إذا كانت هناك وحدة حال تجمع الشعوب العربية المطالبة بالإطاحة بالأنظمة الديكتاتورية العربية واستبدالها بأنظمة ديمقراطية منتخبة، فإن هناك في المقابل ناديا لزعماء عرب يقفون في الخندق الآخر، ويرفضون مطلب الشعوب هذه، ويصرون على رفض حمل لقب «رئيس مخلوع» حتى لو أدى ذلك إلى انزلاق البلاد إلى حرب أهلية دموية وتدخل خارجي. الرئيس اليمني علي عبد الله صالح هو عميد نادي الزعماء المتشبثين بالسلطة، رغم أن الزعيم الليبي معمر القذافي أطول منه عمرا في الحكم بعشر سنوات، وهو استحق هذه العمادة لأن صموده أمام الثورة الشعبية في بلاده التي تطالب بإطاحة نظامه أطول من نظيريه السوري واليمني، ونحن نستثني البحرين ليس لأسباب طائفية مثل أجهزة إعلام ودول أخرى، وإنما لأن هناك تواطؤا عربيا وغربيا غير مسبوق نجح في إجهاض هذه الثورة بالقوة القمعية وتدخل قوات درع الجزيرة. لسنا مغرمين بإطلاق الألقاب على الزعماء العرب، ولكن من الصعب تجاهل القدرات الهائلة لدى الرئيس اليمني على المناورة والرهان على كسب الوقت، بالطرق والوسائل كلها، وهذا ما يفسر بقاءه حتى الآن، وبعد أكثر من أربعة أشهر، جالسا على كرسي عرشه رغم نزول الملايين من اليمنيين إلى الشوارع للمطالبة برحيله، وتقديم مجلس التعاون الخليجي طوق النجاة له من خلال مبادرة توفر له خروجا مشرفا من السلطة هو وأسرته، ولكنه وبعد تعديل هذه المبادرة أربع مرات، أطلق عليها أخيرا رصاصة الرحمة عندما تقدم بشروط تعجيزية جديدة وأمر أتباعه بمحاصرة مقر الوفد الخليجي في سفارة دولة الإمارات لمنعهم من الانتقال إلى قصره وإفساد حفل التوقيع. الرئيس صالح نجح في دق إسفين بين أحزاب المعارضة (اللقاء المشترك) وبين الشباب الغاضب الذي يتهمها، أي الأحزاب، بالليونة مثلما وضع الدول الخليجية التي سايرته، وكظمت الغيظ لأكثر من ستة أسابيع على مناوراته، في حرج كبير عندما لم يترك أمامها أي خيار آخر غير سحب مبادرتها والاعتراف بالفشل، وهي دول ترفض بعناد مثل هذا الاعتراف، ليس في الشأن اليمني فقط وإنما في جميع الشؤون الأخرى، فالذين يخطئون هم الزعماء الآخرون، أما هم فمنزهون عن الفشل أو الخطأ أو الاثنين معا. الشباب اليمني عارضوا المبادرة الخليجية منذ البداية، لأنهم أكثر معرفة برئيسهم من أحزاب اللقاء المشترك وقادتها، ومعظمهم من المفترض أن يفهموا الرئيس اليمني أكثر من غيرهم لأنهم عملوا وزراء في حكوماته، وخاصة السيد باسندوة، زعيم المعارضة المكلف بالتفاوض نيابة عنها، فهؤلاء، أي الشباب، وصفوا التوقيع على اتفاق المصالحة الخليجي بكونه «خيانة» لدماء الشهداء الذين سقطوا دفاعا عن الثورة ومطالبة بالتغيير، وأثبتت أحداث الأمس أنهم أبعد نظرا من «حكماء» المعارضة الذين تجاوزوا مرحلة الشباب بعدة عقود ومازال بعضهم ينتمي إلى مرحلة ما قبل الحرب الباردة، فكرا وممارسة وتنظيرا. اليمن يهرول بسرعة نحو حرب أهلية، مهد لها الرئيس اليمني بتحميله مسؤوليتها للمعارضة، لأنها لم تذهب إلى القصر الجمهوري وتوقع المبادرة الخليجية أمامه، تكريسا للاعتراف بشرعيته. طبعا هذه ذريعة، فإذا كان أصحاب المبادرة هذه (عبد اللطيف الزياني، رئيس مجلس التعاون، والوفد المرافق له) لم يستطيعوا الوصول إلى القصر الجمهوري بسبب الحصار المفروض عليهم من أنصار الرئيس اليمني الغاضبين واضطروا إلى العودة إلى المطار على متن طائرة عمودية للنجاة بأرواحهم، فكيف سيصل إليه قادة المعارضة؟ الرئيس اليمني محظوظ بشعبه الطيب والحضاري، لأن هذا الشعب الذي يتمتع بجرعة كرامة ربما هي الأعلى بين نظرائه العرب، أقولها دون تردد، ويحتل مرتبة متدنية على قائمة العشرين لأكثر شعوب العالم فقرا، تمسك لأشهر ب»سلمية» ثورته وتجنب، رغم كل استفزازات الرئيس وقناصيه وبلطجيته، الوقوع في مصيدة عسكرة ثورته، وهو الذي يملك خمسين مليون قطعة سلاح ناري غير ضعفها من الخناجر. رفض الرئيس الرحيل على ظهر المبادرة الخليجية إلى منفى آمن وفخم في مدينة جدة على ساحل البحر الأحمر بعد ثلاثين عاما من الحكم، قد يصعد من إغراءات الاحتكام إلى السلاح في بلد أنهكه الفقر، وستون في المائة من سكانه تحت الخمسة والعشرين عاما، نصفهم عاطل عن العمل. الحرب الأهلية التي هدد بها الرئيس تعني أحد أمرين: تحول اليمن إلى دولة فاشلة تسيطر على جيوبها جماعات متطرفة، وعلى رأسها تنظيم «القاعدة» أو التدخل الخارجي مثلما حدث في ليبيا. الرئيس علي عبد الله صالح، باغتياله للمبادرة الخليجية، يريد أن يهدم المعبد فوق رأسه ورؤوس معارضيه، وهو يدرك جيدا أن حلفاءه الخليجيين المتخمين بالثروة سيكونون أبرز المتضررين من حالة الفوضى وعدم الاستقرار التي ستغرق فيها البلاد حتما. نترحم على الرئيس التونسي زين العابدين بن علي والرئيس المصري حسني مبارك، فقد أدركا أن العناد كفر وأن الخروج من الحكم بأقل قدر من الخسائر هو أقصر الطرق لأكبر قدر ممكن من المكاسب لبلديهما، نقولها رغم معارضتنا لهما ونظاميهما البوليسيين القمعيين الدمويين الفاسدين.