في عدد الجريدة الصادر يوم 21 أبريل الماضي، نشرنا مداخلة الباحث والكاتب المغربي الكبير محمد برادة في معرض الكتاب برام الله، لكن الكلمة وردت مبتورة من جزئها الثاني بسبب خطأ في التواصل الإلكتروني خارج عن إرادتنا. وإذ نعيد نشر كلمة الأستاذ محمد برادة كاملة تعميما للفائدة، فإننا نعتذر للقراء عن ذلك البتر غير المقصود. لا عينٌ واحدة ولا عيون كثيرة تستطيع أن ترى وأن تُلملم حواشي هذه الفلسطين، سليلة الأزل، المتجددة عبر الفصول والعابرين والمتجذرين في الأرض، وعبر تجاوُر أديان التوحيد وتسامُح المؤمنين ... ذلك أن فلسطين المتعددة في سليقتها، لها وجود يتلبّسُه الرمز، وجود يتدثر بغلائل منسوجة من حرير حضاراتٍ مُعتقة، انتسجتْ من خيوطها سردياتٌ كبرى كانت وراء تجدّد التاريخ، وتنزيل الرموز النبيلة إلى معترك الحياة . لكم تبدو هذه الصورة - الإيقونة المُشعّة في الذاكرة، بعيدة مُتوارية أمام فلسطين اليوم، المُمزقة الأوصال، المزروعة أسلاكا وجدرانا عازلة، ومستوطنات مدججة تطارد أهل البلاد، وتهدم بيوتهم، وتجثثُّ أشجارهم وطمأنينتهم ! ما تراه العينُ المجردة الآن، هو فلسطين في وصفها جرحاً في الذاكرة والوجدان، ومأساة ًواقعية يتأججُ لهيبها على مرّ الأيام، وشعبا يقاوم بكل الوسائل المتاحة، ليستعيد الأرض والكرامة والحرية. ما أراه قبل كل شيء، هو فلسطين في وصفها قضية َ تحرير وعدالةٍ إنسانية، تسائل المبدعين والمثقفين على اختلاف أجناسهم، لأن استمرار الاستعمار الإسرائيلي ضدا على مشيئة الأمم والشعوب هو انتهاك للمبادئ الإنسانية الأولية التي تجعل التعايش والحوار مُمكنيْن في عالم يبتعد أكثر فأكثر عن الصفة البشرية وما تستوجبُه من قيَمٍ في حدها الأدنى... إلا أن سؤال فلسطين وعلاقتي بها، يتخصص نتيجة انتمائي إلى المغرب وإلى حقل الثقافة العربية الواسع، لأن جزءا من الذاكرة المشتركة ودورَ الإبداع الفلسطيني البارز في المقاومة يطرحان أسئلة لها جذور مُتواشجة تمتدّ، على الأقل، من مطلع القرن العشرين إلى اليوم. لذلك فإن النظر إلى فلسطين واستجلاء صورتها وبصماتها في نفسي وذاكرتي، هو في الآن نفسه تلمُّس لأهمّ اللحظات التي تتصل وتنفصل من أجل إعادة صوغ سؤال الهُوية في صيرورتها، وسؤال الثقافة والإبداع في تحولاتهما ومساءلتهما للذات والعالم. من هذه الزاوية، تترسّب لديّ أربع لحظات تلوّن الحضورَ الفلسطيني في مرآة الإحساس والعقل وتوصيف العلاقة : اللحظة الأولى تصطبغ بعلاقة وجدانية مُتحدّرة من هذا الانتماء المشترك إلى فضاء التاريخ واللغة والدين، وإلى تلك الأجواء التي تنحِتُ معالم من المتخيّل الجماعي في لاوعي طفولتنا، حيث تكون فلسطين بعيدة وقريبة، تجللها بطولات صلاح الدين وعز الدين القسّام، ويُحفّف هالتَها سوادُ النكبة والتّهجير والاحتلال. هي علاقة وجدانية خالصة أو تكادُ، تجعل من فلسطين امتدادا لفضاء حميمي نُخبئه بين القميص والمسامّ ونرعاه كما الجرح السريّ الثاوي في الأعماق. ولحظة ثانية تتصل بمشاركة مفكري فلسطين ومبدعيها في بلورة مشروع النهضة العربية التي بدأت تتخايل منذ نهاية القرن التاسع عشر،لتضع حدّاً لعصور الانحطاط، وتمهد الطريق أمام الحداثة والتحديث. وهي اللحظة التي تقترن بظهور كتاب روحي الخالدي «علم الأدب عند الإفرنج والعرب وفيكتور هيجو»، مطلعَ القرن العشرين ، حيث تُطالعنا دعوة هذا الفلسطيني الذي أقام سنواتٍ بفرنسا إلى تجديد الشعر والأدب على غرار ما فعله الرومانسيون وهيجو في بلادهم. وفي الفترة ذاتها، نبغت أسماء متعطشة إلى التجديد والمعرفة، من أمثال خليل السكاكيني وخليل بيدس، والشاعر إبراهيم طوقان، ومجموعة من الصحفيين والكُتاب الفلسطينيين كانوا يتصادوْن مع زملائهم وأقرانهم في بلاد الشام ومصر، ويدعمون صرح الاستنارة والنهضة المرجوّة...