هناك عدة مداخل لمقاربة موضوع التوزيع العادل للثروة، من أهمه المقاربة الاقتصادية، غير أن المقاربة السياسية تظل حاسمة، لأنها تتحكم إلى حد كبير في الاختيارات التنموية، بل تكون هي البوصلة التي تحدد مختلف مساراتها. ذلك هو المحور الذي اختارته الندوة التي نظمها حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، في البرلمان يوم السبت الأخير. تدخل خبراء في الاقتصاد والتنمية والحقوق، وقدموا وجهات نظر جيدة حول العوائق التي منعت المغرب من تحقيق الرفاه لأغلب مواطنيه، ومحو الفوارق الاجتماعية، ومحاربة نظام الريع وتحقيق المساواة في التعليم الصحة وفرص العيش الكريم، كما تدخل مسؤولون نقابيون، عالجوا المسألة من الجانب الاجتماعي، سواء في ما يتعلق بالحقوق النقابية أو بالقضايا التي تهم التغطية الاجتماعية والصحية والحقوق المرتبطة بهذا المحور. غير أن الخيط الرفيع الذي ظل يربط بين مختلف المقاربات، هو المحور السياسي، الذي كان بشكل أو بآخر، يكمن وراء كل الإشكالات التي طرحت حول الفوارق الطبقية الصارخة، التي تتزايد باستمرار، وحول التهميش الذي يطال فئات وجهات بأكملها، والذي يتسع بشكل متواصل، وحول انسداد الآفاق بالنسبة للأجيال الشابة، التي لا تجد مكانا لها في سوق الشغل، مهما حاولت الاندماج في أسلاك الوظيفة العمومية أو في القطاع الخاص، أو في المحاولات اليائسة لخلق مقاولات صغيرة و متوسطة. فكيف لعبت الاختيارات السياسية الدور الرئيسي في الوضع الذي وصلنا إليه في المغرب؟ بداية لا بد من التذكير بأن العالم وجد العصا السحرية للتنمية والتقدم، أي نجاح منظومة التربية والتعليم، وهو ما لم يتمكن المغرب من تحقيقه، منذ الاستقلال، حيث كانت، وما زالت المعارك الكبرى، في المجال السياسي والقيمي والنقابي، تدور حول هذه القضية الحاسمة، وكم عانت حركة الشبيبة التقدمية واليسارية، من ويلات القمع، جراء دفاعها عن مدرسة عمومية حداثية ومنفتحة على العلوم والعالم، في مواجهة السياسات التقشفية والأمنية والرجعية. ولن يتخلص المغرب من أغلال التخلف، إذا لم يعالج هذه القضية الكبرى، عبر ثورة ثقافية شاملة، تنهي مع ما اكتسبناه من قوالب جاهزة في تعليم اللغات، ومنها العربية، وفي النظرة للعلم والعالم، وفي مراجعة جذرية لموروثنا وتاريخنا وخرافاتنا. ولا يمكن لأحد أن يجادل بأن الاختيار السياسي، كان دائما العامل المحدد في اختيارات التربية والتعليم. أما في ما يخص معضلة الفساد والرشوة، فالأمر لا يتعلق بإشكال أخلاقي، رغم أهميته، بل أيضا باختيار سياسي، إذ أن الدولة، منذ بداية الاستقلال، اختارت تزكية النخب والأعيان، في إطار منظومة الولاء للسلطة، لتضمن تحكمها المطلق، في نفس القالب المخزني، والذي يمثل الريع والاحتكار والمحسوبية، آلياته البنيوية. توزيع الثروات يمر عبر هذه المنظومة، من احتكارات لأهم قطاعات الاستثمار والشركات و الأبناك والتأمين وغيرها، وفي توزيع خيرات ريعية، مقابل الولاء، و في جعل الإدارة في خدمة الزبونية وأداة من أدوات الفساد والرشوة، ضمن نموذج يسمح بالضبط والتحكم، وتطوير نظام الولاءات. ومن المؤكد أن مثل هذا النموذج لم يسمح كثيرا بالمبادرة الحرة والتنافس الشريف، وبسيادة آليات اقتصاد السوق، أو حتى بظهور بورجوازية حقيقية، بل جعلها دائما تحت وصاية السلطة، ورهينة في يدها. ترتيبات هذا النموذج في الحياة السياسية، كان مدخله تعزيز نظام الأعيان في البوادي، و النخب المستفيدة من منظومة الولاءات و الزبونية في المدن، سواء تعلق الأمر بالجماعات المحلية أو بالبرلمان، مما عرقل إلى حد كبير التحول الديمقراطي، وشكل حاجزا أمام التنمية والإصلاح. وهو ما انعكس أيضا في المحور الاجتماعي والحقوقي، فبالإضافة إلى حماية مصالح الطبقات المستفيدة، فقد شكلت الانتهاكات الجسيمة وعمليات القمع، وهضم حقوق الشغيلة، ومحاولة التحكم في المشهد النقابي، سياسة منهجية لخنق التحول الديمقراطي، ومنع الطبقات الشعبية عن الوعي بحقوقها وتملك أدوات الدفاع عن مصالحها وتقرير مصيرها. ويمكن القول بأن قراءة متأنية لدستور 2011، تبين أن واضعيه تلمسوا العديد من هذه الإشكالات، وترجموها في فصوله، من قبيل التأكيد على مبادئ مثل سيادة دولة الحق والقانون، والحداثة والحكامة الجيدة وتكافؤ الفرص، ربط المسؤولية بالمحاسبة، ومحاربة الامتيازات والاحتكار والرشوة و الفساد... لقد وضع الدستور الجديد مبادئ جيدة، للقيام بالتحول الضروري، من دولة الزبونية إلى دولة ديمقراطية وحديثة، وهو معطى لم يكن متاحا للحكومات السابقة، غير أن الالتفاف على هذه المبادئ، يبدو واضحا في سياسة من أوكلت لهم صناديق الاقتراع، تفعيل دستور 2011، وتحقيق التحول الديمقراطي ومحاربة الفساد والريع والاحتكارات، والقيام بالإصلاحات الكبرى في المجال التربوي والاقتصادي والاجتماعي. فهل ستعالج الدولة معضلة الفوارق الاجتماعية وضعف وسائل توزيع الثروة وتهميش الموارد البشرية وعوائق التنمية، بدون إصلاحات كبرى؟ لقد أثبتت التجربة المغربية، وكذا تجارب بلدان مماثلة، رغم توفرها على ثروات طبيعية هائلة، أن الاختيارات السياسية حاسمة في المسار الديمقراطي والتنموي.