مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال24 ساعة الماضية    البكوري: مهرجان تطوان أصبح علامة فنية دولية وسنظل داعمين للفعل الثقافي رغم الإكراهات المادية    فرنسا باغة تستغل الدفء لي رجع شوية للعلاقات بين باريس والرباط باش تدي صفقة مشروع مد الخط السككي فائق السرعة لي غيربط القنيطرة بمراكش    حصيلة ضحايا القصف الإسرائيلي على عزة ترتفع إلى 34454 شهيدا    توقيف مرشحة الرئاسة الأمريكية بسبب فلسطين    الدورة 27 من البطولة الاحترافية الأولى :الحسنية تشعل الصراع على اللقب والجيش الملكي يحتج على التحكيم    نهضة بركان يضع آخر اللمسات قبل مواجهة اتحاد العاصمة الجزائري    نصف ماراطون جاكرتا للإناث.. المغرب يسيطر على منصة التتويج    بلوكاج اللجنة التنفيذية مقلق نزار بركة.. غياب المثقفين وضعف التكنوقراط و"صحاب الشكارة" حاكمين لازون ديال حزب الاستقلال    شتا وثلوج مرتقبة طيح غدا فعدد من مناطق المملكة    نقابة مخاريق تطالب أخنوش بالطي النهائي لملف الأساتذة الموقوفين    انطلاق فعاليات مهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط    مطالب بإحداث خط جوي دائم بين مطار العروي وفرانكفورت    قادمة من بروكسيل.. إفشال محاولة لإدخال هواتف غير مصرح بها    "خائف ومتوتر".. نتنياهو يخشى احتمال صدور مذكرة اعتقال بحقه من الجنائية الدولية    الجيش الجزائري يستبيح مجدداً دماء الصحراويين المحتجزين بتندوف    التاريخ الجهوي وأسئلة المنهج    هل يهدد حراك الجامعات الأمريكية علاقات إسرائيل مع واشنطن في المستقبل؟    انتخاب نزار بركة بالإجماع أمينا عاما لحزب علال الفاسي    البطولة الوطنية الاحترافية.. ترتيب الأندية    طنجة "واحة حرية" جذبت كبار موسيقيي الجاز    نهضة بركان يستعد لمواجهة ضيفه الجزائري وهؤلاء أبرز الغائبين    رغم ارتفاع الأسعار .. منتوجات شجرة أركان تجذب زاور المعرض الدولي للفلاحة    شبح حظر "تيك توك" في أمريكا يطارد صناع المحتوى وملايين الشركات الصغرى    الفكُّوس وبوستحمّي وأزيزا .. تمور المغرب تحظى بالإقبال في معرض الفلاحة    تتويج الفائزين بالجائزة الوطنية لفن الخطابة    المعرض الدولي للفلاحة 2024.. توزيع الجوائز على المربين الفائزين في مسابقات اختيار أفضل روؤس الماشية    خبراء "ديكريبطاج" يناقشون التضخم والحوار الاجتماعي ومشكل المحروقات مع الوزير بايتاس    ميسي كيحطم الرقم القياسي ديال الدوري الأميركي بعد سحق نيو إنغلاند برباعية    نظام المطعمة بالمدارس العمومية، أية آفاق للدعم الاجتماعي بمنظومة التربية؟ -الجزء الأول-    مور انتخابو.. بركة: المسؤولية دبا هي نغيرو أسلوب العمل وحزبنا يتسع للجميع ومخصناش الحسابات الضيقة    الحبس النافذ للمعتدين على "فتيات القرآن" بشيشاوة    تعيين حكم مثير للجدل لقيادة مباراة نهضة بركان واتحاد العاصمة الجزائري    المغرب يشارك في الاجتماع الخاص للمنتدى الاقتصادي العالمي بالرياض    محمد صلاح عن أزمته مع كلوب: إذا تحدثت سوف تشتعل النيران!    