يصعب عمليا مقاربة العلاقات بين الدول وفق « براديغم » محدد، إذ تبدو الصورة نمطية في بعض الاحيان، تارة محكومة بثنائية التقارب/التباعد، وتارة أخرى خاضعة لمنطق للالتباس وعدم التباث، حيث يمضي الزمن على ايقاع التحولات الطارئة وغير المتوقعة. تغيرات متسارعة ولا متناهية على صعيد العلاقات الدولية، يصعب التكهن بالنتائج ومصائر الشعوب والدول سواء، دينامية الأحداث صارت منفلتة، تقلبات وتحولات دراماتيكية غدت عنوانا صغيرا يعكس عالم اللايقين الذي دخلته البشرية مع انتشار جائحة كوفيد 19، وعلى الأرجح لا ولن ينتهي_ عصر اللايقين_ بحسب المؤشرات الراهنة. واللافت، أن المملكة المغربية كسائر دول العالم، تحاول أن تتموقع بشكل جيد ضمن دائرة النفوذ وخريطة التحالفات التي تتشكل منذ زمن غير بعيدا، وذلك، من خلال بلورة سياسة خارجية وعقيدة دبلوماسية ترتكز بالأساس على البرغماتية والواقعية للدفاع عن المصالح العليا وحماية الوحدة الترابية وبالأخص قضية الصحراء التي تأتي على قائمة الأولويات. وكنتيجة لذلك، انخرطت مجموعة من الدول الغربية المؤثرة في دينامية الاعتراف بسيادة المغرب على صحراءه، بل، باتت هذه المتغيرات تنذر بقرب طي هذا النزاع الذي امتد لنصف قرن. وبالنظر إلى الدعم الغربي، تتناسل بعض الاسئلة والتساؤلات حول الدعم العربي للمغرب في هذا النزاع، خاصة الدول المحورية والمؤثرة، إذ يسجل انخراط دول مجلس التعاون الخليجي بشكل غير مسبوق في دعم المملكة المغربية عمليا وعلنيا رغم تباين المواقف السياسية لدول المجلس إزاء ملفات وقضايا داخلية واقليمية أخرى_ إذ صارت بيانات المجلس منذ القمة الخليجية المغربية الأولى في ابريل سنة 2016 تعبر بشكل واضح على دعم سيادة المغرب على الصحراء. وارتباطا بجغرافية الدعم العربي، ماتزال جمهورية مصر وفية لمواقفها السابقة الغامضة وإن كانت تكتسي طابع الحياد تارة، والصمت تارة أخرى، حيث تحاول مصر على الارجح النأي بنفسها عن الصراع المغربي الجزائري، وأخذ « مسافة الامان » للحفاظ على مصالحها مع الطرفين عبر نهج أسلوب بارد وجاف سياسيا في التعاطي مع النزاع، دون القفز بطبيعة الحال على مواقفها الأكثر ميولا خلال سبعينيات القرن الماضي للنظام الجزائري من منطق الخلفية العسكرية التي كانت تشكل قطب الروحي بالنسبة للنظامين آنذاك، هذا حال التاريخ، لكنه لم يعد محددا اليوم على الأقل بالنظر إلى مؤشرات التباعد بين النظامين المصري والجزائري إزاء مجموعة من القضايا الإقليمية. لذلك، يبدو أن مصر تفضل » منطقة الراحة » وهي » المنطقة الرمادية » بلغة الدبلوماسية ومحاذير السياسة والاقتصاد، إذ لاتزال مصر تنتهج نفس السياسات والتوجهات، وهي سياسات كادت أن تعصف بالعلاقة بين الطرفين في مناسبيتين في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، الاولى، في عام 2016، عندما استقبلت مصر وفدًا من البوليساريو للمشاركة في مؤتمر برلماني عربي أفريقي في شرم الشيخ. وقد أجرى الوفد لقاءات مع مسؤولين مصريين وشخصيات برلمانية عربية وأفريقية. والثانية، عندما رفضت مصر توقيع ملتمس طرد البوليساريو من منظمة الاتحاد الافريقي سنة 2017، بالإضافة لموقف مصر المتذبذب والملتبس عند مباشرة إجراءات عودة المملكة إلى الاتحاد الافريقي في نفس السنة. ومن منطلق التحقيب الزمني للعلاقة بين البلدين بمدها وجزرها خلال العشرية الاخيرة، فخلال السنوات التي تلت تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي السلطة في مصر، شهدت اللجنة العليا المشتركة نوعًا من التعثر والجمود، بل بات انعقادها في حكم المؤجل الى أجل غير مسمى. لكن، المفارقة