يشكل تأسيس المعهد الإسلامي(معهد محمد الخامس) بتارودانت حدثا محوريا في تاريخ سوس والمغرب عموما خلال فترة ما بعد الاستقلال، وذلك بالنظر إلى السياق العام الذي جاء في إطاره هذا التأسيس، وكذا نظرا للمسار الذي اتخذه تأسيس المعهد، منذ انبثاق فكرته، وإلى حين شروعه الفعلي في أداء رسالته التربوية و العلمية والدينية والاجتماعية والتنموية. كما أن هذا الحدث (حدث تأسيس المعهد الإسلامي) شكل لحظة مميزة من لحظات ملحمة مغرب ما بعد الاستقلال، حيث التحمت إرادة العرش بإرادة الشعب في تناغم سلس يروم وضع إحدى لبنات المغرب المستقل الفتي آنذاك، من خلال هذا المشروع الوطني الطموح، الذي شكل بالفعل مدرسة تجسدت فيها كل القيم الوطنية النبيلة: قيم التضامن والتكافل الوطني، قيم حب الوطن والبدل والتضحية من أجل رقيه ورفعته، قيم التمسك بثوابت هوية المغرب الثقافية والحضارية، وبناء نموذج تنموي يجعل من التعليم ومحاربة الجهل والتخلف حجر الزاوية... وهو ما يجعل من هذا المشروع نموذجا رائدا وطلائعيا يجسد قيم التنمية البشرية الحقة. البعد الشعبي لمشروع تأسيس المعهد الإسلامي: ككل مشاريع التنمية البشرية لم تكن فكرة تأسيس المعهد الإسلامي بتارودانت تشكل ترفا فكريا، بل إنها نبعت عن إحساس شعبي عميق بالحاجة الملحة لهذا المشروع، وذلك نظرا لتردي أوضاع العلم والتعلم، وتفشي الأمية والجهل بالمدينة وأحوازها، بعد ما كانت عبر تاريخها منارة إشعاع فكري، وإحدى عواصم المغرب الثقافية والعلمية الكبرى، ولعل أسباب هذا الوضع المستجد تكمن في: ٭ تضييق سلطات الحماية على التعليم الإسلامي، ومدارسه العتيقة لدورها في مواجهة الاستعمار وإذكاء جذوة الروح الوطنية. ٭إحجام الكثيرين من أهل المنطقة عن وضع أبنائهم في المدارس العصرية التي اعتبروها قناة لتمرير القيم الغربية، البعيدة كليا عن القيم الأصيلة للمجتمع المغربي، ووسيلة ممهدة لقبول الاستعمار ونظامه (هذه الوضعية التي آلت إليها المدينة رثا لحالها كل علماء المنطقة ومن ضمنهم العلامة المختار السوسي). كان مشروع تأسيس المعهد الإسلامي، إذن، وسيلة أساسية لإعادة التوازن المفقود، لنظام المغرب التعليمي بعد الاستقلال، وأداة لتعزيز الشعور الفعلي بالاستقلال عبر إنشاء تعليم أصيل يشرف عليه المخزن المغربي بموازاة التعليم العصري الذي وضعت أسسه سلطات الحماية الفرنسية. ولعل هذا ما يفسر الإقبال المنقطع النظير الذي لاقاه المعهد، وتدفق أفواج الطلبة عليه من مختلف الأعمار ومن كل المناطق والآفاق. وما أبدوه من رغبة عارمة في التعلم والتحصيل قصد المساهمة فعليا في بناء صرح هذا الوطن وضمان رقيه وتقدمه. ترسيخ دور العلماء كضامن للتواصل بين السلطان وشعبه: إن ما قام به علماء تارودانت، وعلماء سوس، إما بصفة تلقائية، أو من خلال تنظيم جمعية علماء سوس، من توجيه الرسائل إلى تقديم المذكرات المطلبية للسلطان بخصوص إحياء التعليم الإسلامي