عادةً ما يتم التركيز على وحدات تحليل (Units of analysis) معينة ومحدودة لفهم واستيعاب الظواهر الاجتماعية والإنسانية، وهو ما يُعطِّل محاولات النفاذ إلى عمق هذه الظواهر، ويحول دون تقديم أجوبة شاملة لها. لذلك نرى من اللازم والضروري أن يتسلّح الباحث بالأدوات المساعدة على الإحاطة الشاملة بموضوع دراسته؛ وهو أمر لا يتحقق إلا باستحضار واستدماج أكبر عدد ممكن من وحدات التحليل التي قد تُعين على هذه الإحاطة، خاصة إذا كانت الظواهر جديدة وتحتاج إلى جهد بحثي أكبر. منهجيًا، يُسارع كثيرون إلى تحليل الظواهر الجديدة بآليات وأدوات الواقع، أي بما يطرحه هذا الواقع من مستجدات وأحداث، وكأنهم يسابقون الزمن لإحراز السبق في تقديم الإجابات عمّا استُحدث من ظواهر. لكنهم يقعون على غير مقصودهم فريسةً لأحداث الواقع التي تمتاز بطبيعتها بالسرعة والحركة، كسِمتين بارزتين من سمات كل ما هو يومي ولحظي. فيتحوّل الباحث بذلك، من فاعلٍ إلى تابعٍ للواقع، خاضعٍ لتقلباته، في الوقت الذي كان يقصد التحكم فيه واستشراف أبعاده المستقبلية. انطلاقًا من هذا المعطى المنهجي، لا نرى من الضروري تتبّع كل خيوط حركة جيل Z؛ لأنه بالرغم من أهمية تحليل طبيعة هذا الجيل وبنيته وتكوينه وخصوصياته ونقاط قوته وضعفه، فإن الأهم من كل ذلك هو كيف تعمل هذه الحركة، وكيف تتفاعل ضمن النسقين الإقليمي والدولي، وضمن الأبعاد الاستراتيجية للقوى الدولية والتوازنات العالمية، ثم ما دور العامل الداخلي في إيقاظها وتأجيجها. يبدو أننا لن نتمكّن من إحراز هذا التوجه المنهجي إلا باستدماج أكبر عدد من وحدات التحليل ذات الصلة بالموضوع؛ أي لا يمكن إغفال التحولات الكبرى التي مست الفرد والأسرة والمؤسسات (كالمدرسة، الأحزاب، النقابات، الجمعيات…)، والبنيات الترابية كالمدينة والقرية ودينامياتها، وبنية الدولة ونظامها السياسي بما في ذلك شكل السلطة ومضمون التعاقدات السياسية، فضلًا عن النسق الاجتماعي للدولة وما يتضمنه من نظم وقيم ومدركات. كما لا يمكن تجاهل ما يعتري النظام الدولي من توترات وتفاهمات وتغيرات تفرض، في كثير من الأحيان، حدودًا نٌظٌمِيَّة وقيمية، وأنماطًا معينة من السلوك والعيش، ترسمها في الغالب مؤسساته عبر وسائطها المعرفية والإعلامية والمالية. إن قراءة هذه الظاهرة من خلال التفاعل بين الوحدات، ومن خلال التأثيرات المتبادلة بينها، ومدى تأثير الوحدة الأكبر على الأصغر منها، وردود فعل الوحدة الأدنى تجاه الأعلى، ستمكّننا بلا شك من إدراك صعوبة الفصل بين الوحدات. (مثلًا، لا يمكن فهم الفرد/الثائر بمعزل عن الوحدات الأخرى؛ فرغم أنه يحمل إدراكًا خاصًا يميّزه عما سواه، وجيناتٍ مليئةً بذكريات مجتمعه ومؤسسات تنشئته، إلا أن تشبّعه بالمنظومة القيمية والمفاهيمية التي يفرضها النسق الدولي عبر أدواته الحديثة يجعله في صراعٍ مع قيمه الأصيلة). نريد من خلال هذا المعطى التنبيه إلى ارتباطات هذه الحركة، سواء على المستوى الفردي (أفرادها) أو الجماعي (تكتلاتها)، بما هو داخلي وخارجي على السواء؛ والارتباط الذي نقصد لا نعني به بالمطلق