بدء أشغال المؤتمر السادس للبرلمان العربي بمشاركة المغرب بالقاهرة    گاريدو مدرب اتحاد العاصمة: جينا نربحو بركان ونتأهلو للفينال ونديو الكاس    توقعات أحوال الطقس غدا الأحد    طنجة.. توقيف ثلاثة أشخاص بحوزتهم حوالي 9000 قرص مهلوس    هذا تاريخ عيد الأضحى لهذه السنة بالمملكة    رحلة الجاز بطنجة .. عودة للجذور الإفريقية واندماج مع موسيقى كناوة    جلالة الملك يهنئ رئيس جمهورية الطوغو بمناسبة العيد الوطني لبلاده    فرنسا تعلن استعدادها تمويل خط كهرباء يربط الدار البيضاء بالداخلة    شركة صينية تحول أموالا ضخمة من مصنعها في إسبانيا إلى وحدتها في المغرب    بعد "بلوكاج" دام لساعات.. الاستقلال ينتخب فجر السبت لجنة ثلاثية لرئاسة مؤتمره    بلغت تذاكره 1500 درهم.. حفل مراون خوري بالبيضاء يتحول إلى فوضى عارمة    هيئة كبار العلماء بالسعودية: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون أخذ تصريح وآثم من فعل ذلك    تقنيات أوروبية متطورة تحاول إقناع مهنيي القطاعات الفلاحية في المغرب    مجلس الأمن .. حركة عدم الانحياز تشيد بجهود جلالة الملك لفائدة القضية الفلسطينية    مدير الثانوية اللي حصل ففي يو كيتحرش بتلميذة قاصر "هرب".. والنيابة العامة دارت عليه مذكرة بحث وسدات عليه الحدود    ارتفاع عدد شهداء العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 34 ألفا و388 شهيدا منذ بدء الحرب    الخارجية البريطانية: ملتازمين بتعزيز وحماية حقوق الإنسان فالصحرا وكنشجعو الأطراف باش يواصلوا جهودهم فهاد الصدد    الرباط: اختتام فعاليات "ليالي الفيلم السعودي"    المغرب يواجه واحدا من أكثر المواسم الفلاحية كارثية في تاريخه    ارتفاع أسعار اللحوم الحمراء بالمغرب    مؤتمر الاستقلال يمرر تعديلات النظام الأساسي ويتجنب "تصدع" انتخاب القيادة    بنتايك ضمن التشكيلة المثالية للجولة ال34 من دوري الدرجة الثانية الفرنسي    تفاصيل وكواليس عمل فني بين لمجرد وعمور    الدكيك يكشف ل"الأيام24″ الحالة الصحية ليوسف جواد وإمكانية مشاركته بكأس العالم    تواصل حراك التضامن مع الشعب الفلسطيني في المغرب.. مظاهرات في 56 مدينة دعما لغزة    قناة عبرية: استقالة رئيس الأركان الإسرائيلي قريبا وجميع الضباط المسؤولين عن كارثة 7 أكتوبر سيعودون إلى ديارهم    زلزال بقوة 6.1 درجات يضرب هذه الدولة    مجلس أمناء الاتحاد العربي للثقافة الرياضية يجتمع بالدوحة لمناقشة خطة 2025    إسبانيا تعزز وجودها العسكري بالقرب من المغرب    "التكوين الأساس للمدرس ورهان المهننة" محور ندوة دولية بالداخلة    السعيدية.. افتتاح النسخة الثامنة من تظاهرة "أوريونتا منتجعات السعيدية – حكايات فنية"    خمسة فرق تشعل الصراع على بطاقة الصعود الثانية وأولمبيك خريبكة يهدد حلم "الكوديم"    سيناريوهات الكاف الثلاث لتنظيم كأس إفريقيا 2025 بالمغرب!    