بسوس، ليؤشر على نجاح العلماء في استرجاع دورهم المحوري كقوة اقتراحيه بناءة، تنقل نبض الشعب ومطالبه، ورغباته، وأمانيه إلى حضرة السلطان، فتضمن بذلك استمرار ذلك التواصل الذي سعى الاستعمار وعملاؤه بكل ما أوتوا إلى قطعه وتعطيله. لقد شكل الحوار الذي استمر لسنوات بين مختلف فئات المجتمع السوسي وبين السلطان محمد الخامس رحمه الله، لحظة مميزة تأكد من خلالها حرص السلطان على الإنصات لمطالب شعبه، والسعي لإرضائه عن طريق العمل المشترك لتحقيق مطالبه المشروعة. وقد حظيت فكرة إنشاء المعهد الاسلامي بتارودانت بشرف أنها كانت موضوع حوار استمر بن تجار سوس والسلطان، ثم بين علماء سوس والسلطان. وقد أفضى هذا الحوار اقتناع السلطان بسداد الفكرة وأهميتها، وعمل وسعه على الاستجابة إليها. إن اتخاذ القرار السياسي عادة ما يتم وفق منهجيات ومقاربات متنوعة، تختلف باختلاف طبيعة الأنظمة، وكذا بالنظر إلى طبيعة الظروف المحيطة، أو المتحكمة في اتخاذ هذا القرار. وقد كانت فكرة تأسيس المعهد الإسلامي بتارودانت تبدو، في نظر كثير من المسؤولين المغاربة، ضربا من الخيال أو من أحلام اليقظة، بالنظر إلى إمكانيات المغرب الحديث العهد بالاستقلال، التأطيرية منها والمالية. غير أن السلطان محمد الخامس تجنب التسرع في اتخاذ القرار، ولم يركن إلى مختلف المشورات الجاهزة التي قدمت له، بل إنه دفع بآليات الحوار بعيدا، باحثا بالتشارك مع محاوريه من السوسيين عن مختلف إمكانيات إنجاز هذا المشروع الوطني التنموي الرائد. فشكلت طريقة اتخاذ هذا القرار لحظة مشرقة في سجل الدولة المغربية الحديثة الفتية، غلب فيها المنهج الديموقراطي التشاركي، الذي تغيب فيه التراتبيات، والمواقع، وتحضر فيه بقوة مصلحة الوطن العليا. شكل إنشاء المعهد الإسلامي فرصة متميزة تجسدت من خلالها روح التضامن الوطني في أسمى تجلياتها، فكانت مبادرة السلطان محمد الخامس إلى التبرع من ماله الخاص، حافزا لكل أعيان سوس والمغرب للاقتداء به، والتعبير عن تضامنهم المطلق لإنجاز هذا المشروع الوطني الرائد، فكانت الصدارة لمصلحة الوطن، والأولوية للمساهمة في تنميته، وتحقيق رفعته، وكان التضامن سبيلا وحيدا لتحقيق إرادة العرش والشعب، وسرعان ما توالت التبرعات لتخرج من العدم ميزانية إنشاء المعهد. الانخراط الشعبي في مشروع تأسيس المعهد: لم يقتصر الأمر على التبرعات المالية التي قدمها التجار والأعيان وكبار موظفي الدولة، بل تعدى الامر ذلك إلى انخراط شعبي منقطع النظير، أبرز من خلاله السوسيون وعموم المغاربة تحليهم بروح البدل والعطاء وقدرتهم على التضحية من أجل مصلحة الوطن. فبادر بعض من أعيان تارودانت للتبرع بالقطعة الأرضية التي بني عليها المشروع، وتنازل أساتذة المعهد عن أجرة شهر لضمان استمرار أشغال البناء، وتنافس فلاحوا المدينة في إطعام الطلبة بتقديم مساهماتهم من عين ما ينتجونه من زيت وشعير وذرة وغيرها، وتجند طلبة المعهد