لقد كان واضحا منذ، منذ اعتلاء جلالة الملك محمد السادس للعرش في الثلاثين من يوليوز 1999، أن قضية الصحراء المغربية ستظل البوصلة الكبرى للدبلوماسية الملكية. غير أن الطرح الملكي أكد أن الملف ليس نزاعا ترابيا يقتضي العمل على الواجهة الديبلوماسية فقط، بل مجالا للتنمية والإدماج وربط شمال المغرب بجنوبه، الداخل بالخارج، والاقتصاد بالأمن، لأن الصحراء، بحسب ما جاء في الخطاب الملكي (6 نوفمبر 2014) «ليست قضية الصحراويين وحدهم. الصحراء قضية كل المغاربة. وكما قلت في خطاب سابق: الصحراء قضية وجود وليست مسألة حدود. والمغرب سيظل في صحرائه والصحراء في مغربها، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها». بهذا التصور، جرى تقديم مقترح الحكم الذاتي باعتباره حلا واقعيا وذا مصداقية، وهو ما جعل أكثر من 120 دولة تعلن دعمها له في المحافل الدولية، بينها الولاياتالمتحدة وإسبانيا وفرنسا وبريطانيا والبرتغال. هذه الدينامية الدبلوماسية لم تكن وليدة صدفة، بل ثمرة رؤية تجعل من المبادرة الميدانية رافعة للشرعية الدولية، حيث تتحول الأوراش التنموية في الداخلة والعيون إلى حجة عملية تتفوق على البلاغات. وكما قال وزير الخارجية الإسباني الأسبق خوسيه مانويل غارسيا مارغايو: "المغرب استطاع أن يحول ملف الصحراء من نزاع إقليمي إلى مشروع استراتيجي للتنمية والربط القاري". التحول الداخلي الذي عرفه المغرب كان الأساس الذي انبنت عليه هذه القوة الخارجية. فإصلاح الحقل الحقوقي، وتكريس العدالة الانتقالية عبر هيئة الإنصاف والمصالحة، لم يكونا معزولين عن تعزيز صورة المغرب كبلد إصلاح تدريجي وهادئ، وهو ما أقر به كوفي عنان الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة حين قال: "المغرب يقدم نموذجا فريدا في المنطقة، حيث تتجاور الهوية الإسلامية العريقة مع مسار إصلاحي جدي في مجال حقوق الإنسان". هذه الصورة عززها دستور 2011 الذي وسع من نطاق المشاركة السياسية وكرس الحقوق والحريات، في لحظة تفاعلت مع حراك 20 فبراير وأنتجت ما سماه بعض المحللين "الانتقال التعاقدي" بين الدولة والمجتمع. وقد اعتبر الباحث الأمريكي جون واتربوري أن «الملكية المغربية نجحت في تحويل موجة الاحتجاجات إلى فرصة لإعادة هندسة العلاقة بين السلطة والمجتمع عبر إصلاحات مؤسساتية غير مسبوقة». في العمق، كانت هذه الإصلاحات تعبيرا عن رؤية تجعل الدولة شريكا للمجتمع لا مجرد مراقب له. إطلاق ورش الحماية الاجتماعية الشاملة سنة 2020، يعكس هذه الفلسفة الجديدة التي تربط بين الكرامة والتنمية. هذا الورش، إضافة إلى إصلاح منظومتي الصحة والتعليم، أعاد صياغة العقد الاجتماعي، وجعل صورة المغرب خارجيا مرتبطة بمفهوم الدولة الاجتماعية. وقد عبرت المديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا عن ذلك بقولها: «المغرب يقدم مثالا على كيف يمكن لدولة نامية أن تدمج البعد الاجتماعي في استراتيجيتها التنموية بطريقة مبتكرة". هذا البعد الاجتماعي لم ينفصل عن رهان الجاذبية الاقتصادية، حيث شهدت البلاد نموا متسارعا في الاستثمارات الأجنبية المباشرة بنسبة 13% سنة 2023، بفضل مشاريع البنية التحتية العملاقة كميناء طنجة المتوسط، الذي وصفه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأنه "أحد أعمدة الربط الاقتصادي بين إفريقيا وأوروبا». لكن الرهان الدولي للمغرب لم يقف عند الشراكة مع أوروبا. فمنذ عودته إلى الاتحاد الإفريقي سنة 2017، عزز الملك محمد السادس حضورا قويا في القارة، معتمدا مقاربة تقوم على التنمية المشتركة بدل الوصاية. فقد وقعت المملكة أكثر من ألف اتفاقية تعاون مع بلدان إفريقية في مجالات الفلاحة، الطاقات المتجددة، البنية التحتية، والخدمات البنكية. ولعل مشروع أنبوب الغاز نيجيريا–المغرب، الذي يبلغ طوله 5600 كلم، يمثل نموذجا لهذه الرؤية التي تجعل من المغرب فاعلا استراتيجيا في أمن الطاقة القاري. الرئيس النيجيري محمد بخاري وصف المشروع بأنه «خطوة ثورية ستغير وجه إفريقيا الغربية». وبذلك، تحولت إفريقيا إلى فضاء مفضل للدبلوماسية الاقتصادية المغربية، حيث أصبحت الشركات المغربية، كالمجموعة المهنية للبنوك، من أكبر المستثمرين في غرب إفريقيا، وهو ما يعزز