حين تتحطم الأكاذيب على جدار الاستخبارات المغربية الصلب    أهم منصات الصين الإعلامية الرسمية ترد التاريخ للمغرب بنشر خريطة المغرب بصحرائه موحدة    الكويت.. وفاة 13 شخصا وحالات عمى لأفراد من جنسيات آسيوية بسبب تناولهم لخمور فاسدة    الصين تطلق مجموعة جديدة من الأقمار الصناعية للانترنت    إسترجاع وادي الذهب ملحمة بيعة وإنتصار في مسار إستكمال الوحدة الترابية    ذكرى استرجاع وادي الذهب: محطة تاريخية مهمة في مسار الوحدة الترابية للمملكة    فريد الصمدي مدير مهرجان السلام والتعايش ببروكسيل يكرم في العاصمة الرباط    ذكرى استرجاع وادي الذهب .. ملحمة تجسد التلاحم بين العرش والشعب    اصطدام عنيف بطنجة البالية يُسفر عن انقلاب سيارة وإصابة أربعة أشخاص    ريمونتادا قاتلة تتوج باريس سان جرمان بطلاً للسوبر الأوروبي    شبكة دولية وراء محاولة تهريب كوكايين من البرازيل إلى المغرب        المعركة في سماء شفشاون .. الطائرات في سباق مع الزمن!            نتنياهو و"إسرائيل الكبرى" .. استعمار بوجه جديد وخريطة توسعية بلا حدود    الحضور السياسي للشباب..    "قطبية" دوغين و"مدينة" أفلاطون    هل يتحقق حلم حكيمي؟!    سلطان يلهب الجمهور ب"الركادة"    أب أبكم وابنه يلقيان حتفهما غرقاً في حوض مائي بنواحي قلعة السراغنة    المحلي ينهي الاستعدادت للقاء زامبيا    باريس سان جرمان يحرز كأس السوبر الأوروبية على حساب توتنهام            منحة سنوية بقيمة 5000 درهم لأساتذة المناطق النائية    سلوك اللاعبين في مباراة كينيا يُكلف الجامعة غرامة من "الكاف    موريتانيا "تفاجئ" بوركينافاسو بالشان    حرب تجارية تشتعل بين الصين والاتحاد الأوروبي    المداخيل الجمركية بالمغرب تتجاوز 54,79 مليار درهم وتواصل صعودها    وفاة مبدع «نجمة أغسطس» و«اللجنة».. صنع االله إبراهيم    "آخر اختيار" يتوج بجائزة أفضل فيلم روائي بالهند    الطماطم المغربية تغزو السوق الدنماركية وتسجل نموا قياسيا في الصادرات    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الأحمر    "مناجم"... رقم المعاملات يبلغ 4،42 مليارات درهم عند متم يونيو 2025    المغرب: إشعاع ثقافي متصاعد وتحديات تمثيل صورته في السينما الأجنبية    على بعد مسافة…من حلم    الناشط أسيدون يلازم العناية المركزة    رواج ينعش استعمال "كتابة النساء" في الصين        الدكتور بوحاجب: غياب مراقبة الجودة أحيانا يفتح المجال أمام التلاعب بصحة الناس..!!    نائب يميني متطرف يستفز المغرب برفع العلم الإسباني على صخرة محتلة قبالة الحسيمة    ذكرى استرجاع وادي الذهب.. المشاريع الملكية تحوّل الصحراء المغربية إلى قطب اقتصادي وتنموي متكامل            تفشي بكتيريا مرتبطة بالجبن في فرنسا يودي بحياة شخصين ويصيب 21 آخرين    دول أوروبية تتوعد النظام الإيراني بإعادة تفعيل آلية العقوبات    تسكت تتألق في أمسية "رابافريكا"        دورة سينسيناتي لكرة المضرب: ألكاراس يتأهل لثمن النهاية    غزة: صندوق الثروة السيادية النرويجي يسحب استثماراته من 11 شركة إسرائيلية    عوامل تزيد التعب لدى المتعافين من السرطان    دراسة: استعمال الشاشات لوقت طويل قد يزيد خطر الإصابة بأمراض القلب لدى الأطفال والمراهقين    "بعيونهم.. نفهم الظلم"    بطاقة «نسك» لمطاردة الحجاج غير الشرعيين وتنظيم الزيارات .. طريق الله الإلكترونية    هنا جبل أحد.. لولا هؤلاء المدفونون هنا في مقبرة مغبرة، لما كان هذا الدين    الملك محمد السادس... حين تُختَتم الخُطب بآياتٍ تصفع الخونة وتُحيي الضمائر    المغاربة والمدينة المنورة في التاريخ وفي الحاضر… ولهم حيهم فيها كما في القدس ..    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الله يخلينا فصباغتنا
نشر في المساء يوم 09 - 06 - 2010

من حق سفراء الدول الذين لبوا دعوة الجمعية التي نظمت «المهرجان الدولي المشوي» ببوزنيقة أن يخافوا على رؤوسهم ويغادروا المكان، خصوصا بعد أن دغدغت رائحة المشوي أنوف الحاضرين الذين تزاحموا حول النيران الموقدة، التي كان يتقلب فوقها ثلاثون خروفا، يشمون رائحة «الغنمي» وشحومه التي تذوب على مهل.
