الذكرى الثانية لحراك فكيك..الساكنة تتهم الدولة بتجاهل مطالبها وتهميش المدينة    إسبانيا.. العثور على لوحة لبيكاسو اختفت أثناء نقلها إلى معرض    قمة صينية أمريكية بماليزيا لخفض التوتر التجاري بين البلدين وضمان لقاء ترامب ونظيره شي    بتنسيق أمني محكم.. تفكيك شبكة للهجرة السرية والاتجار في البشر بضواحي طنجة    عشرات الدول توقع أول معاهدة أممية خاصة بمكافحة الجرائم الإلكترونية    المهرجان الوطني للفيلم بطنجة يعالج الاغتراب والحب والبحث عن الخلاص    طنجة... تتويج الفائزين بجوائز القدس الشريف للتميز الصحفي في الإعلام الإنمائي    تصريحات لترامب تعيد مروان البرغوثي إلى الواجهة (بروفايل)    تركيا تتوسط بين أفغانستان وباكستان    الولايات المتحدة.. باحثون يطورون رقعة ذكية للكشف المبكر عن سرطان الجلد    تقارب النقاط بين المتنافسين يزيد من حدة الإثارة بين أصحاب المقدمة وذيل الترتيب    مغينية يشيد بعزيمة "لبؤات U17"    تايلاند تنعى "الملكة الأم سيريكيت" عن 93 عاما    وزارة المالية تخصص مبلغا ضخما لدعم "البوطة" والسكر والدقيق    القضاء يدين العقل المدبر لشبكة نصب    حادثة مأساوية تودي بحياة شاب في حد السوالم    جلالة الملك يواسي أفراد أسرة المرحوم محمد الرزين    مدريد توشح بوعياش بوسام استحقاق    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    طقس السبت.. أجواء حارة بعدد من مناطق المملكة    نجم كرة القدم الإيطالية السابق سيرينا : "كرة القدم المغربية تلتحق بنادي الكبار"    أراوخو: برشلونة قادر على الفوز بالكلاسيكو.. وأحب مواجهة فينيسيوس    الإتحاد الأرجنتيني ينهي الجدل بشأن مواجهة المنتخب المغربي وسيخوض مواجهة ودية واحدة شهر نونبر ضد أنغولا    كيوسك السبت | الحكومة تطلق دعما مباشرا للفلاحين لإعادة تكوين القطيع الوطني    الصحراء المغربية.. الأمين العام الأممي يبرز التنمية متعددة الأبعاد لفائدة ساكنة الأقاليم الجنوبية للمملكة    توتّر إداري بالمدرسة العليا ببني ملال    "اللبؤات" ينهزمن أمام اسكتلندا وديا    الوداد يقدم لاعبه الجديد حكيم زياش    من التعرف إلى التتبع.. دليل يضمن توحيد جهود التكفل بالطفولة المهاجرة    عامل طاطا يهتم بإعادة تأهيل تمنارت    التوقعات المبشرة بهطول الأمطار تطلق دينامية لافتة في القطاع الفلاحي    "متنفس للكسابة".. مهنيو تربية المواشي بالمغرب يرحّبون بالدعم الحكومي المباشر    حدود "الخط الأصفر" تمنع نازحين في قطاع غزة من العودة إلى الديار    تقرير يقارن قانوني مالية 2025 و2026 ويبرز مكاسب التحول وتحديات التنفيذ    الأمم المتحدة: ارتفاع الشيخوخة في المغرب يتزامن مع تصاعد الضغوط المناخية    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    من العاصمة .. حكومة بلا رؤية ولا كفاءات    إلى السيد عبد الإله بنكيران    الجولة السادسة من الدوري الاحترافي الأول.. الرجاء يستعد للديربي بلقاء الدشيرة والماص يرحل إلى طنجة دون جمهور    مهرجان عيطة الشاوية يطلق دورته الأولى ببنسليمان    من وادي السيليكون إلى وادي أبي رقراق    عبد الإله بنكيران والولاء العابر للوطن    اتصالات المغرب تحقق أكثر من 5,5 مليار درهم أرباحًا في تسعة أشهر    مطارات المملكة استقبلت أزيد من 23,9 مليون مسافر خلال 8 أشهر    المجلس العلمي الأعلى يضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    حاتم عمور يهدي "أشبال الأطلس" أغنية احتفاء بكأس العالم    المخرج نبيل عيوش يغوص