وهي نفس اللحظة التي عرفتْ إمضاء اتفاقية سايس بيكو وقيام الحركة الصهيونية وتجنيد عصاباتها لاحتلال فلسطين سنة 1948 . على هذا النحو، بينما كانت الشعوب العربية تناضل من أجل إحراز استقلالها والتخلص من الاستعمارات، فوجئتْ بزرْع استعمار جديد في قلب الفضاء العربي، يزعزع الكيان، ويُشّرد الآلاف، ويفرض الوصاية الباطشة على فلسطين وعلى جاراتها العربيات. لأجل ذلك، تقترن هذه اللحظة عندي بالبزوغ الكاسح لسؤال العلاقة مع الآخر ومع مستعمِر الأمس العائد من الشبّاك، ومع الهُوية التي لم تعد مُكوناتها الوطنية إبانَ مرحلة الكفاح، قادرة ً على مواجهة مسؤوليات بناء مجتمع العدالة والصراع الديمقراطي، والتصدي لمناورات الاستعمار الجديد وحليفه الصهيوني المحتلّ. اللحظة الثالثة هي التي انطلقتْ مع بداية ستينات القرن الماضي، بحثا ًعن أفق آخر يخلص الأقطار العربية من التبعية والاحتلال، ويسمح بانتهاج سياسة أكثر استجابة لمطامح مشروع قومي بدأ يتخايل مع الثورة الناصرية، وتنامي قوى التحرر واليسار . والواقع أن تدشين هذه اللحظة - المُنعطف، جاء مع إعلان الكفاح الفلسطيني المسلح لتحرير الأرض وبناء الدولة بعيدا من وصاية الأنظمة العربية ومتاجرتها بالقضية. كان هذا القرار الثوري تأكيدا لعودة فلسطين إلى موقعها الطبيعي المتفاعل مع ما يتخلق وينمو في أحشاء المجتمعات العربية الرازحة تحت سلطوية الأنظمة وضغوط القوى الخارجية ومناوراتها. لكن عودة فلسطين في الستينات لم تكن عودة محدودة بمطامح محلية، بل كانت واعية للسياق المعقد ولاستحالة مناهضة الاحتلال الإسرائيلي بمعزل عن مساندة الشعوب العربية وقوى السلام في العالم...ومن ثم، جاءت الثورة الفلسطينية حاملة لبذور الفكر التثويري الذي يحث على إعادة التحليل والبحث عن تحالفات جديدة تزعزع وطأة القوى المساندة لإسرائيل. وتوَافَق ذلك مع ظهور وعي بأهمية أفق العالم الثالث الباحث عن الخروج من شرنقة الحرب الباردة، والعمل على بلورة طريق للنموّ والتحرر، يستفيد من مناخ الثورة في العالم، ومن انتشار تنظيرات جديدة في كتابات مفكرين ومناضلين من أمثال فرانز فانون وَ تشي غفارا . ولأن الثورة الفلسطينية انفتحت على جميع فئات الشعب ومكوناته، فإنها قبلت بالصراع الديمقراطي، وبالحوار وتعدد الاتجاهات السياسية والإيديولوجية. بعبارة ثانية، كنا أمام مفارقة لافتة للنظر، إذ بينما كانت بقية المجتمعات العربية تعيش طلاقا بين السياسي وَالثقافي، جاءت الثورة الفلسطينية مجسدة ًلتفاعُلٍ خصب بين الثقافي وَالسياسي، نفَض الغبار والتكلس عن الفكر السياسي العربي الذي لم يحقق القفزة النوعية المطلوبة لبناء فكر سياسي متحرر من الإقطاع والطائفية ووَهْمِ المستبد العادل، ومتحررٍ من الإجماع الوطني الذي آل إلى تسلّط الدولة وتكريس الماضوية. ولم تكن هزيمة 1967 سوى برهنة ملموسة على شبحية الأنظمة العربية وخواء فكرها السياسي.