قصص قصيرة جدا :

٭ الطاهر لكنيزي
تَصْعيدٌ
كَثيراً ما تَكونُ حِواراتُهما مَزيجاً من الْجِدِّ والْهَزْلِ ، حتّى أنّ مدّ الْهَزْل يَتَكسّرُ أمواجَ اسْتهزاءٍ وتَجْريحٍ ، تَغْمُرُ ما تَبَقى من مساحَةِ التّحَمُّلِ وتَجْتَثُّ جذورَ الْوِدِّ الْمنْخورَةِ بِمِلْح التّقْريعِ .. وهُما يَتحاوَرانِ لَقَمَها شَريحَةً من عِباراتِ قَدْحِهِ . لَمْ تَهْضِمْها قابِليّتُها الدّرْداءُ بَعْدَ لَوْكِها ، ذَرّتْ عَلَيْها من مِلْحِ غَضَبِها ورَدّتْها إلَيْهِ . أضافَ إلَيْها إبْزارَ غَيْظِهِ وأرْجَعها إلَيْها ، فَوَضَعَتْها فَوْقَ نارِ حُنْقِها حَتّى اسْتَوَتْ وأعادَتْها إلَيْهِ . نثَرَ فوقَها كَمّونَ سَخَطِهِ ورَماها بِها .أدْخَلَتْها فُرْنَ غَِلِّها حتّى غَدَتْ رماداً ورَشّتْهُ بِهِ فَرَدّ علَيْها بِصَفْعَةٍ ظَلّتْ تَخْبِطُ طَبْلَةَ أُذُنِها كَدَبْكَةِ قَلْبِ مُحْتَضِرٍ إلى أنْ تَوَقّفَتْ ضَرَباتُها أمامَ إشارَةِ : طلالالالالالالالالالالالاق التي نَصَبَها الْقاضي في مثل هذه المُنعرجات .
هُدْنَةٌ
عادَ من الْمَعمَلِ مُفَكّّكَ الأوصالِ منهوكَ العَضلاتِ مُختَنِقَ النّفْسِ لَمْ تَبْقَ في خزّانِ أريحيّتهِ إلاّ قَطْرَةُ صَبْرٍ نَفَدَتْ حينَما عابَتْ عليْهِ اسْتِلْقاءهُ فوق الأريكة بِحذائهِ . اعْتَذَرتْ لهُ بِنبْرَةِ اسْتِعْطافٍ ودلالٍ ، فاعْتذرَ لها بِدورِهِ بصَوْتٍ مَشْنوقٍ بالنّدَمِ ، فاغْرَوْرَقَتْ عَيْناهُما بالدّموعِ . تَعانَقا وانْخَرطا في ضَحِكٍ مَتَرَقْرِقٍ جَرَفَهُما إلى السّريرِ دون عَشاء ..
مُتراجِحةٌ
الْفاكِهاني يَمْسَحُ بِعَيْنَيْهِ الزّانِيَتَيْنِ تَضاريسَ قَدِّ زَوْجَةِ الْمُدَرّسِ التي لا يَرى منها إلاّ عَيْنَيْها وكَفَّيْها.. يَنْسَلُّ خَيالُهُ الذّئْبِيُّ تَحْتَ خمارِها وجِلْبابِها لِيَكْتَشِفَ مكامِنَ بِكْراً لا تدرِكُها إلاّ أوْهامُهُ .. يَنْفُثُ قَلْبُهُ الْمَريضُ رياحَ شَكٍّ في أعْماقِ سَكينَتِها .. يَغْرِسُ في رَوْضَةِ عِفّتِها فسائلَ مُداهَنَتِهِ ..
الْمُدَرِّسُ يَكْتَشِفُ بْعَيْنَيِّ مُراهِقٍ بَطّيخَ ابْنَةِ الْفاكهاني ومِشْمِشها وخوخِها ورُمّانها وفُسْتُقِها .. يتَنَسّمُ أطْيابَها وَتَنْتَشي قَريحَتُهُ فيَسْتَعيرُ من طفوحِ أُنوثَتِها جُملا ركيكَةً تُخْجِلُ تلاميذَهُ .
لكنَّ قَلْبَيِّ الأنْثَيَيْنِ خَلِيّانِ ..
لامّةٌ ..
من نافِذةِ بَيْتِها الْمُطِلَّةِ على الزُّقاقِ ظلّتْ تُراقِبُ أبْناءَ جارَتِها الذينَ أبْغَضَتْها قَهْقَهاتُهمْ وحَيَوِيّتَهمْ الْمُتَدَفِّقَةِ على عَتباتِ الأبْوابِ ، وهُمْ مشْدودونَ إلى لُعْبَتِهمْ الْمُفَضّلةِ .. جَميلَةٌ مَحاسِنُهمْ ، نظيفَةٌ ملابِسُهم وأنيقة أحْذِيَتُهم .. الْتَحَقَ بهمْ أصْغَرُهم لِيُشارِكهم بَهْجَتَهم فأخذتْ عَيْناها تَرْصُدُ حركاتِهِ وخِفّةَ روحِهِ وسُرْعَةَ انْدِماجِهِ في الْمُعْترَكِ ..
أقْبَلَتْ شاحِنَةٌ تُثيرُ الْغُبار َفَخَلَتْ قارِعَةُ الطّريقِ إلاّ من أكبرهم الذي احْتَضَنَ الْكُرَةَ قبْلَ أن يلْجأ إلى الرّصيفِ ، غَيْرَ أنّه رجَعَ على عَقِبِهِ لِنَجْدَةِ أخيهِ .. حاولَ السّائقُ تَجَنُّبَهما لكن دون جدْوى .. أغْلَقَتِ النّافذةَ وبدأتْ تَسْتَرِقُّ السَّمْعَ لِوَلْوَلَةِ النّساء ، وجَلَبَةِ الْفضوليينَ ؛ وبَعْدَ أن سَمِعَتْ مُنَبّهَ سيّارة الإسْعافِ ، دَلَفَتْ إلى الْمَطْبَخِ لِتُعِدَّ لها عصيراً .