مرت سنتان على زلزال الحوز، ومضَى الزلزال في ركن خفيِّ قصيّ مستور بالجبال وجدران من طين، مر في ذاك الربع المنسي المكلوم من مغربنا الحبيب مروقا شهابيا موليا ظهره بعنجهية، ليُودعنا صلصلة الوجع والكثير من الشقوق والشروخ في الجدار والصدور، مضى تاركا لنا أرواح تفيض عن الكون محبة وكرما وكينونة لن تفنى أبدا، متعالية عن تلك الفراغات الفاصلة والمسافات الممتدة بسموقها وبتأججها الداخلي وبنحيبها النابض بكل ما يرسله وما يستودعه ويستثيره… عبَر الزلزال عجولاً، بشكل يجعل إمكانية استعادة اللحظة مستعصية، وصعب إدراكها، هبّ في زمن لم نتأهّب فيه لهبوبه الآثم فانفطرت أشطار من جسدنا، لم يتبق لنا سوى فاجعة نفيق عليها عند صحونا وآخر ما تعلق بنا قبل إغماض العين. مرّ خاطفا في جنوب فؤادنا، وترك لنا مآق تنبض بالوداعة وتنطق بالسكينة، ووجوه نوارنية الطلع صامتة الحضور تضوى بحبور إنساني نادر، في مواجهتنا باحتجاجها الصامت وابتسامتها الواهنة الآيلة رغم محاولات مداراتها بود هادئ. لكن هذا الزلزال ببشاعته وأرجله الكسيحة وأطرافه الممزقة وبطفولة تنشد أمومة تلبسه، قد تلحقه ارتدادات واهتزازات إبداعية أكيد لن تكون بحجم الدمار ولكن بعمق إنساني وفيض مخيلة في مكان منعزل قصي عن المأساة. لكن ألا يعد الأمر «انتهازية» و»أنانية» من مبدع يكتب ما جادت به القطوف الدانية من الكارثة ومتلق يستلقي براحة وأريحية ليقرأ المأساة برؤية إبداعية جديدة وآمنة؟ أكيد أن هول الكارثة أفظع بكثير مما سينحته المبدع على بياضه مستريحا على أريكته منتشيا بقهوته وسيجارته، لكن مما لاشك فيه أن جرحه وحنقه الكتومين سينتجان لغة وحياة جديدتين للآفة، حياة على أنقاض الفناء ومعان من وحي الألم وكينونة إبداعية جديدة من نحيب الثكالى والأيامى وصراخ الأيتام. ينشق المبدع الحقيقي عن جوقة التفكير النمطية ليرى ما لا يراه الآخرون ويرهف السمع لما لا يسمعه الآخرون، وكلنا يتذكر قصيدة نازك الملائكة «الكوليرا» وهي تنصت لوقع أرجل الخيل تجر عربات الموتى من ضحايا الوباء في ريف مصر، يكتب مبصرا المألوف بطريقة مبهرة بعيد عن أي توثيق أومباشرية، مستجيبا لانتظارات قارئ نخرته المأساة، وفاضت به الكدورات، يحلم عند القراءة بمواراة الجثث بقفازات الحلم والشغف والدهشة. يكتب المبدع مهادنا المأساة وملطفا من ألم دماملها المتعفنة بقصة حب ملهمة كرواية «الحب في زمن الكوليرا»لغابرييل غارسيا ماركيز التي تحكي قصة حب ولدت في جنوبأمريكا في وقت الحروب والأوبئة مثل وباء الكوليرا، على متن سفينة، بحيث يتخلص الحبيب من المسافرين الآخرين بخدعة أن السفينة عليها وباء الكوليرا لكي لا تنتهي الرحلة، رافعا علم الوباء الأصفر دون أن ترسو إلا للتزود بوقود، ليعيشا الحب من أجل الحب رغم كبر عمرهما. يكتب المبدع مخلدا المأساة عبر التاريخ بشكل إبداعي مختلف، وكلنا يتذكر رائعة «الطاعون» التي كتبها ألبير كامو سنة 1947 وهو يصف فيها مقاومة ورباطة جأش سكان مدينة وهران الجزائرية المستعمرة الفرنسية المنكوبة آنذاك بوباء الطاعون اللعين. يستعيد المبدع الفاجعة بثراء مخيلته ونبوغه السردي، مدققا فيما استعصى على الإنسان العادي رؤيته وفيما لم يلاحظه في آنيته، عائدا بالوجود إلى بداياته، ربما ثمة ما يستعصي على الذاكرة الاحتفاظ به أو استدعائه، لكن قبس الجرح وعمق التراجيديا سيظلان حيان نابضان في أرواحنا لن يردمهما الزلزال ولن تمحوهما الكارثة مهما تطاول الأمد أو تغير الحال.