أطلقت اللجنة الوطنية للوقاية من حوادث السير، قبل أشهر، طلبات عروض خاصة بإنتاج وتقديم عرضين مسرحيين في مجال السلامة الطرقية، وقد أشرفت لجنة مكونة من فنانين ومتخصصين برئاسة الأستاذ حسن بحراوي، على انتقاء ودراسة المشاريع المقدمة، وأسفرت أشغالها عن فوز فرقة مسرح فنون من الرباط بالصنف الموجه للكبار ومسرح أرلكان من مراكش بالصنف الموجه للصغار، واللتين ستنظمان جولتين مسرحيتين من خمسين عرضا لكل منهما. ومن خلال تتبعنا للمسرحية الموجهة للأطفال والتي تحمل عنوان «طريق السلامة « للكاتب والمخرج المسرحي عمر الجدلي، واستقرائنا لمختلف ردود الأفعال والانطباعات الحسنة التي خلفتها العروض المسرحية المبرمجة في المخيمات الصيفية والمقدرة بخمسة وثلاثين عرضا، والتي عرفت نجاحا ملفتا وتجاوبا كبيرا من لدن أطفال المغرب على مختلف مشاربهم، مما يؤكد تفرد التجربة وأهميتها وقوة مساهمتها في نشر مبادئ التربية الطرقية بطريقة تربوية سلسلة تحفل بالفرجة ومختلف أشكال التعبير الجمالي، أبينا إلا أن نضع بين يدي القارئ الكريم هذه القراءة إسهاما منا في تثمين التجارب المسرحية الجادة والمرتبطة بواقع المجتمع المغربي وبإشكالاته وقضاياه. النص المسرحي، فكرة ذكية وبناء درامي متين كتب النص المسرحي «طريق السلامة « بلغة عربية أنيقة وبتراكيب وجمل بسيطة تراعي المستوى العقلي والوجداني للطفل، لكن المثير فيه هو فكرته النيرة والتي صنعت تفرده وتميزه. تتمحور الفكرة حول الطفل سامي الذي يعيش في غرفته بين خمسة دمى، لكنه يشعر بالحزن الشديد لكونه لم يتمكن من إنجاز بحثه المدرسي حول السلامة الطرقية، حيث أن المطلوب هو إجراء استطلاع للرأي حول سلوك السائقين والراجلين في الطريق، إلا أنه لم يتمكن من مغادرة البيت لأن أباه في العمل وأمه تمنعه من مغادرة البيت خوفا عليه من الشارع. بقوة اللعب الطفولي تتحول الدمى إلى شخصيات حقيقية وتقرر مساعدة سامي في إجراء البحث المطلوب، وذلك عن طريق ابتداع ولعب مجموعة من المواقف المتعلقة بسلوكنا على الطريق، وهكذا تشكل كل لوحة من لوحات المسرحية حادثة أو خطأ أو موقفا يكون الطفل طرفا مباشرا فيه. وقد نجح الكاتب إلى حد كبير في رص أفكار النص وترصيع بنياته المختلفة بمقاطع شعرية شكلت الخلفية الأدبية لأغاني ورقصات رائعة ساهمت بقوة في صناعة الفرجة المسرحية ودعم الجانب الاحتفالي والملحمي والتعبيري (الكوريكرافي) في العمل. وقد استطاع عمر الجدلي أن يزاوج بتناغم جميل بين اللغة العربية الفصحى، لغة الدمى وعالمها المتخيل، والدارجة بوصفها لسان الجدة ولغة الواقع، وهو توليف محمود استعمل بمكر للمساعدة على رفع اللبس الذي كان من الممكن أن يحدث بين حياة الطفل سامي الواقعية وحياته الافتراضية مع أصدقائه الدمى. ومن نافلة القول أن نثني على اختيار لجنة التحكيم لنص باللغة العربية الفصحى بما في هذا الاختيار من إشارات قوية ضدا على كل المزايدات التي تستهدف لغة الضاد، وقد أكد المؤلف على نجاعة هذا الاختيار وتوفيقه بأن أبدع عملا جميلا باللغة العربية الفصحى مع احتفاظه، في بعض المشاهد، بالدارجة المغربية كلسان فخر لكل المغاربة. الشخصيات منتقاة بعناية وتجد امتدادا مباشرا لها في عالم الطفل تتكون شخصيات المسرحية من الطفل سامي الذي يلعب دوره الفنان عبد الصمد الغرفي والجدة كلثوم والتي تجسدها الفنانة لطيفة أمني بالإضافة إلى الدمى الخمسة وهي البهلوان فرحان ويؤدي دوره الفنان وليد مزوار الدمية عبير وتلعبها الفنانة ماجدة أزناك والسقاء ( الكراب ) صلاح الذي يجسده الفنان عبد الرحيم الزبيري والأرنب أرنبان ويتقمصه الفنان شريف وكلاندور، وأخيرا الشرطي معقول الذي يؤديه الفنان الكبير عبد اللطيف