ما قد يتبادر إلى الذهن من « عمالة للخارج » أو « ارتماء » في أحضان قوى إقليمية ودولية معينة، بل المقصود هو التفاعلات والتشابكات التي تحصل بشكل طبيعي، وفي كثير من الأحيان، بشكل غير واع بين وحدات التحليل المختلفة التي ذكرنا سابقا، فهي التي تحكم على أي حركة بالنجاح أو الفشل.. فعلى المستوى الداخلي نقدر بأن الأوضاع الداخلية قد أسهمت في انفجار هذه الاحتجاجات، عبر محدديين اثنين: محدد سلبي: أذكته النقائص والمعايب التي تعتور النسق القيمي الاجتماعي والسياسي الداخلي مثل التفككات الأسرية الناتجة عن الارتفاع المهول لنسب الطلاق، أو مثل ما يعتري المدرسة المغربية من إخفاقات تقرها مختلف المؤشرات والتصنيفات الدولية، أو فقدان الثقة في الأحزاب والنقابات وضمور فاعلية المجتمع المدني.. ناهيك عن غلاء المعيشة وارتفاع أسعار المواد الأساسية وارتفاع معدلات البطالة في صفوف الشباب، وتدهور مستوى المعيشة لنسبة كبيرة من الأسر المغربية كما جاء في تقارير المندوبية السامية للتخطيط. ومحدد إيجابي يرتبط من جهة أولى بنقاط قوة هذا الجيل عبر ما راكمه من قدرات تقنية وتكنولوجية مهمة نتيجة انفتاحه الشفاف على العالم، بالإضافة إلى سمة هذا الجيل بما يمكن أن نصطلح عليه بالحياد الأيديولوجي: أي بقدرته على الحركة من خارج الأطر الفكرية والتنظيمية السائدة التي يكون مدار اشتغالها على الوصول إلى السلطة، فهو يختلف عنها بكونه لا يمتلك رؤية لما بعد السلطة القائمة، لأنه ينظر إلى الجزئيات بدل الكليات ويريد الإصلاح بدون البحث عن التفاصيل… كما يرتبط المحدد الإيجابي من جهة ثانية، بالتزامات المغرب القارية والعالمية التي فتحت أعين الشباب على مدارك أخرى للتغيير كان سببها تحسن البنيات التحتية في التواصل والمواصلات، كما هو الشأن في بناء الملاعب والمراكز الثقافية والسماح بالفضاءات الرقمية التي خلقت مساحات واسعة للنقاش والاجتماع السياسي في الفضاءات الافتراضية، وهو ما أفضى إلى زيادة الطلب على المشاركة وحرية التعبير.. ثم إن الدولة -أي دولة- حينما تنظم كأس العالم فإنها تدخل في منظومة من القيم والمعايير الدولية التي تفرض عليها حرية الإعلام المحلي وفتح أبوابها للإعلام الدولي والمنظمات غير الحكومية، لهذا تكون الدولة مجبرة على إظهار صورتها المنفتحة أمام العالم فتخفف الرقابة أمام النقاشات العامة، ناهيك بأن السرعة في الاستعداد لمثل هذه التظاهرات قد يخلق فرص شغل آنية تمكن من بروز طبقة وسطى غير متحكم فيها، مما يسمح لها بهوامش كبيرة للحركة.. أما على المستوى الخارجي فنستحضر بكل تأكيد الأبعاد ذات الطابع الجيوستراتيجي، المتجسدة في التوازنات والتفاهمات الدولية والإقليمية التي تطمح إلى التموقع في العالم خاصة فيما يتعلق بالمنطقة العربية باعتبارها منطقة القلب من العالم، وهنا نستحضر ثنائيتين تفسيريتين تُبرز طبيعةَ العلاقة بين الغرب والمغرب. أولا : تيار/اتجاه ما يعرف بالاستقرار المنضبط الذي يريد مغربا مستقرا وغير مضطرب لأنه يشكل حلقة وصل قوية نحو إفريقيا ونحو دول آسيا العربية والمسلمة، بما يحمله