مغني راب إيراني يواجه حكماً بالإعدام وسط إدانات واسعة            زفاف العائلات الكبيرة.. زواج ابنة أخنوش من نجل الملياردير الصفريوي    هجوم روسي استهدف السكك بأوكرانيا لتعطيل الإمدادات د مريكان    سامسونغ تزيح آبل عن عرش صناعة الهواتف و شاومي تتقدم إلى المركز الثالث    حريق كبير قرب مستودع لقارورات غاز البوتان يستنفر سلطات طنجة    تطوير مبادرة "المثمر" ل6 نماذج تجريبية يَضمن مَكننة مستدامة لأنشطة فلاحين    الأكاديمية تغوص في الهندسة العمرانية المغربية الإسبانية عبر "قصر الحمراء"    زلزال بقوة 6 درجات يضرب دولة جديدة    ممثل تركي مشهور شرا مدرسة وريبها.. نتاقم من المعلمين لي كانو كيضربوه ملي كان صغير    الرابطة الرياضية البيضاوية يؤكد ان الوحدة الترابية قضيتنا الاولى    جمارك الجزائر تجهل قانون الجمارك    اكتشف أضرار الإفراط في تناول البطيخ    كورونا يظهر مجدداً في جهة الشرق.. هذا عدد الاصابات لهذا الأسبوع    تتويج 9 صحفيين في النسخة الثامنة للجائزة الكبرى للصحافة الفلاحية والقروية    الأمثال العامية بتطوان... (583)    دراسة: التمارين منخفضة إلى متوسطة الشدة تحارب الاكتئاب    ‬غراسياس ‬بيدرو‮!‬    محمد عشاتي: سيرة فنان مغربي نسج لوحات مفعمة بالحلم وعطر الطفولة..    بروفيسور عبد العزيز عيشان ل"رسالة24″: هناك علاج المناعي يخلص المريض من حساسية الربيع نهائيا    الأمثال العامية بتطوان... (582)    جراحون أميركيون يزرعون للمرة الثانية كلية خنزير لمريض حي    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بعد نشر عمله الإبداعي، يموت المؤلف ويبقى النص

{ وصفت عز الدين المناصرة بالرعوي في شعره، وبررت ذلك بأنه أعاد إحياء نمط شعري أوروبي قديم: (الغجر وتأثره بالشاعر لوركا)، ويؤاخيك معه البعض في الرعوية. بماذا تبرر رعويتك أنت، إن كنت كذلك؟
نعم، كشفت-في أثناء دراستي ومقاربتي لتجربة عز الدين المناصرة الشعرية- عن أبعاد أساسية، ومقومات فنية ودلالية لها علاقة بالشعر الرعوي كما وصلنا منذ الشاعر الإغريقي (تيوكريت)، ومنذ الشاعر الروماني (فرجيل). من دون أن يعني ذلك أن الشاعر الفلسطيني حاكى اليوناني والروماني وغيرهما ما دام أن خيوط هذه الشعرية المنقوعة في بهاء الرعوية تنتسج في أناشيد وأناجيل سومر وبابل، وتمتد مترقرقة في كثير من نصوص العهد القديم لعل في مقدمتها نشيد أناشيد سليمان، ومزامير داوود. كل ما في الأمر أن من قوام الشعر ماء الطفولة.. وخضرة المجالي والمراعي، والأمل في غد مشرق ضاج بالبهجة والسعادة درءا لحاضر جحيمي أليم يقذي العين، ويدمي الروح.
وإذا كان بعض الأصدقاء الشعراء والنقاد يُسَامِتُون بيني وبينه، ويرون في شعري بصمة رعوية، وبعدا غنائيا يتخلل المبنى والمعنى فما ذاك إلا لأنني شاعر حالم كباقي الشعراء: حالم بغد خال من الشرور.. غد تتواثب فيه الطيور والأشجار والظلال والمحبة الغامرة وأطياف قزح.