خمولي. والملاحظ أن كل هذه الشخصيات هي مرتبطة ارتباطا وثيقا بالعالم المثالي للطفل، سواء تعلق الأمر بمجال الأحاجي والقصص المثيرة أو بالرسوم المتحركة التي يتعامل معها الطفل ويتماهى معها بشكل يومي. لذلك ومن خلال مراقبة متتبعي المسرحية من جمهور الأطفال، نلاحظ الانجذاب الكبير لكل الفئات العمرية لهذه الشخصيات منذ ظهورها لأول مرة واستمرار التجاوب معها إلى نهاية المسرحية مع تفاوت هذا التجاوب من شخصية إلى أخرى حسب الجنس والعمر والميول النفسي، وقد أكد هذا الانجذاب وقواه طريقة الأداء المختلفة للممثلين كل حسب الشخصية التي يتقمصها إن على مستوى الصوت أو الإيماء أو الحركة أو الانفعال، مما يدل على وجود بحث معمق في كل شخصية على حدة أثناء التداريب وعلى إدارة محكمة للممثلين، ومما يدل أيضا على تفوق المخرج في انتقاء الممثلين وتوزيع الأدوار والاشتغال على الشخصيات. المعالجة الفنية تتأسس على تقديم رسائل تربوية بطريقة مبهرة لعل من جوانب قوة هذا المنجز الفني خروجه عن المباشرة وجنوحه إلى الإيهام وتقديم مادته بطريقة غير مباشرة تعتمد الإثارة والتشويق وتخلو من السطحية والرتابة وتتبنى تقنيتي لعب الأدوار واللعب داخل اللعب، وهما إحدى أهم التقنيات التي يرتكز عليه مسرح الطفل المعاصر. وقد تشكلت التيمات الأساسية للمسرحية من مجموعة من الرسائل الخاصة بالسلامة الطرقية وحسن استعمال الطريق، وفي مقدمتها التسامح بين مستعملي الطريق والتعريف بالإشارات الضوئية والحث على احترامها، واستعمال رصيف الراجلين والممر الإجباري الخاص بالدراجات، وعدم الجلوس في المقعد الأمامي للسيارة للأطفال الأقل من عشر سنوات، وارتداء الخوذة الواقية للأطفال مستعملي الدراجات، وتجنب اللعب في الطريق، والمساهمة في نشر مبادئ السلامة الطرقية، بالإضافة إلى احترام مختلف علامات التشوير الطرقي. ويبدو من خلال هذا الكم من الرسائل أن المسرحية توفقت بشكل كبير في تحقيق الهدف المتوخى منها والذي راهنت عليه اللجنة الوطنية للوقاية من حوادث السير للفعل في مجتمع الصغار كفئة معرضة، قبل غيرها، لحوادث السير وآفات الطريق. وجدير بالإشارة أيضا إلى أن قوة المعالجة في النص المسرحي استمدت مقوماتها من طبيعة اللوحات وتسلسلها المنطقي وارتباطها باللعب كمتعة وبالمكان/ غرفة الطفل سامي، كفضاء للعب، والذي يتحول إلى طريق عام بمختلفة مكوناته، ثم يعود لحالته الأولى عند دخول الجدة بين المشاهد، ونفس التحول تعرفه الشخصيات الخمسة التي تتبدل إلى دمى، ثم تعود لبشريتها بعد انصراف الجدة. إن كل هذه الاختيارات الجمالية، في الكتابة والإخراج، معا جعلت من هذا العمل تحفة فنية جديرة بالمشاهدة والتأمل. المكون السينوغرافي بين جمالية التأثيث وبلاغة الرمز اعتمدت السينوغرافيا في مسرحية «طريق السلامة « على جانب الإبهار بتبني عنصري اللون والشكل لتحقيق المتعة البصرية للطفل المتلقي ولخلق الشروط الموضوعية لتمرير الخطابات المطلوبة. تتكون غرفة الطفل سامي من سرير وخمسة دمى ومجموعة من المكعبات، وقد ركز السينوغراف اشتغاله على المكعبات ليحدد بها ومن خلالها فضاء اللعب. وقد بدا جميلا تحول المكعبات في كل مشهد إلى سيارات ولوحات وأيقونات جمعت بين البعدين الجمالي والوظيفي، وقد طغى الرمزي على الواقعي في اختيار صعب للغاية باعتبار العمل موجه للطفل، وكان من المفترض في عمل من هذا النوع عدم الدخول في مجازفة لعبة الرمز والدلالة نظرا للمستوى الإدراكي للفئات المستهدفة التي يصعب عليها، في لحظات التلقي، إعمال التفكير والتحليل معا لتكوين فكرة سريعة عما تتلقاه من مشاهد، لكن التناول الإخراجي استطاع أن يربح هذا الرهان وأن يحقق المتعة والاستفادة في آن واحد باعتماده