ولعله أصبح ضروريا في مثل هذه المهرجانات التي يتعلق الأمر فيها بالمشوي والكباب وبولفاف، والتي أصبحت تتكرر في مختلف ربوع المملكة، أن يحتاط المنظمون جيدا، وينبهوا المدعوين إلى ضرورة إخبارهم مسبقا بعلاقتهم الخاصة باللحوم. ف«البشار مخلط»، وليس كل الناس نباتيين، فهناك الكائنات اللاحمة التي بمجرد ما يقع بصرها على «طرف ديال اللحم» تزيغ أبصارها و«تتشقلب» عيونها. ونتحدث هنا طبعا عن اللحوم الحيوانية.
وهناك أيضا من يطيح بالعظام إذا رأى «قطيب ديال المشوي» دون أن يستطيع الوصول إليه. وهناك من «يتهاوش» ويتحول إلى «بنادم» آخر عندما يشم أدخنة الشحمة وهي تنبعث من المجمر.
ولهذا السبب تعود المغاربة كلما أعدوا شواية من اللحم أن يرسلوا «قطيبا» أو اثنين إلى جيرانهم الذين يمكن أن يكون بينهم «شي مهاوش» قد يتعذب بسببهم «وما فيهم ما يدي ذنوبو».
كان هذا يحدث في الماضي، أما اليوم فكل جار يقفل عليه باب داره و«يشنشط» الأكباد و«الكوطليط» دون أن يفكر في إطعام جاره الذي تتسلل الأدخنة إلى أنفه و«يتشنشط» من شدة «التهاويش».
طبعا، كل هذه الإشكاليات النفسية المعقدة للمغاربة لا يفهمها سفراء الدول الأجنبية الذين حضروا «المهرجان الدولي للمشوي» ببوزنيقة. ولذلك أحسوا بقليل من الخوف والتوجس وهم يرون تلك النظرات الزائغة للحاضرين الذين اقتربوا من النيران الموقدة تحت «الحوالى»، للظفر «بشي كوطليطة» أو «شي ضلعة». وهكذا بدأ الرفس والتزاحم والتصادم بين الحاضرين والمدعوين، وانطلق السباق نحو موائد المشوي. وعدا ثلاثة «حوالى» وضعها المنظمون تحت تصرف الضيوف المهمين والمنتخبين، فإن بقية «القطيع» المشوي لم يظهر لها أثر، باسم الله الرحمان الرحيم.
وطبعا، فالناس معذورون في ما قاموا به. فليس كل يوم يأكل الإنسان المشوي، خصوصا في هذه الأزمنة الصعبة التي أصبحنا نرى فيها كيف يتعرض الإنسان بنفسه للشي بسبب البطالة. وخلال الأسبوع الماضي، ارتفعت رائحة الشواء في سماء الرباط، وتشمم المواطنون لأول مرة رائحة شواء «لحم بنادم» عندما شبت النيران في جسد أحد المعطلين الذي كان يلوح بقماش ملتهب لكي يلتقط المصورون لقطة مثيرة للنار، فامتدت النار بسرعة إلى ثيابه وتحول إلى كتلة من اللهب فأصبح هو اللقطة المثيرة.