وترتيبا على ذلك، بالإمكان القول إن كل أدب يتقصد الاحتفاء بقيم الجمال والعدل والحرية، وينتسج بناء لغويا استعاريا باذخا مكرسا لغد مأمول أقل بؤسا، وماضٍِ ذهبي تغذيه نوسطالجيا الفقد والطفولة الرائقة أو المجروحة، أدب يعبر عن الرغبة المشتعلة في السلام والسكينة، ومدح الإنسان بما هو كينونة آدمية راقية، وانوجاد أنطولوجي عليه العِوَلُ في تأثيث الكون بنعمة الحلم، وزخرفة الحياة بالخضرة ونشيد الحب الأبدي، بالإمكان القول إنه أدب رعوي. ومن ثمة، ترى موقفي، من الأشياء والعلائق والعالم، يصطبغ بهذه السمات... سمات الرعوية الحالمة. إنها المعاني التي تشغلني، وتستكن في ما أكتب، والتي تضفي على الكتابة أثر صمت ما، ومن هذا الصمت، تحديدا، يأتي جزء من الجاذبية الآسرة للكتابات الرعوية، ومنها شعر عز الدين المناصرة الذي أثرته في مدخل سؤالك.
{ عادة ما تحكم الطفولة بدايات الشاعر، وتلون قصائده، لكن المتتبع لمسارك الشعري، يكتشف وكأنك ظهرت ناضجا منذ البدايات، وإلا أين سمات بداياتك الأولى؟ وهل ننتظر منك الإفراج عنها يوما إن كانت موجودة؟
كيف يتأتى للمرء القفز على طفولته، والانتصاب واقفا دونما حبو أو استناد إلى حوائط ما وهو ينقل الخطو في إثر الخطو... مفتتنا بالأشياء في طزاجتها، وما تطاله يداه، ودونما الإصابة بالكدمات، والسقطات، والشيطنة، والشقاوة اللذيذة؟
الطفولة معين الكتابة والإبداع، مصدر العطاء الدافق والزاخر والملون، بئر أولى نُرْمِى فيها حتى يلتقطنا أحد السيارة، ويقول: بشراي هذا شقي، يلقي بنفسه إلى التهلكة، ومع ذلك يَصْفِرُ ويدندن ويغني. فما لم ترتجع الكتابة إلى الأصداء البعيدة، والنواقيس المجلجلة، وما لم يغمس المبدع قلمه في محبرة الدهشة، فلا إبداع ولا يحزنون. بهذا المعنى تكون الرعوية صنو الطفولة، وخدن البراءة، والصفاء، واللامبالاة. ولئن كان هذا صحيحا من بعض الوجوه، فإن التحولات المهولة التي غيرت وجه العالم، تقتضي انغراسا كتابيا في الوجود من نوع آخر، لعله أن يكون صدى وتخطيا-في ذات الوقت-لجراح الإنسان، وواقع الخيبات والآلام، من دون التفريط في ترياق الحلم، ونسغ الجمال الذي ينبغي أن يضخ -بكل ما أوتينا من رحابة أفق- في شِرْيَانِ لغتنا، وَوَتِينِ كتاباتنا كموقف من العالم وأشيائه.
وما حسبته نضجا شعريا تمظهر منذ البدايات، فيما أتيت من كتابة، ما هو، في الحقيقة، إلا حاصل عديد المحاولات، وعديد التمرينات، وعديد التشطيبات، وعديد القراءات، وعديد الامتصاصات، وعديد الأرق والليالي البيضاء، و عديد الاعتكافات. أما بداياتي الشعرية فهي عبارة عن حزمة قصائد رومانسية ينتظمها خيط الغزل، ولوعة الشكوى والألم. أكثرها ضاع لكنه محفوظ في الصدر، وذاع- في طور من أطوار الصبا- عبر الإذاعة الوطنية أيام الشاعر الراحل إدريس الجائي.
