إذا كان صحيحا أن الموت غيب الجنرال بما حقق طموحات الاستخبارات الأمريكية في إزاحته من الوجود، فإنه لا توجد دلائل قاطعة على أن غيابه كان نتيجة تصفية مطلوبة من الخارج، وفي الوقت ذاته، فإن هناك دلائل على أن الرجل أصبح في أيامه الأخيرة مزعجا لأطراف عديدة، سواء أكان تم الإفصاح عن ذلك أم لا، فما هو أساسي هو أن موته كان نهاية أسطورة شغلت الناس. ماذا يعني أن يرد اسم الجنرال أحمد الدليمي ضمن الأشخاص المطلوب قتلهم من طرف جهاز الاستخبارات الأمريكية (سي. أي. إيه)؟ وعلى اعتبار أن بعض الأسماء لا تكون مطلوبة للعدالة، وإنما للتصفية، حين تكون قد صدرت أحكام عرفية ضدها من الأجهزة التي تترصد تحركات المسؤولين في كافة أرجاء الأرض، فإن السؤال الجوهري يظل مطروحا حول خلفيات إدراج اسم الجنرال ضمن قوائم المطلوب تصفيتهم. من جهة، لأن الرجل كان يضطلع بدور بارز في جهاز الاستخبارات الخارجية المغربية، وكذا في المؤسسة العسكرية، ومن جهة ثانية، لأنه لم يعرف عنه أو يتسرب حوله أنه كان معاديا للمصالح الأمريكية، لا في المغرب ولا خارجه، وبالتالي فإن وضع اسمه في قوائم التصفية كان يستند، من دون شك، إلى أفعال أو نوايا رأت فيها الاستخبارات الأمريكية أن استمرار وجوده مزعج لها، على أن الأهم، في غضون ذلك، أن مجرد الإعلان عن كون رأسه كان مطلوبا من لدن الأمريكيين يضع المزيد من علامات الاستفهام حول ظروف وفاته أو مقتله، الذي أعلن رسميا أنه تم على إثر حادثة سير في مدخل إقامات النخيل في مراكش في مطلع 1983. الآن، وبالاستناد إلى الوثائق التي تسربت عن جهاز الاستخبارات الأمريكية صار بالإمكان الحديث عن عملية قتل وليس اصطدام سيارته بشاحنة حمراء زاغت عن طريقها، كما جاء في الرواية الرسمية، إلا أن هذا الاستخلاص لا يملك في ذاته كل عناصر الإجابة الحاسمة، ذلك أن وضع اسم الجنرال أحمد الدليمي في قائمة المطلوب قتلهم، لا يعني بالضرورة أن ذلك الطلب تحقق بحرفيته الكاملة. إذا كان صحيحا أن الموت غيب الجنرال بما حقق طموحات الاستخبارات الأمريكية في إزاحته من الوجود، فإنه لا توجد دلائل قاطعة على أن غيابه كان نتيجة تصفية مطلوبة من الخارج، وفي الوقت ذاته، فإن هناك دلائل على أن الرجل أصبح في أيامه الأخيرة مزعجا لأطراف عديدة، سواء أكان تم الإفصاح عن ذلك أم لا، فما هو أساسي هو أن موته كان نهاية أسطورة شغلت الناس. حين نقلب صفحات حياة الجنرال المتنفذ، أحمد الدليمي، فإننا نجد أنها خليط من التحديات والمغامرات والمعاكسات. ولعله المسؤول المغربي الوحيد، الذي كان يفعل ما يقتنع به، أو ما يخال أنه عين الصواب، ولم يكن يعترف، في غضون ذلك، بأي حواجز أو موانع، باستثناء أنه كان ينحني راكعا أمام سيده الأول الملك الحسن الثاني، لكن ليس من أجل طلب الصفح والمغفرة، وإنما لتأكيد أنه فعل ما كان يراه ملائما، تاركا للأقدار أن تقرر في أفعاله المعروفة وغير المعروفة. أكثر من رواية أشارت إلى أن الدليمي، حتى قبل أن يرتقي إلى درجة جنرال وكبير الضباط المرافقين للملك، كان عنيدا في مواقفه، ولم تكن تأخذه أي حسرة أو إشفاق أو تأنيب ضمير حيال ما يصدر عنه من تصرفات، وقد ثبت أن الحالات التي لجأ فيها إلى الاعتذار عن تصرفاته كانت نادرة جدا، ولم تكن تصدر إلا عندما يعود إلى ضميره في لحظة صدق ونكران الذات، لكنه على امتداد مساره المهني كان صارما لا يلين. هل يكون قد دفع ثمن تصلبه؟ أم أن عدم قدرته على المزج بين المرونة والعناد كان وراء ذهابه إلى الموت مفتوح العينين؟ في كل الأحوال، فإن الرجل الذي لم يكمل منتصف عقده السادس، كانت له طموحات كبيرة، ومع أنه لم يكن يفصح عنها إلا في إطار الصلاحيات المخولة له كقائد عسكري للمنطقة الجنوبية ومسؤول أول في الاستخبارات الخارجية، ورجل المهمات الصعبة، كان قد أبان عن نوع من التمرد إزاء الجميع. في بداية حياته العسكرية، شارك في إخماد تمردات عرفتها البلاد في مناطق الأطلس المتوسط، وساعده طموحه العسكري في التدرج عبر مسؤوليات لاحقة، ولم يكن اختياره لمنصب المدير العام للأمن الوطني بالنيابة، على عهد الجنرال محمد أوفقير، بعيدا عن تلمس ملامح الطموح والتحدي في شخصيته، فقد تصور أوفقير أنه لا بد أن يكون له البديل الذي يضبط إيقاع الملفات الأمنية، وأن يكون عسكريا وليس مدنيا. والظاهر أن وقوع الاختيار عليه أملته اعتبارات كان الجنرال أوفقير وحده يديرها في رأسه، لولا أن مسار الطريق بين الرجلين سيحتم فراقهما في منتصف المشوار، وتحديدا منذ عام 1965، على خلفية قضية اختطاف واغتيال الزعيم التاريخي للاتحاد الوطني للقوات الشعبية المهدي بن بركة. الأكيد أنهما اشتركا معا في تدبير اختطافه واغتياله، لكنهما افترقا عند إحصاء الخسائر. وفيما ذهب الدليمي في اتجاه البحث عن براءته بأي ثمن، إلى درجة أنه واجه القضاء الفرنسي، فإن الجنرال أوفقير ظل أسير الحكم الذي صدر ضده بالسجن مدى الحياة، لأنه لم يفلح في انتزاع حكم آخر. هنا تحديدا، يمكن تلمس معالم الطريق الأخرى التي قد تكون جلبت على الدليمي غضب الاستخبارات الأمريكية. فهو وحده ظل يمسك بكل خيوط الملف الشائك لقضية بن بركة، وقد يكون الوحيد الذي يعرف حدود تورط الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية في هذا الملف. في عام 1972، صدرت عن الاستخبارات الأمريكية قوائم بأسماء المتعاملين معها في العالم العربي والغرب، وقد ورد اسم الجنرال أوفقير، الذي كان قد غيبه الموت بعد ضلوعه في المحاولة الانقلابية الفاشلة لصيف 1972، ضمن قوائم العملاء، إلى جانب شخصيات وزارية ومدراء وصحافيين، غير أن اسم الدليمي لم يرد ضمن تلك القوائم، مع أن مساره لا يكاد يختلف عن الطريق التي سلكها أوفقير. لكن كيف يمكن لعميل متعاون أن يصبح موضع اتهام، إن لم يكن الأمر قد تجاوز الخطوط الحمراء، فنحن هنا أمام افتراضين، إما أن الدليمي كان يعرف أشياء كثيرة عن تورط الاستخبارات الأمريكية ولم يحن وقت الإشارة إلى ذلك، وإما أن معرفته تجاوزت حدود التورط نحو التلويح بالإقدام على شيء لم يكن مقبولا. يوم تحدث جنرال إسرائيلي عمل في الموساد سنوات طويلة عن قضية المهدي بن بركة، اتهم الجنرال أحمد الدليمي، صراحة، بالضلوع في الحادث إلى جانب وزير الداخلية الجنرال محمد أوفقير، وأشار إلى أنه إلى حدود نهاية يوم التاسع والعشرين من أكتوبر 1965، كان المعارض المهدي بن بركة لا زال حيا، غير أنه تحاشى الحديث عن الصلات التي ربطت الجنرالين الدليمي وأوفقير بالاستخبارات الإسرائيلية، وربما أن أكثر الزيارات أثرا هي تلك التي قاما بها على انفراد إلى الكيان الإسرائيلي في منتصف ستينيات القرن الماضي، مما يرجح احتمال أن يكون الرجلان مطلوبين من الموساد الإسرائيلي قبل الاستخبارات الأمريكية، انطلاقا من نظرية التخلص من الأشياء بعد انتفاء الحاجة إليها. في تفاصيل مغيبة أن مسؤولين في الاستخبارات الإسرائيلية كان لهم ضلوع كبير في قضية اغتيال المهدي بن بركة، والأكيد أن الدليمي وحده كان يعرف أسماءهم وهوياتهم ودرجاتهم في السلم التراتبي. طبعا لم يكن وحده، فقد كان خلال تلك المرحلة يأتمر بأوامر الجنرال أوفقير، وما دام هذا الأخير قد أزيح من الواجهة، فلم يبق إلا الدليمي الذي قد تكون معرفته هذه وراء طلب رأسه أمريكيا وإسرائيليا، بالنظر إلى التعاون القائم بين استخبارات أكبر دولة في العالم ومحميتها المدللة إسرائيل. تصح ملاحظة أن غالبية الذين تورطوا في المحاولتين الانقلابيتين ضد نظام الملك الراحل الحسن الثاني تم الإجهاز عليهم، إما في يوم المحاولتين أو بعدهما. فقد عرف عن الجنرال محمد المذبوح، العقل المدبر لمحاولة العاشر من يوليوز، أنه لم يكن بعيدا عن الدوران في فلك الاستخبارات