الحرب في غزة محور مناقشات قمة اقتصادية عالمية في المملكة السعودية    هيئة كبار العلماء السعودية: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    توقيف سارق ظهر في شريط فيديو يعتدي على شخص بالسلاح الأبيض في طنجة    صديقي: المملكة قطعت أشواط كبيرة في تعبئة موارد السدود والتحكم في تقنيات السقي    بمشاركة خطيب الأقصى.. باحثون يناقشون تحولات القضية الفلسطينية    ما هو صوت "الزنّانة" الذي لا يُفارق سماء غزة، وما علاقته بالحرب النفسية؟    مهرجان إثران للمسرح يعلن عن برنامج الدورة الثالثة    سيارة ترمي شخصا "منحورا" بباب مستشفى محمد الخامس بطنجة    بدء أشغال المجلس الوطني لحزب "الميزان"    رسميا.. نزار بركة أمينا عاما لحزب الاستقلال لولاية ثانية    خبراء وباحثون يسلطون الضوء على المنهج النبوي في حل النزاعات في تكوين علمي بالرباط    قيادة الاستقلال تتوافق على لائحة الأسماء المرشحة لعضوية اللجنة التنفيذية    ابتدائية تنغير تصدر أحكاما بالحبس النافذ ضد 5 أشخاص تورطوا في الهجرة السرية    السعودية: لا يجوز الحج في هذه الحالة.. ويأثم فاعله!    انطلاقة مهرجان سينما المتوسط بتطوان    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (8)    الأمثال العامية بتطوان... (584)    انتخابات الرئاسة الأمريكية تؤجل قرار حظر "سجائر المنثول"    اكتشف أضرار الإفراط في تناول البطيخ    كورونا يظهر مجدداً في جهة الشرق.. هذا عدد الاصابات لهذا الأسبوع    الأمثال العامية بتطوان... (583)    دراسة: التمارين منخفضة إلى متوسطة الشدة تحارب الاكتئاب    بروفيسور عبد العزيز عيشان ل"رسالة24″: هناك علاج المناعي يخلص المريض من حساسية الربيع نهائيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أيّام شامية(1)
نشر في هسبريس يوم 28 - 06 - 2011

وقائع من دمشق المحروسة في ضوء الأحداث الرّاهنة
نأتي إلى الشّام عذارى وحيارى خلوا من أي حنين. لكن ما أن يغمرنا دفئ المكان ونشارك أهلها خبزا وملحا وفتّوشا و تبّولة ومسبّحة ومتبل وشقف وصفايح بزعتر ولبن وبوظة وماء بردى و فيجة حتى يستحكم الوصال. وبعدها عبثا نروم الفراق . فالشّام تسكن بين الضلوع وتمتلك قلبك وتختصر كل حنين. ذات مرّة بعد سير ونصب على طول ممشى مدحت باشا وتحت إلحاح حنين دافق، كتبت:
ينام الليل ولا أنام
في زقاق الذكرى
تورمت قدماي
يشربني الحنين