المغرب من مكانة رمزية في المنطقة…. وثانيا: تيار/اتجاه معروف في الأدبيات الأكاديمية باتجاه « اللااستقرار الموجه » أو « الفوضى الخلاقة » الذي يرى في النظام السياسي الحالي عائقا نحو هذه المداخل الاستثمارية المعولمة، لأنه نظام تشكل بنيويا بطبيعة محافظة لا تسمح بتجاوز الخطوط الكبرى لشرعية هذا النظام: وخاصة في بعديها المرجعي (الإسلام والوحدة المذهبية المالكية) والسياسي (المرتبط بنظام الحكم وعقد البيعة). وبين المحددين الداخلي والخارجي يمكن أن نخلص إلى أن هناك بنية ذاتية لهذا الجيل والتي من مميزاتها الأساسية الاستيعاب السريع وإن كان لحظيا وآنيا، والسرعة في الإقرار والحركة، وامتلاك أدوات تقنية متعددة ومتطورة تمكنها من اعتماد استراتيجيات وخطط تزاوج بين المحلي والعالمي، ناهيك بأنها حركة تتدثر بأبعاد عالمية في فلسفتها رغم أنها مغلفة بمطالب محلية. وهي أمور وإن كانت مهمة للحركات الاحتجاجية إلا أنها تفتقر إلى أهم مميزات الديمومة والصلابة في الاحتجاج، كتلك المتجلية في الرؤية الفلسفية والفكرية الموحدة، ووحدة القيادة، فالغالب أن الحركات التي تفتقر لهذه المميزات تحمل في بنيتها بوادر انفجارها وفشلها.. غير أنه بالرغم مما قد يبدو من عدم وجود الوحدة الفكرية ووحدة القيادة لدى هذه الحركات إلا أن الفراغ المطبق في الساحة المحلية وما تركته رواسب الممارسة السياسية من أعطاب، وتدخلات الفاعلين الإقليميين والدوليين (ولو بشكل غير مباشر)، قد يسهم في بروز قيادات أكثر صلابة وأكثر جرأة في طرح مطالبها. وهو ما قد يخلق مشاكل مستقبلية للمغرب رغم ما قد يبدو من تحكم لحظي في هذه الحركات، ورغم ما يمتلكه المخزن من تقاليد راسخة ومتواترة في التعامل المستوعب للحركات الاحتجاجية.. لكل هذا لا نهتم كثيرا بالبحث عن نقاط قوة أو ضعف النموذج الاحتجاجي موضوع الدراسة إلا بالقدر الذي نفهم به تفاعله وانضباطه مع النسق القيمي والحركي المحلي الذي نشأ فيه، وضمن الأنساق القيمية والحركية الإقليمية والدولية، وهل يمكن التعويل عليه إيجابا في مساعدة المغرب على استكمال مساره التنموي ووحدة واستقلال قراره السيادي خاصة مع الضغوطات التي يتعرض لها من طرف القوى الكبرى التي ترى في التجزئة والصراع مع جيرانه فرصة لزيادة الضغط عليه، أم أن هذا النموذج الاحتجاجي لا يمكن التعويل عليه لأنه يحمل في ذاته بوادر الانفجار وتأزيم الأوضاع بالشكل الذي سيضيع على الجميع فرصا كبيرة للتصالح مع الذات وزمنا مهما من أزمنة استكمال مسار التنمية والوحدة والاستقلال.. وهو أمر لن يتحقق في تقديرنا إلى بالابتعاد عن لغة القوة والغلبة (غالب/منهزم) من الطرفين: ممثلي المجتمع وممثلي الدولة والمؤسسات، والارتكان إلى الحوار والتفهم والإحساس بالمسؤوليات الجسام الملقاة على عاتق الجميع، وبالتحديات المستقبلية التي تنتظر المنطقة برمتها والتي تتغذّى من مشاريع تجزئة المُجزّأ وتقسيم المُقسَّم، فضمن هذا الإطار لوحده يمكننا أن ننتقل إلى مسار رابح/رابح الذي يضمن الاستجابة لمطالب الناس مع الحفاظ على استقرار الوطن واستكمال مسار تنميته.