الصارخة، فالجمود على مستوى دبلوماسية القمة _والمقصود بها لقاء زعماء البلدين_، فإنه لم يؤثر على العلاقة بين الطرفين، إذ يبدو أن لغة الصمت تعبر بعكس المتوقع و التكهنات عن وجود إرادة سياسية لتعزيز العلاقات بين البلدين، هي لغة صامتة يتحدث بها الطرفين، لغة المصالح والاولويات، فرغم أن الظروف السياسية والإقليمية أدت إلى تأجيل أو تعطيل بعض الاجتماعات. إذ من المؤكد أن الرباط صارت على ما يبدو غير متحمسة إلى لقاءات واستقبالات رسمية لأطراف غير واضحة في مواقفها تجاه قضية الصحراء، وهو نهج عبر عنه الملك محمد السادس في أحد الخطابات عندما أشار إلى أن الصحراء هي النظارة التي يختبر بها المغرب صدق الصداقات. غير أن العقل الاستراتيجي لبلاد الكنانة وهو ينتهج هذه السياسة وإن كانت محكومة بقراءة كلاسيكية متجاوزة للنزاع، فهذا التوجه غير تابث وغير دقيق وعلى ما يبدو غير محسوم بلغة الواقع، كما لو أن هذا الملف غير ذي أهمية ولا يحتاج إلى موقفا صريحا وواضحا في غياب أي ضغط سيما وأن الطرفين المغرب والجزائر يتعاملان مع مصر بشكل يعطي الانطباع للمتتبع بالرضى أو يؤشر على ارتياح وقبول الطرفين للموقف المصري الباهت خاصة تجاه المغرب. إلا أن دائرة السلطة في مصر أهملت بعض الحقائق والمعطيات التي تجعل من خروج مصر من المنطقة الرمادية ودعم سيادة المغرب كخيار استراتيجي لا محيد عنه بالنسبة للطرفين، ويمكن الاشارة إلى بعض هذه المعطيات من خلال ثلاث مستويات: اولا، جيوسياسي، وذلك، بالنظر الى التفاعلات الإقليمية سواء على الساحة الإفريقية أو على مستوى منطقة الشرق الاوسط، فكلا الدولتين لهما تأثير ومساحة نفوذ مهمة، فمثلا، النفوذ المتزايد للمملكة المغربية على الرقعة الافريقية تتعزز بشكل أقوى خلال العشرية الأخيرة خاصة على مستوى شرق وغرب ووسط إفريقيا، حيث أخذ هذا النفوذ أشكالا متعددة عبر الشراكات الاقتصادية والتجارية، بل، تمكن المغرب من نسج علاقات قوية مع دول لها وزنها وثقلها على الساحة الافريقية مثل إثيوبيا ونيجيريا. هذا، بالإضافة للمكانة والدور المحور الذي ما فتىء يقوم به المغرب في منطقة الشرق الاوسط، وتعزيز العمل العربي المشترك رغم الصعوبات التي تعتري الجسم العربي بسبب عوامل كثيرة متداخلة من الناحية السياسية والاقتصادية والدولية. مصر كذلك لها وزنها ومكانتها، ودورها في بناء نظامي إقليمي عربي، وإن كان ذلك اليوم بمثابة حلم جميل يراود الطوباويين_ لكن، بدون تحفظ أو شوفينية، وجب الاقرار، أن دور مصر داخل القارة الافريقية محدود وغير مؤثر وبلا أوراق وفق معطيات ومؤشرات ترتبط أساسا بالاستحقاقات الكبرى داخل الاتحاد الافريقي. ثانيًا، اقتصادي، شهدت العلاقات بين المغرب ومصر خاصة منذ عام 2019 تطورًا ملحوظًا، وبالتحديد في المجال التجاري، حيث برز قطاع تصدير السيارات المصنعة في المغرب إلى السوق المصرية كأحد أبرز مجالات التعاون. فقد ارتفع عدد السيارات المصدَّرة إلى نحو 5,000 سيارة مع نهاية عام 2025، مع توقعات ببلوغه 8,000 سيارة في عام 2026، أي أن المملكة تستهدف تصدير ما يقارب 13 ألف سيارة خلال عامي 2025 و2026، في إطار مساعٍ لتقليص عجز الميزان التجاري بين البلدين_ عجز يغمض المغرب عينه بشأنه بمنطق الربح السياسي وهو ما لم يتحقق. وفي المقابل، يشكل السوق المغربي منفذًا مهمًا للصادرات المصرية، إذ عززت الشركات المصرية حضورها الاستثماري بالمغرب عبر إنشاء ثلاثة مصانع جديدة باستثمارات تقدر بنحو 100 مليون دولار، في مجالات صناعة الأثاث، والأدوات الصحية، وأجهزة الري الحديث. ورغم التحديات السابقة، ومنها ما أشار إليه وزير التجارة المغربي