حضور المغرب كلاعب قاري. أما مع أوروبا، فقد واصل المغرب لعب دور الشريك الاستراتيجي، سواء في ملفات الهجرة أو الأمن أو الطاقة. فقد أكد الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية جوزيب بوريل أن «أمن أوروبا يبدأ من المغرب»، في إشارة إلى التعاون العميق في مكافحة الإرهاب والهجرة غير النظامية. في الآن نفسه، احتفظت الرباط بقدرتها على الدفاع عن مصالحها، كما حدث في الخلاف مع مدريد سنة 2021، ثم استعادة العلاقات بقوة بعد الموقف الإسباني الداعم لمقترح الحكم الذاتي. هذه المرونة جعلت من المغرب شريكا لا غنى عنه في الضفة الجنوبية للمتوسط، دون أن يتخلى عن سيادته في الملفات الحيوية. في المقابل، شهدت العلاقات مع الولاياتالمتحدة طفرة غير مسبوقة مع الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء في ديسمبر 2020. هذا التحول ترافق مع تعزيز الشراكة العسكرية، حيث يحتضن المغرب سنويا مناورات «الأسد الإفريقي»، الأكبر من نوعها في القارة، بمشاركة قوات أمريكية وأوروبية وإفريقية. وقد اعتبر الجنرال ستيفن تاونسند، قائد القيادة الأمريكية لإفريقيا، أن "المغرب شريك استراتيجي لا غنى عنه في استقرار شمال إفريقيا والساحل». التحديث العميق الذي عرفته القوات المسلحة الملكية، سواء على مستوى العتاد أو العقيدة الدفاعية، جعل المغرب قوة إقليمية معتبرة تحظى بالثقة كشريك في قضايا السلم والأمن الدوليين. الانفتاح لم يقتصر على الغرب، بل شمل أيضا الصينوروسيا. ففي 2016، وقع المغرب مع الصين اتفاقا للشراكة الاستراتيجية ضمن مبادرة الحزام والطريق، ما جعله أول بلد مغاربي يلتحق بهذا المشروع الضخم. هذا الاتفاق فتح الباب أمام استثمارات صينية في مجالات البنية التحتية والطاقة والصناعة. كما واصل المغرب تعزيز علاقاته مع روسيا في مجالات الفلاحة والطاقة والدفاع. هذه الشراكات تعكس رغبة الرباط في تنويع حلفائها وعدم الارتهان لمحور واحد، بما يرسخ ما يسميه المحلل الفرنسي برتران بادي «الدبلوماسية المتعددة الأبعاد»، أي القدرة على التحرك في فضاءات مختلفة دون التضحية بالثوابت. ولأن الهوية الثقافية والدينية تمثل وجها آخر للقوة الناعمة، فقد عمل الملك محمد السادس على جعل المغرب نموذجا في تدبير التعدد. فقد نص دستور 2011 على الطابع الرسمي للأمازيغية، وعلى صيانة المكون الحساني كجزء من الهوية الوطنية، كما أعيد الاعتبار للرافد العبري اليهودي ضمن الديباجة. هذا الغنى الثقافي انعكس على صورة المغرب في الخارج، حيث وصف البابا فرنسيس، خلال زيارته للرباط سنة 2019، المغرب بأنه «جسر للحوار بين الأديان والحضارات». كما أن مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، التي تم إنشاؤها سنة 2015، جسدت هذا البعد الروحي في السياسة الخارجية، حيث يلعب المغرب دورا محوريا في نشر الإسلام المعتدل في إفريقيا. في خلفية كل هذه التحولات، تبرز مبادرات ملكية ذات بعد استراتيجي مثل «المبادرة الأطلسية» التي أعلن عنها الملك سنة 2022، والتي تهدف إلى جعل الساحل الأطلسي لإفريقيا فضاء للتنمية المشتركة والربط القاري. هذه الرؤية الطموحة جعلت المغرب يخرج من حيزه المغاربي الضيق ليتحول إلى قوة أطلسية صاعدة. وقد وصف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش هذه المبادرة بأنها «إسهام نوعي في إعادة التفكير في الجغرافيا السياسية للعالم المعاصر». إن المغرب، في ظل قيادة الملك محمد السادس، لم يعد ينظر إلى علاقاته الدولية باعتبارها مجرد توازنات دبلوماسية عابرة، بل كامتداد لمشروع وطني شامل يقوم على التحديث من الداخل والانفتاح على الخارج. فالتنمية لم تعد مفهوما داخليا فقط، بل أداة قوة في الخارج، كما أن الهوية لم تعد مجرد رمز للسيادة، بل وسيلة لبناء جسور ثقافية وحضارية. بهذا المعنى، يصبح المغرب اليوم فاعلا استراتيجيا يزاوج بين الرمزي والمادي، بين القوة الصلبة والناعمة، بين المحلي والعالمي. لقد استطاع المغرب في أكثر ربع قرن من حكم الملك محمد السادس، أن يجسد هذه المعادلة، حيث حول موقعه من بلد طرفي إلى قوة إقليمية صاعدة، تبني علاقاتها الدولية على الثقة في الذات، وعلى الجرأة في اتخاذ المبادرات، وعلى الذكاء في قراءة التحولات العالمية.