{ كتاباتك في الشعر لها خصوصيتها، توظيف الأساطير والرموز والأعلام، معجم غني ومفردات غير متداولة بكثرة في النصوص، (لارا) نموذجا)... هل هو البحث عن التفرد في الكتابة؟
كل شاعر يحترم نفسه، لابد أنه باحث عن التفرد، والغناء خارج السرب، وَسَاع إلى ما يميزه من غيره، وما به يسجل حضوره الإبداعي في المشهد الثقافي العام، وما به يبصم جملته الشعرية لكي لا تدل إلا عليه. هو مسعى مشروع ومطلوب، وإلا تشابهت الأصوات، وتماثلت اللغة، وتنمطت النصوص، وَتَمَقْطَعَتِ الأسماء، وسرى الملل عاتيا نابحا في أطواء ما نكتب. فاللغة إرث مشترك، والعالم واحد، والوجود معاش، والأدوات قاسم يتصادى، والنمطية قدر القطيع. من هنا، تبرز ملحاحية التميز، والتفرد، من خلال سؤال المحو والتجديد و التجريب، ومن خلال الصمت الذي يطوي الكلام المكرور والمعاد، وينشر بياض اللغة في مستواها الصفر حتى لكأنها عجينة الشاعر الأولى، وَسَبَيَّتُهُ التي حازها بعد غزو سريع ومفاجئ، لكنه غزو ناعم خطط له طويلا، وهو يقتعد صخرة ملساء على ضفة باردة معشوشبة، وأمامه خيط نمل في جيئة وذهاب ما انفك يسرق انتباهه محاولا جرجرة ذرة إلى حفرته (قريته)، متوجا دأبه بانتصار ماحق هو الأضأل على حبة أضخم. كذلك حال الشاعر مع اللغة، حَالُ عَارٍ لا حول له أمام بحر خضم متلاطم.
{ بحة نعيمة سميح ساهمت في التسريع بشعبيتها، وبحتك في الإلقاء الشعري لفتت العديد من الملاحظين، هل يصح الربط بين الحالتين؟
لا يصح فبحة الفنانة الرائعة نعيمة هي بحة فيها جمال وَغُنَّة، وبعد غنائي ورخامة ومستويات من الترجيع والتبديع، والتقطيع الطبيعي ما يجعلها بحة افتتان وتطريب، أما بحتي فهي بحة مجروح ومعطوب ومشنوق، وحشرجات روح معذبة، وصوت منكسر يعلن المعاناة، ويكشف عمق الألم والحبوطات التي تترى أمامنا ونعيشها كل يوم.
{ قصيدة (عنب الخليل) كرست عز الدين المناصرة شاعرا كبيرا، فهل يمكننا القول أن قصيدة (لارا) لها نفس المفعول في مسارك الشعري؟
ليس فقط قصيدة (يا عنب الخليل) ما كرس عز الدين المناصرة شاعرا متميزا ذا صوت شعري نوعي في مدونة الشعر العربي بعامة، والشعر الفلسطيني بخاصة. هناك قصائد أخرى اكتسحت المشهد الثقافي العام، والسوق الجماهيرية العربية من المحيط إلى الخليج، بفضل تحولها إلى مغناة وأغاني وطنية على لسان الفنان مارسيل خليفة وآخرين. من ذلك قصيدته الشهيرة: (بالأخضر كفناه).
بينما قصيدة: _(لارا)، مع حيازتها على نفس ملحمي وغنائي، وصدق فني، وتجربة روحية تَأَتَّتْ من رحلة بديعة إلى الشام-، لم يكتب لها الذيوع والانتشار، أولا: لأنها حديثة العهد بالكتابة والانكتاب، على رغم مقاربتها نقديا من لدن بعض الأصدقاء النقاد، وما سمعت في حقها من إطراء مبعثه محبة الأصدقاء والقراء، وثانيا لأن حال الفلسطيني ليست هي حال المغربي بحال، وإن جمعهما الهم المشترك، والآلام الواحدة، دون أن نقبر اليتم الفادح والضياع الصاعق اللذين يعيشهما الشعب الفلسطيني، والشاعر أحد أبنائه طبعا.
