في زمن تسيطر فيه أضواء الشهرة على المشهد الثقافي، وتطغى منصات التواصل الاجتماعي على الحوارات العميقة، يظل المعرض المغاربي للكتاب في وجدة واحة نادرة. هذا التجمع، الذي يقع على عتبة الجغرافيا، يقدم نموذجاً لمعرض لا يُعنى فقط بالبيع والشراء، بل بالعمق الفكري والاتصال الإنساني المباشر. خلافاً للمعرض التجاري الضخم الذي يركز على العناوين الأكثر مبيعاً، تنبض وجدة بروح مختلفة. السمة الأبرز هنا هي الندوات المتعددة والمتشعبة التي تُقام في كل زاوية. وقد شاركت بنفسي في ندوتين تمثلان صميم هذا الجدل الثقافي: واحدة عن "الشعر في عصر الرقمنة" والأخرى عن "مرايا الترجمة". هذه ليست مجرد جلسات ترويجية، بل هي مختبرات حقيقية تُشرَّح فيها العملية الإبداعية، وتمنح الكتاب فرصة ل "الغور في الذات الكاتبة"، واستكشاف كواليس اللحظة التأليفية. وقد تجسد هذا العمق في الأبعاد الإنسانية للتجربة. في اليوم الأول، التقيت الشاعر والمسرحي المغربي المقيم في باريس، نصرالدين بوشقيف، الذي أخبرني لاحقاً بانتمائه الأصيل للمدينة، فهو ينحدر من وجدة أباً عن جد. في اليوم التالي، قدم لي بوشقيف هدية لا تُقدر بثمن: وفّر لي نصف مساحة الرواق الذي عرض فيه مؤلفاته وإصداراته بالفرنسية والعربية. ولأول مرة في حياتي، وجدتني مؤلفاً وناشراً في آن واحد في معرض عربي، حيث عرضت مجموعة من إصدارات منشورات ميزوبوتاميا. شهدت في تلك اللحظات أن المعرض يُكسَر فيه حاجز النجومية، ليحل محله حوار متساوٍ ومتبادل. لقد أدهشني بوشقيف في قدرته وولهِه في التواصل مع القراء من أطفال وشباب على حدٍ سواء، وهو ما يؤكد أن هذا التجمع يمثل أرضاً خصبة للمواهب الشابة للاستفادة من تجارب الكتاب المخضرمين. وقد كنت حريصاً بدوري على أن لا أجعل ثمن الكتاب حاجراً يحول دون اقتناء القارئ، وكانت سعادتي لا توصف حين استفسر مني بعض الأطفال القراء عن كيف يمكن لهم أن يكونوا شعراء؟ حينها استعنت بتجربتي الطويلة في تنظيم ورشات في كتابة النص الشعري للأطفال في هولندا. حينها، تحول الرواق إلى ورشة عمل عفوية. أخرجت مفكرة صغيرة ووزعت أوراقها على الأطفال وزودتهم بأقلام ملونة، وشرعت بتنظيم ورشة عمل كانت نتائجها مبهرة. لا أزال أحتفظ بقصائد أطفال وجدة مع أسمائهم، وهذه وحدها ذكرى عظيمة وهدية ثمينة تذكرني بأن القوة الحقيقية للكتاب لا تكمن في حجم مبيعاته، بل في الشرارة التي يشعلها في نفوس الأجيال الصاعدة. معرض وجدة، في نظري، ليس مجرد سوق للكتب، بل هو مختبر للهوية المغاربية وروح التواصل الإنساني، حيث يتم الاحتفاء بالأفكار أكثر من الأغلفة، وحيث يجد كل من الكاتب والقارئ فرصة ليكون "ذاته" بكل صدق. شاعر عراقي مقيم في هولندا