على جسد الممثل وعلى سرعة الحركة وتناغم التعبيرات الجسدية، فكم كان مبهرا للكبار قبل الصغار أن تتحول المكعبات من حروف هجائية وعبارات توعوية إلى سيارة حمراء ثم إلى أخرى صفراء في لمحة البصر مما يجعل المتلقي أمام مناظر تتحول وتبدل في حركات راقصة فيما يشبه لعبة (( le puzzle الشهيرة. وقد ساعد اختيار الألوان على نجاح الفكرة وتحقيق المتعة المطلوبة خصوصا وأن أرضية فضاء اللعب (غرفة الطفل / الطريق) كانت عبارة عن رقعة بمربعات من الأبيض والأسود، مما أعطى القيمة الكبيرة للألوان الأخرى لتفرض هيمنتها الجمالية والوظيفية. التصور الإخراجي: عمق الرؤية وتعدد الأدوات بقدر ما تعتبر الكتابة للطفل عملية معقدة تتطلب أدوات خاصة ودراية كبيرة بعوالم الطفل وشروط نموه العقلية والنفسية والوجدانية، فإن إخراج أعمال مسرحية موجهة للصغار يتطلب درجة عالية من الإلمام بمختلف المتطلبات والميولات الخاصة بالطفل، وكذا الاطلاع على التخصصات العلمية التي تضع الطفل في صلب اهتمامها، ناهيك عن توفر المخرج على مقدرة فنية ومؤهلات عملية تمكنه من تلبية الحاجيات المنتظرة للفئات المستهدفة. لقد كانت عملية الإخراج هنا بصدد التعاطي مع ثلاث تحديات حقيقية، أولها نص قوي بلغة عربية فصحى، وثانيها جمهور مفترض من الأطفال بمختلف الأعمار والمشارب والتوجهات، وثالثها حوارات ومواقف بحمولة فكرية ورسائل تربوية مرتبطة بموضوع حساس، لا يحتمل الخطأ أو اللبس أو سوء التقدير، ألا وهو السلامة الطرقية والتربية على احترام قانون السير ومبادئ استعمال الطريق. ومن خلال القراءة المتأنية والتأمل الرصين للعرض المسرحي بمختلف مكوناته، يبدو أن المخرج انطلق من عملية تفكيك ذكية قوامها تحويل المشاهد إلى لوحات فنية وإنتاج مثن جمالي يوازي متن الحكاية يعتمد على حضور الجسد والموسيقى والسينوغرافيا. لقد حولت الموسيقى والألحان المسرحية إلى ملحمة راقصة شكلت خلفية نفسية مهمة لتمرير الخطاب التوعوي الذي تحفل به الأغاني، كما أن حضور الجسد بتنويعاته التي يفرضها تباين الشخصيات ويكرسها اختيار أنسنة الحيوانات والدمى، أعطى نفحة خاصة للعب الممثلين وانتصر للكوميديا التعبيرية التي شكلت قوام الفرجة وعمادها الأساسي، لذلك فقد كان الأطفال، خلال كل عرض، وعلى امتداد ساعة من الزمن، أمام حكاية تربوية هادفة بمواقف طريفة تصنعها كاريكاتورية الشخصيات وطبيعة آدائها، وسط فضاء مبهر وضمن جو احتفالي بهيج. إن تعدد الأدوات الإخراجية وانسجام الرؤية مع بنية النص ومضامينه مكنا من تجاوز الصعوبات التي كان يطرحها مجرد التفكير في تحويل نص « طريق السلامة « إلى عرض حي يليق بمستوى التلقي لدى طفل اليوم. ومما لا شك فيه أن تبني رؤية شاملة تستحضر مكونات العرض المسرحي الحديث وتستدمج كل الطاقات الإبداعية لفريق العمل، بالإضافة إلى الحس الإنساني بأهمية الموضوع وحساسيته من شأنه أن يفضي إلى نتيجة جيدة كالتي عايناها خلال العروض الأولى للمسرحية. تستعد فرقة مسرح أرلكان، كما جاء في بلاغها الصحفي، لتنظيم الجزء الثاني من الجولة المسرحية، ويشمل خمسة عشر عرض داخل القاعات بالمدن المغربية للكبرى، وستكون مناسبة حقيقية، حسب البلاغ، لتقديم هذا المنتوج المسرحي المتميز، في شروط حقيقية، ومناسبة أيضا للانفتاح على جمهور آخر من شأنه أن يقيم هذه التجربة تقييما حقيقيا، ألا وهو جمهور النقاد والصحفيين والفنانين والمتخصصين في مجال الطفل. مسرحية « طريق السلامة « تجربة فريدة ينبغي استثمارها على نطاق أوسع لما تختزل من قوة في مضامينها ذات البعد التحسيسي، الاجتماعي والإنساني، وفي شكلها الفني كفرجة حديثة تحقق تجاوبا كبيرا مع شرائح الأطفال وتحقق لديهم المتعة والتسلية والاستفادة.