{ »القصيدة عند محمد بودويك مختبر صغير» كما يقول عن تجربتك الناقد المغربي أحمد الدمناتي، هل مسموح لغير بودويك بالدخول لهذا المختبر؟
حالما تخرج القصيدة، وتصبح طوع اليد والعين في الإعلام المكتوب أو المرئي، أو بين دفتي كتاب، تنشر أسرارها، وتبوح بما لديها، وتكشف عن جوانيتها، وبرانيتها للقارئ والمستقبل، والمهتم. ومن ثَمَّ فلا حاجز بينها وبين متلقيها، حيث ينزوي الكاتب إلى الخلف، وتمسي كتابته ملكا مشاعا، يموت المؤلف ويبقى النص.
{ قال فاروق شوشة إن (لدينا العشرات من نزار قباني، لكن هناك أدونيس واحد) هل هي حقيقة الأمر في نظرك كشاعر؟ هل هو انتقام بشكل ما من شعبية الراحل؟ أم ترديد لكلام سابق قاله أكتافيوث باز في شأن أدونيس؟
ما قاله أوكتافيو باز في شأن أدونيس من حيث هو شاعر كبير واختراقي، ومن حيث كونه مفكرا حداثيا خلاقا، وردده الشاعر المصري فاروق شوشة، بعد أن عقد المقارنة-المعدومة أصلا-بين نزار قباني وأدونيس، لا ينبغي أن يقرأ في سطحيته مثلما يبدو، بل ينبغي أن يقرأ في ظل معنى الجماهيرية و النخبوية، أي بالاحتكام إلى معيار المقروئية، والكثرة والغزاوة. ذلك أن نزار شاعر كبير سهل ومطواع وموطوء لأن القضايا التي تناول في شعره لا تخرج عن قضيتين محوريتين: قضية المرأة، وقضية السياسة العروبية، متوسلا إلى ذلك، لغة بيانية غنائية عذبة، وبسيطة، رددتها وترددها فئات واسعة من الصبايا والصبيان العرب. فيما أدونيس واحدي لأنه اجترح لنفسه ملكوتا شعريا مخصوصا، متوسلا إليه لغة باطنية عقلية فلسفية غنائية في بعض مفاصلها ومفرداتها، ما حرن معناه على الكثيرين، واستعصى القبض عليه من لدن جمهور واسع من القراء والمتلقين، إذ أن رهان أدونيس الكتابي، هو رهان وجودي وحضاري، يستحضر معضلة التأخر والتخلف العربيين عن الركب الإنساني بسبب من عوامل تاريخية واجتماعية ونفسية ودينية، بينما يكتفي نزار قباني بشحذ قلمه وشعره واضحا فصيحا دالا، وهو يحاكم الأنظمة العربية في الزمان والمكان.
{ حينما سأل مالك الرفاعي أدونيس إن كان يتقن الفرنسية أجاب: «الفرنسية... نعم والعربية قليلا». إن كان الأمر كذلك، ماذا تقول أنت في شاعر كبير يكتب بالعربية، وكان يسعى دوما للفوز بجائزة نوبل نيابة عن العرب؟
ينبغي أن نفهم من كلام أدونيس، ما يختفي ضمنا لا ما يفهم وينطق، إذ أن الأمر يؤول إلى يأس مبطن من العرب والعروبة الآسنة راهنا، المسؤولة-بهذا القدر أو ذاك، على اسوداد الحال، وطغيان الفكر المتحجر، وانغلاق الأفق، وضمور الرؤية والرؤيا، ما يهدد اللغة العربية بالذبول والموت في المدى المنظور. وإلا فإن الشاعر أدونيس لغوي لا يُجارى، وعالم اسرار بالقصيد لا يبارى.
