ليست الحركة الاجتماعية في المغرب طارئة ولا مجرد هبّات معزولة؛ إنها تعبير عن تحولات اجتماعية عميقة، وصرخة شعبية تتجاوز المطالب الآنية إلى مساءلة الخيارات السياسية والاقتصادية للدولة. الحاجة اليوم مُلحّة وآنية لاستعجال احتضان هذه الحركة والتفاعل الجدي مع رسائلها، قبل أن تتوسع شرارتها وتعلو الموجة على استدراك مآلاتها. فهل تستوعب النخب السياسية دلالات هذه التحولات؟ وهل تدرك الدولة أنّ تجاهل الرسائل المباشرة للشارع يُفاقم فقدان الثقة في المؤسسات؟ حين تتشكل موجات الاحتجاج، فهي تعكس إحساسًا عامًا بغياب العدالة الاجتماعية والإنصاف المجالي، وتطرح سؤالًا قديمًا جديدًا: لماذا تتكرر أسباب الاحتقان رغم تعاقب الحكومات وتنوع البرامج التنموية؟ وما الذي يجعل فئات واسعة من المواطنين تشعر بالتهميش والإقصاء من ثمار النمو؟ ثم أين اختفت مؤسسات الوساطة التي يُفترض أن تجسر الفجوة بين الدولة والمجتمع، من أحزاب ونقابات وجمعيات مدنية؟ إننا نعيش زمنًا تتسارع فيه التغيرات الرقمية والاقتصادية والثقافية، بينما لا تزال بعض مؤسساتنا السياسية تعيد إنتاج خطاب قديم لا يلامس واقع الشباب، ولا يجيب عن أسئلتهم الحارقة: أين فرص الشغل؟ أين التعليم الجيد؟ أين الخدمات الصحية اللائقة؟ وما مصير العدالة المجالية التي تحدثت عنها الخطب الرسمية والتقارير الوطنية؟ هذه الأسئلة لا تنتظر إجابات خطابية، بل تنتظر إرادة فعلية وخططًا عملية قابلة للتنفيذ. الخطورة اليوم أنّ شرارة الحركة الاجتماعية قد تتسع إذا لم تتم الاستجابة لها بالحوار والتدبير الحكيم. فهل ستظل الدولة تراهن على المعالجة الأمنية دون مقاربة شمولية تنموية؟ وهل يمكن بناء الاستقرار الحقيقي دون شعور المواطن بكرامته وعدالة توزيع الثروة؟ ثم إلى متى سيستمر غياب رؤية استراتيجية واضحة لمأسسة الحوار الاجتماعي كآلية دائمة وليست موسمية؟ إنّ تراجع دور الأحزاب السياسية، وانكماش النقابات، وضعف المجتمع المدني الوسيط، كلها عوامل تُعقّد المشهد. ويُطرح هنا سؤال آخر: هل يمكن إنقاذ ثقة المواطن في المؤسسات دون تجديد العرض السياسي والحزبي وضخّ دماء جديدة في هذه التنظيمات؟ أم أنّ الوقت قد حان لإعادة صياغة ميثاق اجتماعي جديد يربط التنمية بالعدالة والمواطنة الاقتصادية؟ إنّ التجارب المقارنة تثبت أنّ الدول التي احتضنت حركاتها الاجتماعية في بداياتها واعتبرتها شركاء في الإصلاح، استطاعت تجنّب الانفجار المجتمعي وتعزيز السلم الاجتماعي. فهل نملك الشجاعة السياسية لتبني هذا الدرس؟ أم أنّنا سننتظر حتى يفرض الشارع إيقاعه ويصبح التدارك مكلفًا للجميع؟ ومن خلال هذه القراءة، أقدّم بعض التوصيات العملية التي أراها ضرورية: 1. مأسسة الحوار الاجتماعي بشكل دوري ومنتظم، يضم ممثلين عن الحكومة والأحزاب والنقابات والمجتمع المدني، مع آليات ملزمة لتنفيذ مخرجاته. 2. إطلاق برامج استعجالية للتشغيل ودعم المقاولات الصغرى والمتوسطة تستهدف الشباب في المناطق الهشة، وربطها بمشاريع الاقتصاد الأخضر والرقمي. 3. تعزيز العدالة المجالية عبر توجيه استثمارات إضافية للبنيات التحتية والخدمات الاجتماعية في القرى والحواضر المهمشة، بما يقلّص الفوارق ويعيد الثقة في الدولة. 4. تجديد العرض السياسي بإصلاح قانون الأحزاب وتشجيع مشاركة الشباب والنساء في القرار السياسي، وإعادة تعريف أدوار النقابات لتستعيد دورها التفاوضي والدفاعي عن الحقوق الاجتماعية. 5. حماية الحق في الاحتجاج السلمي وتطوير قنوات للتواصل المباشر مع المواطنين، بما يرسّخ ثقافة المشاركة ويُضعف خطاب العزوف والتصعيد. إنّ المغرب في حاجة ماسة اليوم إلى سياسة اجتماعية جديدة تُصغي للناس لا أن تتحدث عنهم فقط، وتبني قراراتها على الحوار والثقة لا على التدبير الفوقي. فهل نلتقط هذه الفرصة قبل أن تتضاعف التحديات ونخسر الوقت والجهد؟ إنّ الإجابة عن هذه الأسئلة ليست ترفًا فكريًا، بل شرطًا أساسيًا لحماية الاستقرار والسلم الاجتماعي وضمان مستقبل تنموي أكثر عدلًا وشمولًا. لقد حان الوقت ليكون الشارع شريكًا لا خصمًا، وليصبح الإصلاح استباقيًا لا اضطراريًا. (*) باحث في العلوم السياسية وقضايا الشباب