هو لمن لم يعرف قصدي، حنين الشّام! كل حتّة ومطرح هناك، يشدّك إلى سحر الشام. وكلّ حدث شامي لا يمكن أن يقرأ بعيدا عن هذه الأحاسيس. فكيف تقرأ الأحداث اليوم بعيدا عن لعبة السّياسة ومكرها المجرّد. ما أقبح التحليل السّياسي حينما يسفر عن خطل في الرؤية وسطحية في المعنى وتخشّب في الأحاسيس. تساءل بعضهم فضولا : لم هذا الصمت حيال ما يجري في الشّام، وكيف بك تحدّثنا عن ربيع الثورات العربية ثم يقف حمار الشيخ في عقبة الشّام؟! ومثل هذا الفضول يستقر على أساس موضوعي خادع، سؤال موضوعي يراد منه اللّجاج. من يفهم حديثي من أولئك الذّين لم يترشّفوا من عذقها ما يسكن النفوس الرّضية؟! ولو كان اللّجاج ينفع في مثل هذه المقامات، لسألنا أولئك المتحرّقين من المدلّسين عن ما يختزنه ذلك الضّمير من عنف يأكل الإنسان والأرض والعشب في المنامة، وأين صحوة الضمير من الإبادة في مدن النّفط المحروسة؟! بالتّأكيد مات حمار الشيخ في العقبة! العارفون بسرائر الشّام ذهلوا من خداع الصّورة. وكنّا أمام الأحداث الجارية اليوم في دبيب يستهدف الجيوب الدنيا فيما يفشل في النيل من المركز، ننادي: أي شام يا ترى تلك التي يراد لها أن تولد من رحم المجهول؟ ينبئني حدسي السياسي بأنّ دمشق ستخرج شامخة من هذه المحنة. لكنّني أزيد، بأنّ هذا الحدث كان سيكون حتما في صالح التغيير في سوريا. والتغيير في سوريا ليس حكاية للتسلية بل هو منعطف تاريخي حاسم يدفع سوريا بمكره العميق دفعا لكي تجد لونها المميّز في مستقبل عربي آخذ في التّحول. ولعله من المفارقة أن ما يجري اليوم يشكّل خطرا محدقا بكل الدّول التي فضّلت الانخراط في إذكاء الفتنة والدخول على خط الحراك الاجتماعي الذي هو قدر الدّول جميعا.
صورة للكاتب وحوله مجموعة من التلاميذ من أهل الشّام قرب مرقد صلاح الدّين، قبل أزيد من 15 سنة
ستفيق سوريا غدا على صباح مختلف وهي تملك إمكانات هائلة على الخوض في منطق التغيير الاجتماعي والسياسي بالنّفس ذاته الذي اصطنعت به تميّزها الممانع كآخر قلاع العرب في سياسة المواجهة. بينما ستجد تلك الدّول نفسها أمام استحقاقات البداية وغياب أي قدرة على السباحة في مستقبل عربي متغيّر. للتّاريخ مكره الخاص وليس للدّول سوى مسارات ضيّقة للغلب في انتظار المجهول. أدت سوريا دورها القومي وبقي في ذمّتها دين نضال على جبهة الإصلاحات. وربّ ضارة نافعة. إنّ التغيير يتطلّب فرصة تاريخية . وقد اتفق أن سوريا أحسنت الإنصات للحراك الشعبي المنطقي حينما كان حراكا للمطالب المشروعة لا فرصة تاريخية للعبة الدول والأقاليم والوعد بشراء الثّورة. واليوم أدركوا أن سوريا لا تمانع في إطلاق المبادرات فخافوا من أن تجتمع لديها إمكانية النهوض بالمجتمعي نهوضها التّاريخي بالقضية القومية. حينما كنّا قبل أيّام في لقاء ببيروت نناقش الأوضاع الجديدة في العالم العربي، تخالفت النظرات وتنوعت الآراء. لكني وجدت نفسي على اتفاق غير مدبّر مع الصّديق والمفكر العراقي حسين شعبان في تشخيص الأزمة ومقاربة الحلّ. وبينما تحدّثت عن ضرورة إرساء توازن حقيقي في أي مشروع سياسي بين جدل التحرر الوطني والتحرر الاجتماعي، تحدث شعبان عن أنّنا في حاجة لأن نطير بجناحين، أي الفعل التحرري والإصلاح الدّاخلي. وكان هذا هو اعتقادي أيضا. فالذين يكذبون على سوريا سيقولون لها : يكفيك أن تطيري بجناح واحد. بينما