{ أغلب الباحثين استكانوا في بحوثهم إلى أسماء شهيرة ومتداولة (أدونيس، درويش، حجازي، دنقل، البياتي...)، فيما بحثت أنت عن شاعر لم يكن اسمه متداولا كثيرا، هل هي مغامرة، هل هو إنصاف للرجل؟ أم هي استمرارية البحث عن التفرد؟
هناك أسماء بأعيناها يتداولها التلقي العام، ويكرسها الإعلام العربي إنصافا أو تلميعا فقط، فيما تم التعتيم على قامات شعرية لا تقل إشعاعا وإضافة، ونوعية عن أولئك الذين يتسيدون المشهد الثقافي العام. أذكر منهم تمثيلا: حسب الشيخ جعفر (وبالمناسبة أحيي صديقي الباحث والناقد بنعيسى بوحمالة على التفاتته الأكاديمية الرصينة لهذا الشاعر إحقاقا للشعر والفذاذة)، ومحمد عفيفي مطر، ومحمد عمران، وبلند الحيدري، ومحمود البريكان، ومحمد علي شمس الدين، وعباس بيضون، وقاسم حداد، وسيف الرحبي، ومحمد السرغيني، ومحمد بنيس، ومحمد الأشعري، وغيرهم كثير، وعز الدين المناصرة الذي يكاد يجهله القارئ العربي، وهو من هو في الشعرية العربية والفلسطينية بالتلازم، إذ أنه- وكما أوصلني إلى ذلك نَبْشي وحفري الأكاديمي-لا يقل جدارة شعرية وشاعرية عن الراحل الكبير محمود درويش ولا عن الشاعر الفلسطيني سميح القاسم.
فقلة الاهتمام هذه، مقارنة مع الاهتمام بأشعار مجايليه وأنداده، وبخاصة محمود درويش، وسميح القاسم-كما أشرت-كانت دافعا رئيسا لطرح سؤال الإهمال، والبحث عن سبب هذه الإشاحة حتى لا نقول الإقصاء المقصود، والتغييب المنهجي، مما قادني، وأنا في غمرة قراءة متنه الشعري المتوقد والزاخر، إلى التفكير الجدي في إعادة الاعتبار له، بإحلاله المحل الجدير به، وتتبيه النقد الموضوعي إلى الاهتمام بهذا الشعر من خلال الانكباب عليه قراءة، وتمحيصا، ومساءلة، ومقارنة. وهو ما أكد لنا جدارة المتن الشعري الناصري، وخصوصيته، وفرادته، وشموخه.
فما أظن-بعد هذا الذي قلت-إنني أبحث عن التفرد النقدي الأكاديمي عندما تقودني معاشرتي القرائية الخاصة إلى النبش عن أسماء لامعة منسية أمنحها الحق في الظهور والبروز إحقاقا لمزية الشعر، وتكريسا لثقافة المحبة والاعتراف.
{ كان الشاعر منذ القدم وإلى اليوم لسان حال قومه، ما هي القصيدة التي كتبتها، وتعتبرها أنت لسان حال قومك؟
الزمان غير الزمان، والنسق الثقافي والحضاري العام غير النسق القديم، والمحيط الإنساني أوسع وأرحب وأعقد وأشرس مما كان. ومع ذلك، لنزعم بأن لسان الذات هو لسان حال قومي، وجغرافيتي التي أنتسب إليها أرضا وتاريخا وسلالة وحضارة ومثبطات. وإذا كان الشاعر أو المبدع، بصفة عامة، يسعى إلى التعبير عن لواعج الذات. وحرائق المرحلة، فلأنه يَتَشَوَّفُ إلى الجميل غدا، والعادل والبهيج. وأحسب أن رسالة الشعر اليوم-لا تكمن في الصراخ، والتأشير التقريري على الظلم، واستباحة الكرامة الإنسانية، والمروءة، وسرقة الحق في العيش الكريم، والمصادرة على العمل والخبر، فتلك رسالة الجمعيات الحقوقية، والأحزاب السياسية، والنقابات الاجتماعية، بقدر ما تكمن في استدراج الجمال إلى النص، مطلق جمال، ومحاربة الشر بأناقة اللغة، وشفوفها، ومدى قدرتها على الإلذاذ والإدهاش. هذا هو التحدي الآن، وهو تَحَدٍ عبر عنه الشاعر محمود درويش بطريقته حين أطلق:»سرير الغريبة، و» كزهر اللوز أو أبعد»، و»أثر الفراشة». كما يعبر عنه كثير من الشعراء العرب: منصف البرغوثي-محمد زكريا-وخصوصا وليد خازندار الشاعر الفلسطيني.
