وزيرة المالية تجري مباحثات مع أمين عام منظمة "OECD"    إلغاء الزيادات الجمركية في موريتانيا: تأثيرات متوقعة على الأسواق المغربية    الصين تطلق المركبة الفضائية "تشانغ آه-6" لجمع عينات من الجانب البعيد من القمر    طقس السبت... أجواء حارة نسبيا بعدد من الجهات    بعد إدانته بالسجن 3 سنوات.. طبيب التجميل التازي يغادر أسوار عكاشة    هيئة حقوقية تطالب عامل إقليم الجديدة بوقف سراء سيارتين جماعيتين بقيمة 60 مليون سنتيم    لقجع: ظلمونا في نهائيات كأس العالم    تقرير أمريكي يكشف قوة العلاقات التي تجمع بين المغرب والولايات المتحدة        كيف تساعد الصين إيران في الالتفاف على العقوبات الدولية؟    لقجع يكشف الأسباب الحقيقية وراء إقالة حاليلوزيتش وتعيين الركراكي    وفرة المنتجات في الأسواق تعيق طيّ "صفحة الدلاح" بإقليم طاطا    إعدام أشجار يخلف استياء بالقصر الكبير    القضاء يسقط جناية الاتجار بالبشر عن التازي.. الطبيب يغادر "سجن عكاشة"    الداكي يستعرض إشكالات "غسل الأموال"    أزيلال.. افتتاح المهرجان الوطني الثالث للمسرح وفنون الشارع لإثران آيت عتاب    ماركا الإسبانية: أيوب الكعبي الميزة الرئيسية لنتائج أولمبياكوس الجيدة    خبير تغذية يوصي بتناول هذا الخضار قبل النوم: فوائده مذهلة    تفاعل أمني مع شريط فيديو متداول يوقف شابا متورطا في سرقة سيارة    تشييع جثمان النويضي .. سياسيون وحقوقيون يعددون مناقب الراحل (فيديو)    الدورة الثالثة للمعرض الدولي للأركان من 08 إلى 12 ماي الجاري بأكادير    مطالبات في لبنان بحجب تطبيق تيك توك إثر استخدامه من عصابة متورطة بشبهات جرائم جنسية    بانجول.. افتتاح سفارة المملكة المغربية في غامبيا    بالصور والفيديو: شعلة الحراك الطلابي الأمريكي تمتد إلى جامعات حول العالم    الأمثال العامية بتطوان... (589)    حموشي تباحث مع السفير المفوض فوق العادة للسعودية المعتمد بالمغرب بخصوص تطوير التعاون الأمني بين البلدين    صفعة جديدة لنظام العسكر.. ال"طاس" ترفض الطلب الاستعجالي لل"فاف" بخصوص مباراة بركان واتحاد العاصمة    منظمة دولية: المغرب يتقدم في مؤشر حرية الصحافة والجزائر تواصل قمعها للصحافيين    العصبة الوطنية تعلن عن برنامج مباريات ربع نهائي كأس العرش    قضية "الوظيفة مقابل لفلوس".. النيابة العامة فتطوان هبطات اليملاحي المستشار السابق ديال وزير العدل لحبس الصومال    باكستان تطلق أول قمر اصطناعي لاستكشاف سطح القمر    دراسة… الأطفال المولودون بعد حمل بمساعدة طبية لا يواجهون خطر الإصابة بالسرطان    باستعراضات فنية وحضور عازفين موهوبين.. الصويرة تحتضن الدورة ال25 لمهرجان كناوة    المغرب يسجل 13 إصابة جديدة بكورونا    عكس برنامج حكومة أخنوش.. مندوبية التخطيط تكشف عن ارتفاع معدل البطالة في المغرب    الملك محمد السادس يهنئ رئيس بولندا    ريم فكري تكشف عن معاناتها مع اغتيال زوجها والخلاف مع والديه    "فاو": ارتفاع أسعار الغذاء عالميا    المغرب يفكك خلية كانت تحضر لتنفيذ اعمال إرهابية    سعر الذهب يواصل الانخفاض للأسبوع الثاني على التوالي    بعد إلغاء موريتانيا الزيادة في رسومها الجمركية.. أسعار الخضر والفواكه مرشحة للارتفاع    دراسة تربط الغضب المتكرر بزيادة خطر الإصابة بأمراض القلب    جدول مواعيد مباريات المنتخب المغربي في أولمبياد باريس 2024    تركيا توقف التبادل التجاري مع إسرائيل بسبب "المأساة الإنسانية" في غزة    حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية الاسلامي يعلن ترشح رئيسه للانتخابات الرئاسية في موريتانيا    مراسلون بلا حدود عن 2024.. ضغوط سياسية على الاعلام والشرق الأوسط "الأخطر"    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الجمعة    بركة يعلن عن خارطة طريق للبنيات التحتية استعدادًا لكأس العالم 2030    اختتام الدورة الثانية لملتقى المعتمد الدولي للشعر    عدلي يشيد بتألق "ليفركوزن" في روما    تكريم حار للفنان نعمان لحلو في وزان    هل ما يزال مكيافيلي ملهما بالنسبة للسياسيين؟    