لذلك، كانت أصوات الثورة الفلسطينية في تعددها وحمولاتها الإيديولوجية، ومنجزاتها الفدائية، دفقة ً من الهواء الجديد الذي أنعش الآمال ونبّه الجميع إلى ضرورة تخليص الشعوب العربية من قمقم الوصاية الفوقية، وتحرير الإرادة السياسية من التخاذل والخضوع. لكن ما يسترعي الانتباه في هذه اللحظة الثالثة، هو الزخْم الإبداعي والثقافي الذي واكب قيام الثورة الفلسطينية، إذ خلال عقديْن من الزمن(1960 - 1980)، حقق الإبداع الفلسطيني حضورا لافتا، واندرج في سيرورة الإبداع العربي مثبتا فشلَ مخططات الصهيونية المتعلقة بتهويد الثقافة الفلسطينية وطمس أبعادها العربية. سواء داخل فلسطينالمحتلة أو بين عرب 1948، ظلت اللغة العربية والإبداع الفلسطيني متابعيْن لإنتاجهما، متفاعليْن مع تجارب المبدعين في الفضاء العربي، مواكبيْن مسار التجديد على المستوى العالمي. وفي هذه الفترة بالذات، توثقت صلة الحقل الثقافي المغربي بالإبداع والثقافة في فلسطين، سواء من خلال انتشار مؤلفات أسماء وازنة من أمثال إميل حبيبي، فدوى طوقان، سميح القاسم، غسان كنفاني، يحيى يخلف، جبرا إبراهيم جبرا، سحر خليفة، محمود درويش، أحمد دحبور...، على سبيل المثال لا الحصر. أو من خلال تدريس بعض هذه الأعمال في المدارس وكليات الآداب. ولا شك أن توافد عدد لا بأس به من المبدعين والمبدعات الفلسطينيين على المغرب، قد أتاح للقراء والمهتمين في بلادنا، أن يتعرفوا على إسهام الإنتاج الفلسطيني في تطوير الأدب العربي الحديث، وتطعيمه بأبعاد دلالية وجمالية نابعة من التجربة ومعاناة المأساة. وأظن أن العلاقة التي أنشأها محمود درويش مع جمهوره في المغرب، هي علاقة نموذجية يُضرب بها المثل لأنها امتدت أكثر من عشرين سنة، وشهدت على مرافقة حميمة بين هذا الشاعر المتميز والمتلقين المغاربة الذين صفقوا لتحولاته الشعرية والجمالية الواصلة بين قلق الذات وعذاباتها، وبين ملحمة شعب يقاوم من أجل الحرية والكرامة... وضمن هذه اللحظة، أستحضر تفاعلا مغربيا مع تجليات الثورة الفلسطينية وثقافتها تجسّد في إسهامات ومواقف أربعة مغاربة، اثنان مسلمان، واثنان يهوديان . الأولان هما المهدي بن بركة الذي كتب دراسة رائدة عن التغلغل الإسرائيلي في إفريقيا، والثاني هو المناضل عمر بنجلون الذي أصدر صحيفة أسبوعية تحمل اسم فلسطين في نهاية ستينات القرن الماضي، خصصها لمتابعة منجزات المقاومة وتحليل السياق الجيو- بولتيك المحيط بها. وأما المغربيان اليهوديان، فهما المفكر والمناضل إبراهام السرفاتي والكاتب إدموند عمران المالح اللذان هاجما المشروع الصهيوني بقوة، وندّدا بالاحتلال الإسرائيلي وساندا الثورة الفلسطينية طوال حياتهما. اللحظة الرابعة، هي التي نعيشها منذ توقيع معاهدة أوسلو سنة 1993 إلى الآن، والتي على رغم مرور أكثر من عشرين سنة، لم تؤد إلى إقرار السلام وتمكين الفلسطينيين من تأسيس دولتهم. بل على العكس، ضاعفت إسرائيل التعسّف والتنكيل والقتل والاعتقال، مبرهنة بالملموس على أنها لا تريد سلاما ولا تعايشا مع دولة فلسطينية. لكن ما يستحق التسجيل في هذه الفترة الراهنة، هو انبثاق شرارة مضيئة وسط الليل العربي المدلهمّ، انطلقت من تونس ومصر وأقطار أخرى، تنادي بالتغيير وإرساء أسس ديمقراطية، واستعادة كرامة المواطن العربي المُهانة. وهي انتفاضات تستلهم روح الانتفاضة الفلسطينية، وتلتقي معها في ضرورة تكسير القيود التي تحول دون استعادة الحرية والكرامة، والانخراط في التاريخ من منظور الحداثة وروح العصر. من جديد ، إذن، تجد المجتمعات العربية نفسها أمام سؤال النهضة المُجهضة والذي يمكن تلخيصه في : كيف السبيل إلى تحقيق نهوض عربي يستند إلى حداثة متكاملة، ملموسة، يتفاعل فيها السياسي والثقافي والاجتماعي، وتضمن تحرير الأرض والمواطن؟ ولا جدال في أن الإجابة على هذا السؤال الاستعجالي، يضع فلسطين وقضيتها ونضالها في قلب المعركة الساعية حقا إلى التغيير والانخراط في التاريخ. وأكتفي هنا بالتوقف عند المجال الأدبي والإبداعي، وما يشتمل عليه فلسطينيا وعربيا من إمكانات تُشكّل نواة صلبة لتطوير الوعي والارتقاء الجمالي، وممارسة النقد الفكري. إن ما لا يحتاج إلى تأكيد، هو أن الأدب والإبداعات الفنية العربية المختلفة، قد جسدت منذ ثلاثينات القرن الماضي، واجهة للتعبير عن التبدلات العميقة التي عرفها الفضاء العربي، من خلال أشكال فنية تنتسب إلى الحداثة والتجريب، وتتفاعل مع الأشكال التراثية، وتسهم في صوغ رؤية إلى العالم والقيم المتصارعة. ومن ثم، جسّد قسط كبير من الأدب والفن العربييْن الحداثة المفتقدة في مضمار السياسة وتدبير المجتمع ومحتوى المؤسسات. وهي مُفارقة تقتضي التأمل والتحليل، لأنها تسائل مجموع المبدعين دون استثناء، بالنظر إلى تغيّر حوامل الإبداع والثقافة، وانتشار الوسائط الإلكترونية والرّقمية، وطغيان مجتمع الفُرجة...من هذه الزاوية، تكتسي إشكالية الإبداع والثقافة في العالم العربي طابعا مشتركا، يستدعي إعادة التحليل وتبريز العناصر المسعفة على استيعاب هذه المرحلة المستجدة في مسارنا الإبداعي. ولعل استحضار ما وصلت إليه التجربة الإبداعية الفلسطينية اليوم، يساعدنا على التقاط بعض العناصر الكامنة وراء هذا التألق والفعالية. ذلك أن فلسطين، على رغم رقعتها الجغرافية المحدودة، وعلى رغم الاحتلال والقيود، استطاعت أن تنجب في الأدب والنقد والسينما والفنون التشكيلية مبدعين لهم صيت واعتبار عربيا وعالميا. ولعل سر هذا التميز يعود إلى ما لخصه محمود درويش قائلا : « لا شيء يمنع مبدعا ينتمي إلى ثقافة محلية من أن يطمح إلى معانقة الإبداع العالمي «. وأضيف بأن مأساة الشعب الفلسطيني ومحنة الشتات، والكفاح لاستعادة الحرية، هي تجربة تلخص وجها مهما من محنة الإنسان في العصر الحديث، وتمدّ الإبداع بالضوء المتخطي للجدران. داخل فلسطينالمحتلة أو خارجها، في أرجاء الفضاء العربي أو أصقاع المهاجر، يضطلع الأدب والتعبيرات الفنية المختلفة بالبحث عن التمثيل الأقرب إلى حقيقة الفرد المتمرد على البطركية والماضوية، وصيرورة الهوية الجماعية المتعددة المتجهة نحو المستقبل المجهول.الكتاب والفنانون المنتمون إلى الفضاء العربي، يبدعون وظهورهم إلى الحائط، سواء كانوا تحت الاحتلال أو في المهاجر أو داخل الوطن. يبدعون لحسابهم الخاص في لحظة المواجهة والمكاشفة واستجلاء الأفق الآتي، بعيدا عن الوصاية الإيديولوجية والتحجّر الأصولي. ذلك ان بزوغ الحياة في دورة الربيع لم تعد تقبل التأجيل. واستعادة فلسطين للحرية والكيان لم يعد يقبل التأجيل ، والإبداع هو دائما مراهنة على خلق الجمال، وإعلاء القيم الإنسانية، ومعانقة الثورة الدائمة. ما يمكن أن تؤكده عيون مغربية، على ما في استبصارها من محدودية، هو أن فلسطين المبدعة في ثورتها وتعبيرات أبنائها وأجيالها، هي رأسمال ثمين لا غنىً للطلائع العربية عنه، من أجل تصحيح خطوات النهضة المُجهضة ومعانقة الربيع الذي يمر بولادة عسيرة، شأن كل اللحظات المفصلية في تاريخ الأمم.