لحسن الحظ أن رجال المطافئ كانوا متواجدين في المكان، فأطلقوا خراطيم مياههم باتجاه مصدر الحريق، وبللوا أجساد المحتجين و«رقدوها» لرجال القوات المساعدة الذين غسلوهم بدورهم «غسيل الحنابل» من كثرة ما رفسوهم بأحذيتهم العسكرية الثقيلة، وكأن الضرب بالماء لا يكفي، فكان ضروريا إكمال المشهد بحصة من «الشتيف».
وبما أن عباس الفاسي يتحمل المسؤولية السياسية والأخلاقية عن مهرجان الشواء الوطني هذا الذي أصبح يقام بين يوم وآخر أمام البرلمان، فإنه أصبح يستحق لقب «الشواي». فقد سبق له أن «شوى» ثلاثين ألف شاب مغربي في مستقبلهم وتركهم يحلمون بوظيفة وهمية في أعالي البحار، قبل أن يستفيقوا على السراب ويجتمعوا أمام البرلمان لكي يقولوا لعباس «يشوينا فيك».
المثير في المهرجان الدولي للشواء المنظم ببوزنيقة هو أن الخرفان التي تم «تشنشيطها» جاءت من مناطق مختلفة من المغرب، أي المغرب ممثلا بخرفانه في هذه التظاهرة العالمية. فهناك الخرفان الصويرية والدكالية والصردية وغيرها. كما أن سفراء البيرو وماليزيا ورومانيا المشاركين دعموا المهرجان بمشاركة شرفية. والحقيقة أنني لم أفهم معنى المشاركة الشرفية، هل ساهموا بخرفانهم المحلية أم بالفاخر أم بالمجامر، أم إنهم ساهموا فقط بأسنانهم.
ومثلما لم أفهم طبيعة المشاركة الشرفية لسفراء الدول الأجنبية في هذا المهرجان، لم أفهم أيضا ما علاقة وكالة تنمية الشرق، التي يرأسها المباركي، بمهرجان الشواء في بوزنيقة. ففي حدود علمنا، بلدية بوزنيقة تابعة لإقليم ابن سليمان ولا علاقة لها بالمنطقة الشرقية. ومع ذلك، ساهم السي المباركي ماديا في تنظيم مهرجان المشوي. وعلى العموم، فالسيد المباركي متعود على الشواء، ومنذ تعيينه على رأس الوكالة وهو يشوي في الميزانيات المخصصة للإشهار. وعوض أن يقوم بالتنمية على أرض الواقع، يفضل أن يقوم بها على «الماكيط» وفي المواقع الإلكترونية، يعني أنه يفضل التنمية بالتيمم.
ويبقى الشواء طريقة فعالة لاشتهار بعض المدن المغربية الصغيرة التي لا تذكرها الخرائط عادة. ومدينة بوزنيقة، التابعة ترابيا لعمالة إقليم ابن سليمان، اشتهرت بمحلات شوائها الموجودة على جانب الطريق المؤدية إلى الرباط. وقد توقع الجميع عند فتح الطريق السيار بين الرباط والدار البيضاء انقراضا سريعا لهؤلاء الشواية، لكن الأيام كذبت توقعاتهم. فأكلة اللحوم المشوية لازالوا أوفياء لتلك المحلات التي تنبعث منها أدخنة الشحوم واللحوم. فبوزنيقة لا يمكن تخيلها بدون تلك الرائحة التي بمجرد ما تتسلل إلى خياشيمك تتحرك في داخلك جينات الإنسان البدائي وتبدأ في البحث عن مصدر الرائحة كأي كائن مفترس.