في عالم "الشيخات ". ويبدع في فيلمه الجديد الكل "يحب تودا "    دبوس ماسي لنابليون بونابرت يعرض للبيع في مزاد    المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب يطلق مشروعا لنشر أطروحات الدكتوراه    "اتصالات المغرب" تتجاوز حاجز 81 مليون زبون    أكاديمية المملكة تحتفي بالمسار العلمي الحافل للباحث جان فرانسوا تروان    وزارة الأوقاف تعمم على أئمة المساجد خطبة تحث على تربية الأولاد على المشاركة في الشأن العام    طب العيون ينبه إلى "تشخيص الحول"    أمير المؤمنين يطلع على نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة ويأذن بوضعها رهن إشارة العموم    علماء يصلون إلى حمض أميني مسبب للاكتئاب    أونسا: استعمال "مضافات الجبن" سليم    مواقع التواصل الاجتماعي تفسد أدمغة الأطفال وتضر بشكل خاص بذاكرتهم ومفرداتهم اللغوية    دراسة: مواقع التواصل الاجتماعي تفسد أدمغة الأطفال وتضر بشكل خاص بذاكرتهم ومفرداتهم اللغوية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التسامح علاقة مع الذات قبل أن تكون علاقة مع الآخر

لا ينبغي أن ننسى أن مفهوم التسامح تولّد خلال حركة الإصلاح الديني الأوروبية، ليعبر عن تغيّر في الذهنية تمخض عن علاقة جديدة هي علاقة الاعتراف المتبادل بين القوى التي استمرت تتصارع طوال القرن السادس عشر داخل الدين الواحد. لا عجب أن يظل المفهوم حاملاً لرواسب الإشكالية الدينية التي نشأ في حضنها، والتي جعلت منه، قبل كل شيء نداء »للمحبة والرحمة والإحسان للناس بعامة« كما يؤكد جون لوك في رسالته الشهيرة. وعلى الرغم من ذلك، لم يلبث المفهوم أن شُحن بحمولات تجاوزت الإطار الديني لتطال المجال السياسي والاجتماعي والثقافي، وليؤدى في النهاية إلى التسليم بالحق في الاختلاف في الاعتقاد والرأي، والاعتراف للفرد- المواطن بالحق في التعبير داخل الفضاء المدني عن الآراء الدينية والسياسية والفلسفية التي يعتنقها بمحض اختياره، وليغدو دعامة من دعائم الحداثة السياسية والفكرية، ولتتوسع حقول استعماله بفضل مساهمات مفكرين كبار، أمثال سبينوزا وروسو وفولتير.
لكن على الرغم من هذا التوسع، ظل المفهوم شديد الارتباط بالمعنى الأخلاقي فلم يبتعد كثيراً عن مفهومي المحبة والإحسان. الأمر الذي حال دون فعاليته حتى عند من يعتبرون أنفسهم ناحتوه ومولدوه. ويكفي أن ننتبه إلى ما يعرفه الغرب المعاصر، سواء في علاقته بمستعمراته السابقة، أو بالأقليات المتعايشة معه من مظاهر اللاتسامح، كي لا نقول التعصّب والعنصرية، حيث يشكل عدم الاعتراف بالآخر، وبالخصوصيات الثقافية صفات ملازمة لكثير من المواقف. مما يستوجب في نظرنا ضرورة إرساء المفهوم على أسس فلسفية حتى لا يظل فحسب مجرد إلزام أخلاقي، وحاجة تفرضها الضرورات السياسية والقانونية، وكي ينتقل من مجرد التكرم والسخاء إلى الاعتراف بالحق، بل إلى احترامه.
هذا الارتفاع باللفظ من مجرد الدلالة على التحمل والتقبل لواقع مفروض، إلى مستوى الحق والمشروعية يستلزم نحت مفهوم يقوم على أسس عقلانية تسمح لنا بحد أدنى من الإجماع. والحال أن المفهوم ما زال، في نظرنا، مدار خلافات جوهرية. فإذا كان الكل يجمع اليوم على أن التسامح هو قبول الاختلاف، إلا أن الخلاف يبدأ في تحديد مفهوم الاختلاف ذاته. ذلك أننا نستطيع أن نميز بين مفهومين عن الاختلاف يقابلان مفهومين عن التسامح:
- التسامح الذي يتقبل الآخر و»يتحمله«، لأنه لا يبالي به،
- ثم التسامح كانفتاح على الآخر في اختلافه، واقتراب منه في ابتعاده.
