لم يجد من يستمع إليه، لأن الجميع كانوا مشغولين، فأخرج من نفسه ذلك الشخص الآخر، الموجود في كرسي الاحتياط، وأخذ يحدثه كما يحدث نفسه.. فكنت أسمع الحديث، كما أسمع دقات قلبي كان يقول له: لا يمكن الحديث عن النجاحات إن كان هناك حبل طويل يُلَفّ على أعناقنا ويهدد من يقبض على رأسه أن أرواحنا بيده وسيجره في الوقت الذي يريد. النجاحات، طبعا، ليست لحظة بل هي صيرورة تسافر في قلب الزمن وتؤسس لنفسها تفرُّدها وتهزم الموت أيضا، هذه هي النجاحات. أما أن تكون قد صُنعت بالتحايل فهي مثل فقاعات صابون، وحبل الكذب القصير. في زمن السرعة، كل شيء لم يعد له طعم، وكل شيء أصبح له صفة السندويش. كل شيء غدا «جوتابل». في زمن السرعة هذا، لم تعد للإنسان ذاكرة ولم يعد له قلب. في هذا الواقع، لم يعد للناس وقت للتفكير ولا للتأمل، فأسرعوا الخطو نحو ما له معنى وما ليس له معنى. حينما تسأل لماذا لا تقرأ يا فلان، يقول لك: «وأين الوقت حتى لحك رأسي؟».. وحينما تسأله «لماذا لا تكتب؟»، يجيبك: «لم يعد لي وقت لا للكتابة ولا حتى للحياة نفسها». وحينما تسأله: «لماذا تطرد الحب من قلبك يا فلان؟».. يصمت ويجري، ملوحا لك أنه سيجيبك في الأيام القادمة، فالقطار لن ينتظره». وحينما يذهب هذا «الفلان» عند الطبيب، يجده، هو الآخر، جالسا على الجمر ولا يجيبه سوى بكلمة أو كلمتين: «قلبك لم يعد يحتمل»، انتبه إلى نفسك. ويكتب له الطبيب الوصفة بكل السرعة ويغلق الباب. لقد داخ العالم. إلى أين يسير الناس؟ ماذا يطاردون؟ متى سيصلون؟ هم لن يصلوا، فالسراب لا يمكن أن نقبض عليه ونضعه في جيوبنا، كما نضع الأوراق المالية، ولذلك سنبقى نجرى إلى أن يجر ذلك المجهول الحبل فينتهي الوهم. لقد تغيرت الصورة. وجد الناس أنفسهم في واقع لم يعودوا يعرفونه. ولكونهم لا يملكون، أحرقوا كتب الفلسفة وباعوا كتب الشعر والروايات.. فقد وجدوا أنفسهم في مستشفى واسع العالم، أطباؤه مجانين، لا وقت عندهم حتى لقياس ضغطهم.. إنها، فعلا، دوخة عالمية.