بهذا المعنى-إذا، أنا لسان حال وطني المغرب.
{ هل تعتقد أن القصيدة لا زال لها نفس التوهج، ولا زالت قادرة على تحريك الشارع العربي، وباستطاعتها تغيير مجريات الأحداث كما كانت من قبل؟
هذا السؤال يحيل على السؤال السابق، ويشتبك به، لأن الحال غير الحال عروبيا، وإقليميا، وكونيا: فحركات التحرير الإفريقية والأسيوية، والفكر الماركسي الليني، والفكر الكرامشي، والماوي، والهوشيميني، والغيفاري، وفكر هربرت ماركيوز، وفرانز فانون، و أنور عبد المالك والمهدي بنبركة، وعزيز بلال وإبراهام السرفاتي وسارتر ونلسون مانديلا وبوب ديلان ومريام ماكيبا وأنجيلا ديفيس ومظفر النواب، وجون بيز، واللعبي، والشعر الفلسطيني المباشر والتقريري-بدايات درويش، القاسم، أغاني الشيخ إمام، عدمية كولن ولسون.. إلخ..إلخ، كل ذلك أصبح في ذمة الماضي أبقى ما يكون للتوثيق، والتذكر، و النوسطالجيا، وزمن الفردوس، والأحلام الكبرى التي سقطت بكل الرنين والغبار كورود البلاستيك الشائهة، أو كجرة الراعي في الحكاية المعلومة. فكيف نطلب من القصيدة، بعد كل التحولات المعرفية، والإبدالات الجمالية والإيقاعية واللغوية التي طالتها، أن ترج المشهد الموات، وتحرك شارعا فقد كل صلة له بالتوثب والحلم والتغيير.
{ يلاحظ أن شعرك مخملي وناعم، حتى في المواضيع الساخنة والمحرضة، ألا ترى ضرورة زيادة جرعات من الغضب فيما سيأتي من قصائدك؟
أحترم رأيك في شعري هذا الذي وصفته بالمخملية والنعومة حتى وهو يطرق الأبواب الموصدة التي تدمي الكفين،ويخوض في المواضيع الساخنة التي تستوجب التنمر واليقظة، واستنفار الحواس اللغوية. والأمر-في البدء والختام-متروك، يا صديقي-للقراء والمتلقين والنقاد. ومع ذلك بإمكاني القول إن الحالات الشعرية المختلفة تملي على الشاعر لونها، وطبيعة المعالجة، والمناولة، والتصييغ.
{ أصبح الشعر في المغرب وفي أكثر من حالة، ممرا إلى مناصب إدارية، ألا ترى معي أن هذه المناصب أطاحت بقامات شعرية إبداعيا؟
لم أفهم السؤال كفاية، وإذا كنت فهمته، فإنك تغمز من قناة الشاعر محمد الأشعري، إذ، في علمي-هو الشاعر الوحيد الذي صار وزيرا، دعك من الشعراء الأصدقاء الذين يعملون هنا أو هناك في هذه الإدارة أو تلك: مديرين، أو رؤساء أقسام أو مصالح. لأنني لا أفهم كيف أن المناصب الإدارية أطاحت بقاماتهم، وأردتهم صرعى كأعجاز نَخْلٍ خاوية! وهم حاضرون في المشهد الشعري كتابة، وقراءة وألقا وتطورا حتى. أما عن محمد الأشعري، فإن الوزارة لم تطح بقامته الشعرية أبدا، بل ازداد توهجا من خلال ما أصدره من مجاميع شعرية نوعية وذات قيمة مضافة إبان استوزاره، فضلا عن متابعته السؤال الثقافي بالبلورة والتطبيق من متاحف أو مهرجانات فنية وثقافية أو طباعة كتب أولى، أو أعمال كاملة..إلخ.