ولذلك عندما فتحت محطات جديدة للتزود بالبنزين بالقرب من بوزنيقة، لجأت كلها إلى استعمال الشواء كطعم لجلب الزبائن. والشيء نفسه وقع في منطقة «العرجات» بنواحي سلا، فحوانيت الشواء القديمة تصارع محلات الشواء العصرية التي لجأت إليها محطات الاستراحة الكبرى على طول الطريق.
ويبقى لشواء الحوانيت الصغيرة والقديمة طعم خاص لا يتوفر لكثير من حوانيت شواء المحطات الكبرى.
وربما يرجع ذلك إلى الإفراط في النظافة. ولسبب غامض، عندما تدخل محلا من تلك المحلات التي «يتجاوق» عليها «الدبان» ويكاد يسد مدخلها، تشعر في البدء برغبة في الغثيان. لكنك بمجرد ما تجلس وتبدأ في التهام «القطبان» تشعر بلذة ومذاق تفتقده في المحلات المنمقة التي تشم فيها رائحة «سانيكروا» أكثر مما تشم فيها رائحة «الكوطليط».
أتذكر أننا خلال سنوات البطالة، بداية التسعينيات، كنا نتناقش كثيرا. من يسمعنا نتحدث عن النقاش يعتقد أننا كنا نناقش مشاكل الشرق الأوسط . والحال أن المناقشة الأساسية عندنا كانت «التناقش» في شواية وليس في شيء آخر. وكان كل واحد من المجموعة يتدبر عشرين درهما لتأمين ثمن المازوط الذي سيكفي لرحلتنا ذهابا وإيابا إلى بوزنيقة، وثمن الشواية وبراد من الشاي. أما الخبز فقد كنا نحمله معنا من بيوتنا.
كنا آنذاك جماعة من الشباب «ضاربين الدنيا بركلة». أو، على الأصح، «ضاربنا الدنيا بركلة».. نقضي اليوم في تحويل حياة العامل والباشا إلى جحيم بسبب اعتصامنا المفتوح احتجاجا على البطالة، وفي المساء نبحث عن وسيلة نقل للذهاب إلى بوزنيقة لتبريد «الغدايد» في «القطبان». وكان شعارنا آنذاك، «ناكلو الشوا اليوم وغدا يحن الله».
وبعد سنة متواصلة من الاعتصام والمسيرات والاحتجاجات الصاخبة أمام مندوبية الشغل والعمالة والباشوية، فهمنا أن الحل ليس هو الحصول على وظائف في السلم سبعة والتحول إلى موظفين أشباح في أقسام العمالة والباشوية والقيادات. فتفرقت بنا السبل، ويمم كل واحد وجهه شطر الجهة التي يراها أنسب له ولمستقبله.
ونجح كل أعضاء «طائفة أكلة اللحوم المشوية» في العثور على عمل في ميدان بعيد كل البعد عن مجال دراسته وتخصصه. منا من هاجر وعاد، ومنا من مكث في البلد وتقاتل من أجل إحراز مكان صغير تحت الشمس.
ورغم مرور السنوات و«تبدال المنازل»، ظل موعدنا عند محلات الشواء في بوزنيقة ثابتا. مع فارق بسيط هو أن العائق الآن لم يعد ماديا بقدر ما أصبحت له علاقة بالوقت. فالله استجاب لدعائنا وحن علينا فعلا بعد أن «ترقع» أغلبنا، إلى درجة أن مشاغل الحياة ابتلعتهم ولم تعد تترك لهم وقتا لإحياء عادات أيام «الزلطة».
وهي العادات التي يجب أن يرجع إليها كل واحد منا بين حين وآخر لكي يتذكر من أين أتى، وما مر عليه من كوارث ومآس قبل أن «يمسك» عليه الله. فالأصدقاء القدامى والأماكن القديمة والذكريات هي أغلى ما يملكه الإنسان. وإذا فرط فيها فإنه يصبح كمن يريد أن ينسى ماضيه وأصدقاءه وذكرياته.
وسواء عاش المرء بالشواء والكافيار أو فقط بالخبز الحافي، فإن أهم شيء يمكن أن يطلبه الإنسان في هذه الحياة هو «الله يخلينا فصباغتنا والسلام».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.