مهرجان أيت عتاب يروج للثقافة المحلية    العقائد النصرانية    الأمثال العامية بتطوان... (588)    جامعيون ومتخصصون يحتفون بشخصية أبي يعزى في ملتقى علمي بمولاي بوعزة        الطيب حمضي ل"رسالة24″: ليست هناك أي علاقة سببية بين لقاح أسترازينيكا والأعراض الجانبية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



طفلٌ في العراء

كان قد غادر مدينته في السابعة صباحاً، ووصل إلى المحطة الكبرى بعد ساعة ونصف عبر طريق تملأها الحفر والمنعطفات، اعتاد سائقو حافلات السفر السير عليها ببطء قتل في الركاب كل حلم بوجود مركبة تقطع المسافات الطويلة بيسر ذات يوم قريب أو بعيد، بل كل قدرة على تصور وجود دنيا أبعد مما تصله حافلات عمومية شائهة المنظر هي إلى السلاحف أقرب من أي كائن يسير، وحينما وطئت قدماه أرض المدينة الثانية التي لم يكن قد زار سواها من المدن التي كان يسمع بها دون أن يراها، حاول أن يبرمج ليومه ما يستطيع الوصول إليه : البحر أولاً، ثم العودة إلى المدينة للبحث عن مأوى متذكراً أن هناك أكثر من عدو، وأن عليه أن يفلت من أكثر من فخ. وأن عليه كذلك أن يتصرف بحكمة الكبار، فإن كل من يراه يقرأ على ملامحه خوفاً لا يدري كيف يخفيه، ولطالما أفلت من الوقوع في شراك، لم تنجه منها ، في أكثر من مرة، غير أقدامه وسرعة طيرانه، وهو يسمع خلفه أصواتاً تهزأ، أو كلمات من يحاول الإيقاع به، فقط لأنه يسير دون حماية، في مجتمع لا يرحم الصغار.
***
وصل إلى الشاطئ، ووجد ناساً من الجنسين قد سبقوه إلى الازدحام على مقربة من أمواج البحر، وقرأ على لافتات إرشادات شتى، لكن استوقفه منها ما يمنع النزول إلى البحر بغير ثياب السباحة ، فليس عليه، هو الذي أسرع في مغادرة بلدته دون أن يأخذ ذلك في حسبانه، إلا أن يكتفي من الغنيمة بالفرجة، بل إن رأسه الصغير كان مكشوفاً للشمس، مما يعني أن وقت الفرجة سيكون أقصر خشية ضربة شمس لا قبل له بها. مما أرغمه على الفرار من الشاطئ، وقد بدأ لعابه يسيل. ومع اقتراب ميعاد الغداء، قفل عائداً إلى حيث يتوقع أن يجد مائدة في بيت شقيقته، التي أصبحت من سكان المدينة الثانية بعد انتقالها إليها إثر زواجها من رجل مرعب يكبرها بعقود، مما يعني أن علاقتهما لم تكُن حباً، بل لتصبح آلة تفريخ.
***
في الساعة الثانية ظهرا، كانت يده الصغيرة على جرس الباب، لكن لا أحد يجيب، ففهم أن أصحاب الدار يمكن أن يكونوا بدورهم قد غادروا إلى الشاطئ. ولذا فعليه أن يتدبر أمر غدائه في أي مكان آخر.
***
وإلى عصر ذلك اليوم، ظلت أقدامه الواهنة، وقد تعبت في حذائها الرث، تسير بلا هدف، لكنه مع إحساسه بأن الوقت يداهمه، لم يجد مأوى كان يفترضه في بيت أقربائه، فليس عليه إلا أن يغادر قبل حلول الظلام. رغم أنه أستطاع أن يتجاوز أمر الغداء بتركه إلى التفكير في أمورٍ أخرى، كأن يتجول أمام أبواب قاعات السينما المتباعدة إحداها عن الأخرى، والتي كانت تختلف في ما تعرضه ، من النصر إلى المنصور، من غربي المدينة إلى شرقيها، ولا يقدر أن يختار فيلما منها لأن ذلك يعني أن يقضي الليل دون رجوع إلى بلدته، وإن في ذلك ، إذ لم يكن قد ضمن المأوى، خطرَ تشرُّدٍ لا يقوى على مواجهة أهون احتمالاته.