هذه فرصة سوريا لإطلاق جناحها الثّاني في جوّ رمادي حاشد بالمؤامرة . ما يجب أن يقال لسوريا ، هو أنّ سقف الإصلاحات يجب أن ينطلق بشجاعة وقوّة ومنعة. وثمة طريق ينتظر سوريا أن يقوم بشار الأسد وهو يملك الشجاعة والكفاءة لإعلان بريسترويكا داخل المنظومة السورية برمّتها. برسترويكا في مجال الثقافة السياسية والأمنية والتنموية. كان هذا أمل تحدّثنا عنه قبل خطاب بشار الأخير، وكذلك لمسنا أنّ سقف التغيير الذي وعد به الشّارع السوري والضمانات التي قدّمت من أعلى سلطة في البلاد والرغبة في تحقيق هذا التحول بسوريا ، بمثابة خريطة طريق لسوريا الجديدة ، دون كوارث غير محمودة العواقب ولا رضّات سياسية لن تقوم منها سوريا ما بقي الدّهر. كل الذين تعرّفوا على بشار الأسد عن قرب أدركوا منه هذه الدينامية المميزة للمبادرات والإصلاح . ثمة ما يؤكد على أن بشار يملك إرادة سياسية للتغيير ونظرة ثاقبة للتحول بسوريا إلى فضاء جديد. وهذا مرهون بأن يلتف الشعب أكثر حول القيادة، وأن تحلّ ثقافة سياسية أخرى في سوريا، لأن المسألة في غاية التعقيد. حاول بشار الأسد من خلال الخطاب الأخير أن يرتقي بمطلب التغيير إلى منتهاه. ووجب أن تأخذ هذه الوعود بجدّية لأنها تجاوزت ما يمكن أن نسمّيه تحوّل في بنية النظام السياسي. فالحديث هذه المرّة تعلّق بإصدار قانون للأحزاب. على أن هذا القانون كما هو شأن الدستور نفسه متروك للحوار الوطني الذي لم يضع فيتو ضدّ سائر الأطياف الفاعلين في المشهد السياسي معارضة وموالاة. لا شيء بات ممنوحا هنا ، بل الحوار الوطني هو من يقرر التغييرات. وبالنسبة للدستور فهو نفسه سيشهد تغييرا جزئيا أو كلّيا. الارتقاء بالمواطنة إلى مستوى الشراكة. بتعبير واضح ، إن ما وعد به بشار هو تحوّل بنيوي بالنظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي نحو مستقبل تنصهر فيه الدّيمقراطية المبنية على أصولها المحلّية وليست الممنوحة بقوّة الغزو أو الديمقراطية الوظيفية التي تعني إفشال الدولة فيما يخصّ مناعتها واستقلالها ، بل ديمقراطية ترفد الممانعة بمزيد من القوّة والاستمرارية. الذين عارضوا كل هذه الوعود من خلال فعل التكذيب، واقعون في جملة من الهواجس حتّى لا أقول الأخطاء. فمن جهة هم لا يحسنون سوى أن يستدلّوا على عدم حقيقة هذه الوعود بعدم جدّيتها. فهي إذن حكاية النوايا وسوء الثّقة. قسم من هؤلاء لا يدركون أن حزمة التغييرات التي مسّت بنية النظام نفسه لم تشهدها سوريا في كلّ تاريخها. علما أنّ الضّامن هو القيادة نفسها. وحينما يصبح الحديث ضد احتمالات ونوايا ، أمكن التساؤل حينئذ عن أي ضمانات ويقين ديمقراطي ستأتي به عملية جرّ البلاد إلى حرب أهلية؟! اليوم ليس ثمة من شيء مضمون في سوريا غير الوعود التي طرحت في خطاب بشار الأخير. وما دونها مغامرة غير محسومة النّتائج. والغريب أن القوى التي تحرض اليوم ضد سوريا وتدعوا إلى القبول الضّمني بتدخل أجنبي هي التي