قبل الصيف، أهداني الكاتب والشاعر عبد الرفيع جواهري ثلاثة من كتبه : «شيء كالظل» و«غرفة الانتظار» و«النافذة» : قصائد شعر ونوافذ ساخرة. وبقدر ما أعادتني القصائد إلى المناخ الشعري، الذي كان سائداً، في المغرب، خلال سبعينيات القرن الماضي، استعدت، عبر النوافذ، وجوهاً وأحداثاً تعود إلى الثمانينيات والتسعينيات التي نشر جواهري خلالها نصوصه الساخرة في جريدة «الاتحاد الاشتراكي»، قبل أن يتابعها القراء على صفحات «الأحداث المغربية»، حيث كان هاجس جواهري، كما نقرأ في مقدمة «النافذة»، هو «الخروج من لغة الخشب، وذلك باستعمال معجم متحرر من التحجر اللغوي واستثمار الثقافة الشفوية بمختلف تعبيراتها، من أمثال شعبية وحكايات وأزجال وأغان، وتوظيفها عند الاشتغال على ما هو اجتماعي وسياسي من أحداث كل أسبوع». ولعل من المصادفات المثيرة أن ما تحقق ل«نافذة» جواهري سنعيشه، لاحقاً، وبشكل يومي، مع عمود «شوف تشوف» لرشيد نيني، في «الصباح»، ثم في «المساء». وكتب جواهري، تحت عنوان «حكاية بغل»، في ما يشبه إعطاء لمحة عن مضمون نافذته: «إن الأمر سيء بما فيه الكفاية. هكذا قال العجوز في رواية «الحمار» للروائي الألماني الساخر «غونتر ديبرون»، والتي ترجمها صديقنا الرائع صنع الله إبراهيم سنة 1977. والرواية، كما قال عنها مترجمها، «فكاهة مليئة بالمرارة». تلك الفكاهة المليئة بالمرارة، هي ضالتي كل أسبوع. إنني أمارس لعبتي من خلال نافذة خيالية على أشياء وكائنات وأحوال، تبدو وكأنها تدفع إلى الهزل لكنها «سيئة بما فيه الكفاية». وإذا كان بطل رواية «الحمار» يبدأ الرواية بفتح النافذة ويطل على شجر التفاح الممتد في رمادية الفجر، فإنني أطل على «تفاح آخر». ولا حاجة للاعتراف أنني أرى كل أسبوع أن الأمر سيء بما فيه الكفاية. ويجب أن أصرخ بذلك، عسى أن نستيقظ ذات صباح، مثل «كارل آرب»، فيبدو لنا الأمر كما بدا له، هكذا : كنا نبتسم عندما استيقظنا، لكننا لم نكن نعرف السبب. لم نتذكر أننا كنا نحلم، وفيما بعد - بعد قليل - لا نتذكر مثل الآنسة «برودر»، بل نكتشف صورة بلاد أصبح فيها الأمر رائعاً بما فيه الكفاية». وما تحدثت عنه مقدمة «النافذة»، من كتابة ساخرة واشتغال على ماهو اجتماعي، سنجد صداه في إحدى نوافذ جواهري، حيث نقرأ: «على ظهر علبة الجبن المستديرة صورة بقرة تتدلى من أذنيها علبتان مستديرتان في شكل قرطين، وعلى ظهر كل علبة صورة بقرة. ليس المهم هو البقرة. المهم هو ضحكتها. إنها بقرة ضاحكة قد تطعم البعض جبناً، لكنها قطعاً لن تطعم الباقين. وإذا كنت من الباقين فقد حرم عليك الجبن وأحلت لك ضحكة البقرة». كما نعثر عليه في نافذة أخرى، حيث نقرأ : «أحمد الصغير يلثغ بالغناء. هذا يوم كبير. العائلة مبتهجة، وشريط «الراي» يدور. عندما رجعت إلى البيت، طلبوا من أحمد أن يغني أمامي، واكتشفت في الأخير أن الشاب خالد قد اقتحم منزل صهري. هذا المغني المُهَلوَس بنظرته الزائغة، وابتسامته البلهاء، أشهر من عبد الرحمان اليوسفي عند مُراهقينا». ونقرأ في «عائلة الحاج ارشيوي»: «ارشيوي.. جدّ عائلة مغربية معروفة. انتشر نسل «ارشيوي» وذريته، في طول البلاد وعرضها. ذكاء عائلة «ارشيوي»، ذكاء حاد كشفرة «جيليت»... والبركة عند عائلة «ارشيوي» تأتي على شكل «دهنة»... فإذا أردتَ الأمور أن تسير، فعليك بدهن «السير». حتى طُرقنا أصبحت كلها مدهونة، ومن كثرة الدهن تكاثرت حوادث انزلاق الشاحنات والحافلات والسيارات تحت العيون المدهونة لرجال الطرق. انظر إلى شهادة السكنى. انظر إلى شهادة الفقر. انظر إلى كل الشهادات.. إنّ حبرها ممزوج بالدهن. شهادة واحدة غير مدهونة، هي شهادة لا إله إلا الله». ويتساءل جواهري، في إحدى نوافذ «غرفة الانتظار»، فيقول: «ماهي الديموغراضية ؟»، قبل أن يكتب أنها «تتركب من «الديمو» بمعنى الديمومة، كما وردت عند المأسوف عليه برغسون، و«غْراضية» بمعنى الغرض المعروف والمنفعة السمينة، وهكذا يصبح معناها الإجمالي الغرض الدائم أو المنفعة الدائمة، وهي في المجتمعات الديموغراضية لصيقة بالتقشف «شي ياكل وشي يشوف». هي نوافذ، كُتب بعضها قبل نحو ربع قرن.. وإذا استثنينا بعض الوجوه والأحداث، المحسوبة على العقدين الأخيرين من القرن الماضي، يبدو الأمر كما لو أننا بصدد نصوص كُتبت لنهاية العشرية الأولى من القرن الحالي.