تحاول رواية كينيزي موراد De la part de la princesse morte أن تذهب إلى التفاصيل التي لا يعكسها المؤرخ لمرحلة سقوط الإمبراطورية العثمانية، وهنا يكمن جزء من قيمتها، إلى جانب الأجزاء الأخرى، ومنها الجزء الفني، لكن ما يعطيها أهميتها، من الناحية الأدبية والتاريخية، هو أن المؤلفة ذاتَها تُعَدّ واحدة من بنات المرحلة وتنتمي إلى جزء من التاريخ العثماني، رغم أنها وُلِدت خارج تركيا وتربّتْ في سويسرا، لكنها حملت معها التركة الثقافية للإمبراطورية العثمانية وحساسية الانتماء إلى الشرق، ثقافيا. فقد ولدت الكاتبة لأم تنتمي إلى الأسرة الحاكمة، فوالدتها هي ابنة واحدة من بنات السلطان عبد المجيد، الذي أسقطه عبد الحميد الثاني من الحكم. بعد سقوط الخلافة العثمانية، هاجرت أسرتها إلى لبنان، حيث كبُرت والدتها («سلمى» في الرواية). وخلال كل تلك المراحل، يبدأ الوضع المادي للأسرة في التراجع وتصبح الحلي التي نقلتْها معها من تركيا الوسيلةَ الوحيدة للدخل، عبر بيعها، تباعا، لتجار الحلي والنفائس.. لكنْ حتى هذه الأخيرة تبدأ في النضوب، وأخيرا تضطر الأم (حاتيجي) للموافقة على تزويج سلمى من حاكم إحدى ولايات الهند، الخاضعة للاستعمار البريطاني، هي ولاية «بادالبور» (وهو عنوان الراوية الثانية للكاتبة). يتم الزواج وتنتقل «سلمى» إلى الهند لكي تعيش وسط مجتمع شرقي تقليدي. ولأن التقاليد جرت هناك على أن المولود إن كان بنتا يربى وسط الحريم ويفقد صلته بالأم، فقد قررت سلمى، بعد أن انتفخت بطنها أن تلتمس من زوجها السماح لها بالسفر إلى فرنسا «لأن الطب هناك متقدم والوضع بدون مخاطر»، لأنها قررت بينها وبين نفسها إن كان المولود ولدا أن تعود إلى بادالبور، وإن كان بنتا، أن تظل هناك، إلى الأبد. يوافق الزوج وتسافر بطلة الرواية ويأتي المولود بنتا. وخلال تلك المرحلة من انتظار الوضع إلى ما بعده وتربية البنت، يتراجع الوضع المادي للأم وتضطر للانتقال إلى فندق بئيس، ومعها الخادم «زينيل»، الذي رافقها طيلة مسارها منذ طفولتها، وكان بمثابة الوالد. وضعٌ مادي مزرٍ فاقمه احتلال ألمانيا النازية باريسَ، حيث فُرِضت حالة الطوارئ ولم يعد الناس يجدون الخبز لأنفسهم ولا الحليب لرُضَّعهم. ووسط هذا البؤس، تموت الأم، في لحظة يائسة، فيحمل الخادم البنت -المؤلفة إلى السفارة السويسرية، المكان الوحيد الذي كان مفتوحا في باريس ويسمح فيه بتقديم المساعدات لمن يتقدمون إليه. وتشاء الصدف أن تكون زوجة السفير موجودة في تلك اللحظة، فتقرر أخذ البنت وتبنّيها، بعد أن عرف الحكاية، وهكذا تكبر الكاتبة. هذه فقط حبكة الرواية، لكن مَشاهدها الخلفيةَ غنية بالمعطيات التاريخية والسياسية التي تضئ تلك المرحلة. فقد نجحت الكاتبة في أن تنقل مخاض نهاية الباب العالي واستيلاء كمال أتاتورك -الذي كان يعشق المال والخمر والعربدة على الحكم بدقة عالية، وعكست كيف كان أتاتورك نفسُه ابن القصر الذي انقلب عليه وكيف ساهم القصر في تسويق صورته كبطل قومي، عندما أرسله السلطان إلى الأناضول لقيادة معركة ضد الإنجليز، وكيف أن السلطان كان يُقدّم العون للجنود المحاربين، بعيدا عن أعين الإنجليز، مغامرا بموقعه، ويعمل على إخفائهم داخل القصر، رغم الجواسيس، ثم كيف شجع السلطان أتاتورك على تولي رئاسة أول برلمان أنشأته تركيا، وكيف نجح في الانقلاب على السلطان، بدعم إنجليزي وفرنسي، لإسقاط الخلافة. لقد قدّمت الكاتبة أتاتورك كرجل سفاك للدماء، متعطش إلى السلطة ويغدر بأقرب المقرّبين إليه، فمباشرة بعد توليه رئاسة البرلمان لجأ -عبر شبكة المصالح التي أنشأها إلى التضييق على السلطان، من خلال إصدار قانون يقضي بالتقليص من الميزانية التي كانت مرصودة للقصر. ثم عمل، بعد ذلك، على إصدار قانون يمنع رفع الآذان في المساجد.. ثم تتالت حملات التضييق على السلطان بشكل تدريجي، حتى اضطر هذا الأخير وحيد الدين- إلى اختيار الهجرة إلى سويسرا، بإرادته، بعدما أدرك أنه لم يعد يمتلك أي سلطة في البلاد وأن أتباعه ومؤيِّديه كلِّهم إما قُتِلوا أو هَربوا من البلاد، خوفا من أتاتورك، الذي نجح في إنشاء دولة بوليسية، استكملها بإصدار قانون ينُصّ على شنق أي شخص يدعو إلى رجوع السلطان من المنفى أو يطالب بإرجاع الخلافة، وشُنِق الكثيرون وهاجر آخرون، لأن الأتراك كانوا ضد سياسة أتاتورك، لكنهم خضعوا، بسبب الإرهاب الذي فرضه على الجميع. بالطبع، لا يمكن اتّهام الكاتبة بأنها منحازة إلى الخلافة العثمانية، لكنها حاولت أن تعكس الحقيقة التاريخية لمرحلة تنتمي إليها وحاولت، في نفس الوقت، تعزيز هذه الحقائق بوثائق صادرة في صحف تركيا في تلك المرحلة، وهي صحف كانت خاضعة لأتاتورك، الذي عمل على تصفية بعض الصحافيين، لكي لا يقولوا الحقيقة للشعب ولكي يُروّج أكاذيب ضد السلطان، لتجييش الناس ضده، منها، مثلا، أنه عندما خرج من البلاد، أخذ معه بردة النبي، التي كانت موجودة في إستنبول، مع أن هذا لم يكن صحيحا، كما تقول الكاتبة نفسها.