شيء رائع أن يصبح الحلم حقيقة وشيء رائع أن يكون ذلك الحلم كتابا يجمع شتات تجارب طارت كشظايا كأس سقطت من بناء شاق نحو قعر بئر عميقة. لكنْ، قبل الحديث عن تجربة نشر الكتاب الأول والإحساس الذي انبثق في داخلي حينما رأيتُ الحلم وقد صار حقيقة لها أجنحة.. قبل ذلك، يقتضي مني الأمر العودة إلى «حديقة المنزل الخلفية» للبحث عن تلك الأوراق التي سقطت من الشجرة التي توجد خلفي مباشرة على بعد سنوات خلت.. تلك السنوات طوّحت بي هنا وهناك، إلى أن جعلت مني الآن رجلا وأبا خطّ ذقنَه وشاربَه ورأسه الشيبُ قبل أن يضع «في الطّاجين ما يْتحرقْ»... والشيب لا يعود إلى تقدم في السن ولكنه عائد، بالأساس، إلى حدة الطبع و»النّفْس اللي عْلى نيفي»، فكثيرون من جيلي سمنوا وتوردت خدودهم، عوض أن يأتيهم «النذير».. يكون مذاق التجربة الأولى مختلفا، خاصة حينما تنتزعها انتزاعا من بين أسنان «العفاريت» هنا وهناك.. التجربة الأولى هي بداية الإحساس برهبة الحياة. إن الحديث عن تجربة النشر في الماضي وفي الزمن المغربي بالذات كان من شبه المستحيلات التي كان يلُفُّها كثير من الغموض والألغاز. للوصول إلى وردة، يلزمك قطع مسافات ومسافات، وفي نفس الوقت، يلزم الكثير من الإيمان بما نكتب و»النضال» والإصرار على أن نجعل مخلوقاتنا التي أبدعناها في السر، في صمت وفي عزلة، بعيدا عن عيون العالم، كائنات فيها روح وذات معنى.. الذين عايشوا تلك المراحل السابقة يدركون ما أقصد، خاصة أن النشر كان مفتوحا فقط على جريدتين أو ثلاث، على أكبر تقدير.. لذلك فإنّ كاتب نص من النصوص الإبداعية، سواء كان شعرا أو قصة، كان عليه أن يكتب نصَّه وينتظر، قبل أن يفكر طويلا في شراء «بابّي مِنيستر» وظرف أصفر من بقال الحي، الذي كان يبيع، إلى جانب الأظرفة الصفراء، المواد الغذائية، من زيت وسكر ودقيق. ثم، وبعد أن يشتري «البابّي منيستر» ويكتب نصه بتؤدة تحت ضوء الشمعة، يبحث عن كلمات دافئة «يُشنّف» بها سمع المشرف على الصفحة الثقافية.. ثم بعد ذلك، يلزم ركوب العربة التي تجُرّها تلك البغلة الدهماء للذهاب إلى «الفيلاج»، حيث توجد «البوسْطا»، ليشتريّ طابعا بريديا يُبلِّله بريقه ثم يضعه على ظهر الظرف الأصفر، بعد أن يكتب عنوان الجريدة ويعيد قراءته أكثر من مرة، خوفا من خطأ غير مقصود قد يجعل الرسالة عرضة ل»الضياع».. وبعد قراءة العنوان أكثر من مرة، يرمي الرسالة في صندوق البريد الأصفر، وكأنه يرمي بقطعة من كبده.. حين يرمي بالرسالة، يشعر أن مهمته قد كبُرت، لكونه قد أصبح كاتبا، فهو يعتبر الكتابة مسؤولية، ومن تم تزيد الهموم ويضيق الصدر ويثقل الحمل. لكنْ أن تكون كاتبا هو مشروع كبير وضخم محفوف بالأحلام. وهكذا، علينا، دائما، أن ننتظر، لعل الصباح يأتي بفرحة وجود الاسم في الجريدة.. تلك كانت حكاية مختصَرة بين التواءات ومنعرجات بداية النشر وركوب سفينة الكتابة. وفي البدايات، هناك دهشة ترافقنا كلما كبر الحلم وصار كتابا.. لا يمكن فصل تجربي عن تجربة «الكتاب الأول».. إنها تدخل ضمن «الدهشة» التي تأتي دائما مع كل تجربة أولى، معجونة بالمتعة والألم. لقد صار الطفل الذي كان يحبو رجلا له شارب وقوة خارقة على كسر الأبواب ورسم خرائط الموت والحياة..