الأسبق مولاي حفيظ العلمي بشأن بطء الإجراءات المصرية في إدخال بعض المنتجات المغربية أو التحفظات المتعلقة بمنشأ بعض السلع، فإن المبادلات التجارية بين الطرفين واصلت مسارها التصاعدي، لتشكل نموذجًا متمايزًا في فضاء عربي إقليمي يفتقر إلى الانسجام والثقة المتبادلة، وهي ظواهر جديرة بالدراسة والاهتمام. ثالثا، استراتيجي، إذ شكلتا الدولتين بإرثهما الحضاري امتدادا جغرافيا للربط بين الشرق والغرب، كما قامت كل من مصر والمغرب بأدوار مهمة خلال الصراع العربي-الإسرائيلي خلال القرن الماضي، وما استتبع ذلك خلال توقيع اتفاقية السلام كامب دايفيد بين إسرائيل ومصر، وغير خفي هنا، دور المغرب سواء العسكري والدبلوماسي في مناصرة مصر، كما يعتبر الراحل الحسن الثاني مهندس اتفاقية السلام بين الطرفين. أما حاليا، فتراجع التنسيق العربي خاصة بين الدول المؤثرة، فقد أفرغ الساحة لصالح إيران ووكلاءها مما ادخل المنطقة في حالة الفوضى، بل وصل الامر الى استباحة الدم الفلسطيني في غزة كنتيجة لتحالفات هجينة ومغامرات غير مدروسة لحماس_ دون غطاء عربي_ في مقاومتها لتحرير الارض. استراتيجيا كذلك، فالتنسيق المغري المصري بات ضرورة ملحة لبناء نظام إقليمي عربي أو لإعادة تشكيل خريطة الفضاءين المغاربي والافريقي دون الغوص في تفاصيل تطابق المصالح في ليبيا وجنوب الساحل والصحراء وصولا الى شرق وغربا افريقيا، تنسيق أو تحالف قد يكون منشودا على غرار التحالف الرياضي الذي يجمع البلدين وحققا من خلاله تواجدا قويا ومؤثرا على مستوى هياكل الاتحادين الافريقي والدولي(الفيفا). ختاما، من المفترض أنه وفي ظل كل هذه الاعتبارات الجيوسياسية والاقتصادية والإستراتيجية، فدولة مصر تحتاج اليوم الى اعادة قراءة تحالفاتها العربية وفق محاذير وحسابات جديدة، محاذير على الارجح ترتبط بضرورة تسجيل مواقف صريحة وواضحة والاعلان عن اختياراتها وتحالفاتها والخروج من المنطقة الرمادية بشأن المغرب ووحدتها الترابية، بدل الإرتكان إلى لغة ومواقف أقرب إلى اللاموقف. وحياد جاف يبدو ظاهره الحكمة والرزانة لكن باطنه عدم الدعم وعدم الاكتراث بمصالح المغرب الحيوية كحليف مفترض، أو يستبطن عدم الاصطفاف بلغة السياسة والدبلوماسية. لكن، التاريخ يسجل ويكتب الحقيقة كما هي دون تبريرات واهية أو خطابات مصطنعة، هو التاريخ وحده سيسجل من كان مع المغرب وهو يخوض حروب ضروس اعلامية ودبلوماسية على مختلف المستويات للدفاع عن وحدته الترابية، ومن فضل الصمت والانزواء الى الخلف ومحاولة إرضاء الجميع إرضاء لمصالحه، هي لعبة أو تجربة قد تكون مغرية وسهلة لكن يتجنب المغرب خوضها بأوراق متعددة مثل رقعة الشطرنج على ساحة أثيوبيا بالنسبة لسد النهضة وغيرها من الأوراق والحلفاء في الشرق الاوسط وعلى التماس مع أرض الكنانة، مع الاشارة كذلك لأسباب أو العواما التي حالت دون عدم استفادة المغرب من بعض الدول الخليجية الحليفة والمؤثرة اقتصاديا وماليا في مصر لاستمالة موقفها واخراجها من منظقة الظل. وأخيرا، أما آن الأوان للسلطة في مصر أن تعبر عن موقفا صريحا وواضحا يليق بعراقة تاريخها وشهامة واصالة شعبيها، سيما وأن المواقف تسجل عبر الزمن وتتداول عبر الاجيال، وهي تعبر بشكل أو آخر عن اختيارات الدول وتحالفاتها في الحاضر والمستقبل وإن تغيرت وتبدلت الاحوال، إذ من غير المفيد أن تحاول الدول أن تنتج مواقف مزدوجة وان تكون مع الطرفين وفق المعادلة الصفرية التي ترضي الجميع دون كلفة أو تكلف عبر الركون الى الصمت، وهي معادلة جد سهلة، لكن على الارجح يتفادى المغرب تبنيها خاصة عندما يتعلق الأمر بحماية وصيانة الوحدة الترابية للدول.