتيجة انتمائي إلى المغرب وإلى حقل الثقافة العربية الواسع ، لأن جزء من الذاكرة المشتركة ودور الإبداع الفلسطيني البارز في المقاومة يطرحان أسئلة لها جذور مُتواشجة تمتدّ ،على الأقل،من مطلع القرن العشرين إلى اليوم.لذلك فإن النظر إلى فلسطين واستجلاء صورتها وبصماتها في نفسي وذاكرتي،هو في الآن نفسه تلمُّس لأهمّ اللحظات التي تتصل وتنفصل من أجل إعادة صوغ سؤال الهُوية في صيرورتها،وسؤال الثقافة والإبداع في تحولاتهما ومساءلتهما للذات والعالم. من هذه الزاوية،تترسّب لديّ أربع لحظات تلوّن الحضور الفلسطيني في مرآة الإحساس والعقل وتوصيف العلاقة : اللحظة الأولى تصطبغ بعلاقة وجدانية مُتحدّرة من هذا الانتماء المشترك إلى فضاء التاريخ واللغة والدين،وإلى تلك الأجواء التي تنحتُ معالم من المتخيّل الجماعي في لاوعي طفولتنا،حيث تكون فلسطين بعيدة وقريبة،تجللها بطولات صلاح الدين وعز الدين القسّام،ويُحفّف هالتَها سوادُ النكبة والتّهجير والاحتلال.هي علاقة وجدانية خالصة أو تكادُ،تجعل من فلسطين امتدادا لفضاء حميمي نُخبئه بين القميص والمسامّ ونرعاه كما الجرح السريّ الثاوي في الأعماق. ولحظة ثانية تتصل بمشاركة مفكري فلسطين ومبدعيها في بلورة مشروع النهضة العربية التي بدأت تتخايل منذ نهاية القرن التاسع عشر،لتضع حدّاً لعصور الانحطاط،وتمهد الطريق أمام الحداثة والتحديث. وهي اللحظة التي تقترن بظهور كتاب روحي الخالدي "علم الأدب عند الإفرنج والعرب وفيكتور هيجو"،مطلعَ القرن العشرين ،حيث تُطالعنا دعوة هذا الفلسطيني الذي أقام سنواتٍ بفرنسا إلى تجديد الشعر والأدب على غرار ما فعله الرومانسيون وهيجو في بلادهم.وفي الفترة ذاتها،نبغت أسماء متعطشة إلى التجديد والمعرفة،من أمثال خليل السكاكيني وخليل بيدس،والشاعر إبراهيم طوقان،ومجموعة من الصحفيين والكُتاب الفلسطينيين كانوا يتصادوْن مع زملائهم وأقرانهم في بلاد الشام ومصر،ويدعمون صرح النهضة المرجوّة...وهي نفس اللحظة التي عرفتْ إمضاء اتفاقية سايس بيكو وقيام الحركة الصهيونية وتجنيد عصاباتها لاحتلال فلسطين العامَ 1948.على هذا النحو،بينما كانت الشعوب العربية تناضل من أجل إحراز استقلالها والتخلص من الاستعمارات،فوجئتْ بزرْع استعمار جديد في قلب الفضاء العربي،يزعزع الكيان،ويُشّرد الآلاف،ويفرض الوصاية الباطشة على فلسطين وعلى جاراتها العربيات. لأجل ذلك،تقترن هذه اللحظة عندي بالبزوغ الكاسح لسؤال العلاقة مع الآخر،مع مستعمِر الأمس العائد من الشبّاك،ومع الهُوية التي لم تعد مُكوناتها الوطنية إبانَ مرحلة الكفاح لنيْل الاستقلال،قادرة على مواجهة مسؤوليات بناء مجتمع العدالة والصراع الديمقراطي،والتصدي لمناورات الاستعمار الجديد وحليفه الصهيوني المحتلّ. * نص الكلمة التي ألقاها الأستاذ محمد برادة في معرض الكتاب برام الله،يوم 12 أبريل 2014