****
أهوال ساعة الصفر كأهوال القيامة:
فقد خيم الظلام في كل مكان، وقدماه الصغيرتان مازالتا تجوبان الشوارع التي تنام مبكراً، دون أن يكون قد استجاب إلى صوت الجرس منقذٌ، يعرف، بكل تأكيد، أن هناك من يمنعه من أن يستجيب لمن يقرع الباب في هذه اللحظة المتأخرة من الليل، وطرقات منتصف الليل خالية، وقد كان بإزائه مكان هو عبارة عن خيمة رحل عنها من كان يشغلونها نهاراً لبيع البطيخ، تاركين هشيماً يغطي أرضيتها، وحين أطل مستطلعاً ما يوجد داخلها ، كان النوم يرنق أجفانه وهو يلوذ بإحدى زواياها ، لتمر ليلة ينجو بعدها بمعجزة، فمكان الخيمة كان حيّاً لا تمضي ليلة من لياليه دون نشوب عراك، أو مرور سكارى في أي لحظة ، تكون بهم بقية من قدرة على إدراك ما يرونه نابضاً بين أرجلهم، أو قريباً من أيديهم…
*****
نهاية أولى لا تصدق وإن كانت حقيقية:
كان الصباح الجديد ميلاداً جديداً له، بل تأكيداً لمسألة احتلَّت عمقَ وعيِهِ ، أنَّ الأقارب عقارب، إن نجوت بجلدك من الثقة بهم، أو الاعتماد عليهم، تَنْجُ حقاً من كل سوءٍ، فقد أفاق الطفل ليعاود البحث عن سبيل للعودة إلى بلدته غير البعيدة.
نهاية ثانية:
فوجيء الطفل في آخر لحظة بوجه شقيقته وهي تتقدم إليه بخطى واسعة، تجري لتحتضنه، وفي إثرها زوجها بجثته الضخمة وهو يحمل كرباجاً ينهال به عليها ليحول بينها وبين شقيقها، فانتفض الطفل واقفاً رافعا ذراعيه كلتيهما ليصد من يشبه الزوج المرعب، وكتيبة من أشباهه الشائهين في إثره انبعثوا بجثثهم الضخامٍ، كتيبة جزارين مصطفين على خط واحدٍ، وكل منهم يُلوّح بكرباج خاص، وسكين ذبحٍ كبيرة، وهم يهتفون بصوت واحد:
لا، ليس يسلم من أذىً بيت رفيع أو تراق على جِوَارٍ منه أنهارُ دمٍ.
كان الطفل بين آخر اليقظة وأول النعاس الذي بدأ يرنق أجفانه، بل كأنه في أول الحلم ، كانت يدا قريبته الحانيتين تمتدان إليه لتنتشلاه من بين براثن كابوس دموي. وهب تسارع إلى الاحتماء به، وقد بدا للطفل طيفان نبويان نَيِّران: أمُّه التي كانت تحمل كيساً أبيض في ثوب نساء الخمسينات، وقد لفت فيه قطعا من لحمٍ، فتذكر ما سوف تهمس له به لاحقاً:
المرأة لحمٌ في السوق.
أما أبوه فقد ألقى عليه، وهو يقول بين الحسرة والاعتزاز:
اللحم إذا أطيح به لا يرفعه غير أهله…
كانت قامة الطفل تتطاول كلما صمد في وجه كتيبة الذكور الدموية التي تراجعت مدبرة مهزومة على أمرها، خائفة أمام تعالي هيئة عملاقة أصبحت تملأ عليها كل أرجاء الفضاء، هو الذي كان مصير أسود يهمّ أن يبتلعه، هو وقريبته الحانية عليه.
نهاية ثالثة:
منذ البدء، وعلى مقربة منه ، طوال ساعة النهار، كانت هناك عينا مغتصبٍ لم تغفلا عن ملاحقته لحظة واحدة، بدءأ من وقفته وهو يدق جرس ذلك الباب الذي لم يستجب له أحد من ورائه، فلم يتلقَّ جواباً، أو حتى وهو يسير على غير هدى عبر مسالك الحي الخطير ، إلى أن يئس فأوى مع تأخر الليل، إلى خيمة في إحدى زوايا سوق الحي، مفترشاً نفس الهشيم الذي كان قد هيّءَ لوضع أطنان من البطيخ عليه، فطافت بالخيمة أرجل الجريمة منتظرة أن يستغرق النوم جسد الطفل الذي أرهقه تعب المسير طوال ساعات اليوم، لتمتد إليه ، للعبث به، غير راحمة صراخه وهو يستعطف، ولتجهز عليه بخنجر حادٍّ في قسوة عمياء، ولتشعل الخيمة كلها بإلقاء عود ثقاب على هشيم لم يكن يملأ جوانب الخيمة سواه وخيبة طفل شريد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.