للتبرع بقوة عملهم التي يملكون... فجاء هذا الانخراط الشعبي مؤكدا لروح التضامن الوطني، وجعل المشروع مجسدا بالفعل لروح التنمية البشرية. آل التعليم الديني بحواضر سوس إلى الانقراض، او كاد، وذلك من جراء تضييق الخناق عليه من لدن سلطات الحماية الفرنسية، التي كانت تعمل وفق خطاب مزدوج: * فكان ليوطي يدعي الحفاظ على العادات والتقاليد الأهلية، وعدم المساس بالمعتقد الإسلامي، وفق ما تنص عليه معاهدة الحماية الموقعة مع سلطان المغرب سنة 1912. * وكان في الآن ذاته يشجع العرف في محاولة لتهميش الشرع، ولا يترك فرصة للتضييق على التعليم الديني، وشيوخه ومدارسه العتيقة.. فوصل التعليم الديني بمدينة تارودانت إلى أدنى مستوياته إبان فترة الحماية الفرنسية. لقد شكل المعهد الإسلامي منذ تأسيسه بارقة أمل، أحييت التعليم الديني بالمدينة، وبمنطقة سوس، وبعموم المغرب. بل إن المعهد لم يقتصر على إحياء هذا التعليم بل حرص على تطويره، وإغنائه، وتحديثه، وذلك عن طريق وضع مناهج دراسية محكمة، تزاوج بين تدريس العلوم الدينية بمختلف فروعها وتشعباتها: من فقه وأصول وحديث وتفسير وفرائض وتوقيت وغيرها ... وإلى جانبها تدرس باقي المعارف والعلوم الحديثة من رياضيات وكيمياء وفيزياء ولغات، فضلا عن الأنشطة الفنية والرياضية... معتمدة نظاما إسلاميا صرفا، يقرن بين العلم والعمل، ويحرص على تربية الطلبة على أداء الواجبات والفرائض الدينية، ويحفظ للمرأة حقها في التعليم. وسرعان ما أضحى المعهد بما جمعه من فقهاء أجلاء، وأساتذة أكفاء منارة لنشر العلم وقيم الإسلام السمحة. شكل المعهد نموذجا للتضامن العربي الإفريقي، ونموذجا حيا للتعاون بين دول الجنوب: انفتح المعهد الإسلامي بتارودانت منذ تأسيسه على محيطه الإفريقي والعربي، وسرعان ما استرجع دور المغرب كمنارة لنشر الثقافة العربية الإسلامية في ربوع القارة السمراء، وسرعان ما تدفقت على المعهد وفود الطلبة الأفارقة من كل الجنسيات، لدراسة اللغة العربية والثقافة الإسلامية. ولتغطية نقص أطر التدريس، وخاصة في المواد العلمية، لم يول المعهد نظره صوب الشمال، بل التفت إلى عمقه العربي، وفتح أبوابه للأساتذة العرب من مصر وسوريا والأردن وفلسطين والعراق... فشكل بالفعل نموذجا تربويا وتنمويا يعطي الأولوية لتعاون دول الجنوب فيما بينها قصد النهوض بأوضاعها وتحقيق التنمية. وهو ما عرف بتعاون جنوب/جنوب. هذا مجرد غيض من فيض، مجرد قراءة أولية في جزء يسير من الدلالات والمعاني التي تحملها هذه المعلمة العتيدة، التي جسدت فعلا التقاء وتلاحم طموحات وإرادات كل من المغفور له السلطان محمد الخامس رحمه لله، بطموحات وإرادات أبناء شعبه من الوطنيين السوسيين الاحرار، لبناء مغرب مستقل، قوي بطاقاته البشرية العارفة العالمة، مغرب يستثمر في التعليم وفي تكوين طاقاته البشرية من أجل تحقيق نموه وتقدمه. أستاذ باحث في التاريخ، متخصص في تاريخ تارودانت.