الأمريكية، لذلك لم يكن صدفة أن تندلع فضيحة الطائرات الأمريكية في نفس العام الذي قتل فيه، وتورط فيها وزراء ومدراء ومسؤولون في شركات مالية كبرى، من بينهم شخصيات يهودية تتحدر من أصول مغربية. في قضية محاولة إسقاط الطائرة الملكية، ظلت هناك قضايا في الظل، غير أن الجنرال أحمد الدليمي، الذي ارتقى إلى الواجهة بعد مقتل غريمه محمد أوفقير، استطاع في ظرف وجيز أن يعيد للعلاقات المغربية الأمريكية، التي كانت قد تضررت بعض الشيء، وهجها، وقد عرف أنه اشتغل كثيرا في مجال الاستخبارات الخارجية، وكان أقرب إلى أن يصبح رجل الغرب في المنطقة، خصوصا في رصد تطورات الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط والاهتمام بتزايد النفوذ الغربي في القارة الإفريقية، فقد كان مصارعا عنيدا للنفوذ السوفياتي، لماذا إذن يصبح رأسه مطلوبا لدى الاستخبارات الأمريكية؟ قد يكون الخطأ الفادح الذي ارتكبه الجنرال أحمد الدليمي أنه انصاع وراء موجة بعض الانقلابيين العرب، وتحديدا عندما نسج علاقات تحوم حولها الشبهات مع نظام الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي، الذي لم يكن مقبولا من طرف العواصمالغربية. في بعض التبريرات أن انفتاحه على النظام الليبي كان نتيجة البحث عن مخرج لقضية الصحراء، بالنظر إلى أن الزعيم الليبي كان في مقدمة داعمي جبهة البوليساريو بالمال والسلاح، لكن هل اقتصرت العلاقة بين الرجلين على هذا النطاق أم تجاوزتها إلى مدى أبعد؟ فحتى حدود نهاية عام 1982، لم تكن العلاقة بين الرباط وطرابلس قابلة لأي تفاهم. كان المغاربة يفكرون ويخططون لإسقاط النظام الليبي، وكان الليبيون بدورهم لا يتوانون عن فعل أي شيء للإطاحة بالنظام المغربي، وهنا تحديدا تطرح الكثير من علامات الاستفهام، بالنظر إلى أن الأمريكيين لم يتقبلوا أي عودة للعلاقات الطبيعية بين المغرب وليبيا، فبالأحرى أن يكون رجل في حجم الجنرال أوفقير ينصب نفسه في تلك المرحلة حليفا للزعيم الليبي العقيد معمر القذافي. هذا الأمر يتعدى الافتراض، خصوصا إذا قورن مسار العلاقات المغربية الليبية برحيل الجنرال الدليمي. وثمة روايات قابلة للتصديق في توقيتها بأن الليبيين اهتموا أكثر بالانفتاح على المغرب، على خلفية خطة نقيضة لما كان يدبره الجنرال الدليمي، لكن يصعب الجزم في مدى صدقية هذه الروايات، إلا في حالة استقرائها بالنتائج، أي إبرام أول معاهدة وحدة بين المغرب والجماهيرية الليبية في عام 1984. الأكيد أن الأمريكيين، الذين أبدوا المزيد من الانزعاج حيال التقارب الليبي المغربي، لم يكن لهم أن يقبلوا تحالفا ما بين عسكريين، الجنرال الدليمي والعقيد القذافي، والأكيد كذلك أن ذلك الانزعاج، الذي تم احتواؤه عبر حوار دبلوماسي شاق وعسير، قد يكون دفع الاستخبارات الأمريكية إلى المطالبة برأس الجنرال الدليمي، فهو في النهاية كان عسكريا ينفذ السياسة، وقد كان محظورا عليه أن يصبح سياسيا ينفذ خطته عسكريا. ولأن هذه بتلك، فإن جمع رجل واحد، في شخص الدليمي، بين القيادة العسكرية في ساحة الميدان وبين جهاز الاستخبارات الخارجية، لم يكن ليقابل بالتفهم، فقد اعتبر الأمر في عام 1973 مقبولا، في سياق إعادة ترتيب البيت الأمني المغربي، حين تولى الدليمي رئاسة الاستخبارات الخارجية، وأسندت مهمة حماية التراب الوطني إلى إدريس البصري. غير أن دور الرجلين كان محكوما برقابة أشمل، وربما أن ميدان التسلح العسكري كان من بين الأشياء التي جلبت المصاعب على الجنرال الدليمي، فقد بات يفكر في أيامه الأخيرة أن بإمكانه فعل أي شيء وكل شيء، وغاب عنه أن شاحنة زائغة قد تضع حدا لكل الأوهام. الآن أصبح بالإمكان فتح ملفات الموت ضمن حوادث السير الطبيعية وغير الطبيعية، وكل ما فعلته الاستخبارات الأمريكية أنها أزالت الضباب عن واجهة سيارات كانت عرضة للاصطدام بالموت.