{ الإنسان العادي يعيش عالما يراه، والشاعر في كثير من الحالات يبدع عالما لا يراه، كيف توفق بين الشاعر الساكن في أعماقك والإنسان الذي يعيش بين الناس؟
الشاعر إنسان في البدء والمنتهى. هو إنسان واحد لا مزدوج، سواء في عيشه وملازمته لأوراقه وكراريسه وكتاباته، أو في عيشه مع الناس وبينهم، ناسجا علاقات اجتماعية مع الأفراد، وحاضرا في كل ما يمت بصلة إلى التدبير اليومي للبلاد سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا، وثقافيا. لا مكان للبرج العاجي الآن، في غمرة العولمة وتطبيقاتها على مستوى المعيش الاستهلاكي، ومستوى طغيان الإعلام، وتكنولوجية الصورة، والإنترنت كمصادر إضافية، مزاحمة، ومهددة للكتاب الورقي، ومفتتة للزعامة الفكرية، وصولجان الحكمة والصولة. ومن ثمة، لا مندوحة للشاعر، وهو الإنسان، أن يعايش كل هذا الضجيج، وينخرط في أتونه عله يهتدي-في حمأة ما يجري-إلى ذلك النشيد السري العميق الذي بُمْكَنَتِهِ رَجَّ هذا الوجوم البومي الذي يَرِينُ على الدنيا.
{ أدونيس وصبري يوسف بكل ثقلهما الأدبي والشعري في عالم القصيدة، ينشران إلكترونيا، لماذا يتعالى الكثير من (كبار) المبدعين المغاربة في نظرك عن مواكبة النشر الإلكتروني؟ هل هو الخوف من الملاحقة النقدية المباشرة مثلا؟
أدونيس ليس مقياسا طالما أنه شاعر ومفكر كبير لا يتنازع اثنان على مكانته. فهو منشور، ومنتشر في الأحياز الورقية مثلما هو منتشر في الأحياز الرقمية. وقس على ذلك شعراء وكتابا ومفكرين عربا وغير عرب آخرين. فالنشر الإلكتروني يتشرف ويزدهي ببعض القامات الأدبية والعلمية و الفلسفية، و المبدعون المغاربة ليسوا بدعا بين أندادهم هؤلاء وأولئك. وليست متفقا معك فيما يخص تعاليهم وغطرستهم من حيث ابتعادهم عن النشر الإلكتروني. بل إن أسماءهم تغشى عشرات المواقع الإلكترونية من خلال كتاباتهم الشعرية، والقصصية، ومقالاتهم النقدية، وآرائهم الفكرية والفلسفية. بيد أن بعضهم لا يجرؤ على نشر متاعه الإبداعي إلكترونيا أو رقميا خوفا من السطو الذي أصبح مباحا، لا خشية من الملاحقة النقدية المباشرة كما تفضلت. بل إنني أصارحك القول: إن أكثر ما ينشر إلكترونيا لا يمت بصلة إلى الأدب البتة، بل هو هذيان لغوي، وهلوسات سوريالية، وخواطر مهيضة الأجنحة في أحسن الأحوال؛ وهذه آفة الحرية التي بلا ضفاف، والديمقراطية التي بلا رقيب، والتي يمنحها الإنترنت بكرم حاتمي، وسخاء فياض.
نعم، أنا مع الحرية، ومع الانفتاح، ومباشرة الكتابة أيا كان لبوسها، ولكنني-في الآن عينه-مع المسؤولية التي يجب أن تصاحب هذه الحرية، ولو بجرعات محسوبة من المسؤولية، لأن من شأن ذلك أن يسمو بالكتابة، ويعلي من درجة الحرص على إتيانها بكامل النقاء والأناقة.
***
تنبيه : جرى هذا الحوار قبل هبوب ثورة الربيع العربية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.