يُكرّس المفهوم الأول مفهوماً عن الاختلاف كمجرد تميّز وتمايز، بينما يسعى الثاني إلى أن يجعل من التسامح انشغالاً بالآخر، ومن الاختلاف اقتراباً منه وانفتاحاً عليه. فبينما تنتظم الأطراف في التمايز وفق سلم عمودي متدرجة متفاضلة، فهي تمتد في الاختلاف في مستوى أفقي متباينة متصالحة. التمايز يتم بين هويات متباعدة وكيانات منفصلة. أما الاختلاف، فينخر الكائن ذاته ليضع الآخر في صميمه. في الاختلاف إذاً يقطن الآخر الذات، والتعدد الهوية، فهو إذ يبعد الأطراف فيما بينها، يبعد كلا منها عن نفسه.
ليس التسامح إذاً عدم اكتراث بالآخر و»لامبالاة« به Indifférence، لكنه ليس كذلك، وكما يقال، تقبلا لكيفيات مغايرة في التفكير والسلوك مع غض الطرف عما يجعلها تخالفنا. ربما ابتدأت فكرة التسامح انطلاقا من هذا المفهوم، وهو ما نجده حتى عند بعض المؤسسين. كان هؤلاء يقولون: إذا لم تستطع أمام الشر حيلة، فتغاض عنه، حتى إن كنت تراه كذلك، فذلك هو السبيل لتحمّل الآخر والعيش إلى جانبه. واضح أن من شأن هذا الفهم أن يوقعنا في نسبية ثقافية تصدر أساساً، لا عن عدم إقرار برأي الآخر، وإنما عن الانطلاق من أن الأنا تضع نفسها جهة الحقيقة والخير، مبدية نوعا من التساهل (وهذا هو اللفظ الذي عبر به منذ بداية القرن الماضي فرح أنطون عن المفهوم) و»التنازل«، كي لا نقول »التغاضي«، إزاء الآخر، متحملة (كما يقول الاشتقاق اللاتيني للكلمة:tolerare supporter ) اختلافاته وفروقه.
واضح أن هذا التصور يفترض نظرة دونية إلى الآخر، وموقفاً متعالياً من الأقليات، بل نظرة متضخمة إلى الذات، وشعوراً مفرطاً بمركزيتها.
لن نتخلص من روح التمركز هذه، إلا إن نحن سلمنا بأن الاختلاف الذي يقوم عليه التسامح، قبل أن يعني الآخر، فهو يعني الذات، قبل أن يكون حركة توجهنا نحو الآخر، فهو حركة تبعدنا عن ذواتنا، فتحول بينها وبين التعصب لرأي، والتشبث بمنظور، والتعلق بنموذج، وتمنعها من أن تضع نفسها مركز العالم، وجهة الحقيقة والخير والجمال، وتطرح الآخر في الضفة الأخرى.
على هذا النحو يغدو التسامح أساسا تسامحا مع الذات، وانفصالا عن كل تمركز، وابتعاداً عن كل تعصب ووثوقية و»»انشغال«« بالذات، بل إنه يغدو اتهاماً متواصلاً للذات قبل اتهام الغير. هذا التخطيء للذات قبل تخطيء الآخر، وهذا الإحساس بأن »علينا بشكل دائم أن نكون مستعدين لاكتشاف أننا قد أخطأنا« كما يقول كارل بوبر، هو الذي يمكننا من أن نخالف أنفسنا ونكون على استعداد كي نقبل في أنفسنا آخر.
لا ينبغي أن يفهم من هذا الردّ لمسألة التسامح إلى الذات وإحالتها عليها، دعوة إلى إحياء الحمولة اللاهوتية والأخلاقية التي تولَّد في حضنها المفهوم. فالأمر لا يتعلق بدعوة أخلاقية إلى نكران الذات وإلغائها، ولا بموقف أنطلوجي ينفي الهوية. فليس الهدف الوصول إلى حد لا نقول عنده أنا أو نحن، ليست الغاية أن يدفعنا قبول الاختلاف إلى محو الهوية، ليس الهدف نفي الوعي بالذات والشعور بالتمايز، وإنما الوصول إلى حيث لا تبقى قيمة كبرى للجهر بالأنا وإشهار الهوية وإبرازها في مقابل التنوع الذي نكون عليه.
ذلك أن التسامح يجعل التفرد ضعيفاً أمام قوة التعدد، والتوحد ضيقاً أمام شساعة التنوع، والاقتصار على الأنا فقرا أمام غنى الآخر، والانطواء على الذات سدّاً أمام لانهائية الأبعاد الممكنة، والاستقرار عند مقام بعينه ضياعا أمام رحابة التنقل، والاقتصار على الحاضر المتحرك هزالا أمام كثافة الزمن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.