لا زالت تحتفظ بموقفها الرّافض للتدخل في العراق وعدم اعترافها بالديمقراطية في العراق. تستطيع من خلال معرفة خصوم سوريا اليوم أن تدرك أنّ المطلوب رأسه اليوم هو النّجاح الاستراتيجي للممانعة السورية وليس النظام كنظام بحثا عن ديمقراطية يجهل أصولها مموّلوا الأنشطة القذرة ضد سوريا اليوم. ما تمنيته جاء في خطاب الرئيس بشار الأخير. إنه خطاب فوق كل أشكال الدّيماغوجية. وهو يحمل حلولا واقعية لا وعودا حالمة. لكل مشروع إطار زمني وآلية للعمل. لم يطنب في الحديث عن المؤامرات الخارجية ولكنه بلّغ أولئك المتأستذين الأقليميين أن سوريا ستعطي دروسا لا أن تتلقّى دروسا من جيران خاب الظّن فيهم بعد أن وظّفت الأزمة السورية في سياق إعادة ترتيب العلاقات الاستراتيجية بين أنقرة وتل أبيب. هل اعترف الأتراك بمجازر الأرمن حتّى اليوم.. وهل يستعملون الرّصاص المطاطي مع ال(ب ك ك)؟! نحن طيبون ونحسن الظّن بالجار والصّديق ؛ أحيانا تبدو الطيبة والغفلة أفضل من الغدر والتواطؤ. أو لعلّه الزّمان الدّوار. لقد عادت أمريكا لتسلّم ثورات الربيع العربي للإخوان المسلمين بشروط توريطية. وتنظر إلى دور أنقرة في قيادة الاعورار السياسي العربي ضدّا على مكتسبات النّضال والممانعة والمقاومة التي قدّمت لها أنقرة الكثير من اللحظات المسرحية ، بينما الأيادي تلعب بالورق من تحت الطّاولة. عليهم اليوم أن يعيدوا التوازن الذي فشلت فيه إسرائيل. وحتما إنّ التغيير في سوريا في ضوء ما طرح من آفاق على مستوى النهوض بالإصلاحات السياسية والاقتصادية والتعديل الدستوري وقانون الأحزاب وما شابه ، سيجعل أولئك المتأستذين في الزّاوية الحرجة. ليس للعدالة والتنمية فضل في التّطور الديمقراطي في تركيا؛ هذا مكسب صراع طويل لا يزال يحرسه جنرالات عسكريون. تدرك تركيا أنّ أي ضغط على سوريا ستدفع ثمنه غاليا. تستطيع هذه الأخيرة أن تلعب بأوراقها مباشرة مع الغرب وتحرم أنقرة من لعب دور الوسيط في المفاوضات غير المباشرة. ومع ذلك ، فإنّ أي تجاوز للحدود سيجلب على تركيا الكراهية العربية. واليوم آن الأوان لكي تطلب القوى التّحررية من السيد أوردوغان مواقف جريئة ضد إسرائيل تمسّ سياساتها العميقة، وفضّ كل أشكال التعاون العسكري والاقتصادي مع تل أبيب. في سياق التطورات الجديدة التي تشهدها المنطقة لم يعد أمام أنقرة مزيد من الوقت للاكتفاء بلعبة تجييش المشاعر العربية. فالذي نخشاه ، هو أن يحاول السيد أوردوغان أن يزايد على الممانعة في موضوع فلسطين؛ ليته فعل وتأستذ. لقد وجدت الواقعية والشجاعة وإرادة التغيير وما كنت أسميه بضرورة قيام بريسترويكا سورية بقيادة بشار الأسد، في خطابه الأخير خارطة طريق. بعض المعلّقين أرادوا أن يقنعونا بأنّ كل هذه الرزمة من الوعد بالتغيير الذي ينتظر سوريا هو تخريف. ولكن كيف يقنعونا بأنّ انهيار النظام في سوريا هو عين الصّواب؟!
صورة للكاتب يتوسّط الكاتب الفلسطيني علي سرحان والكاتب السوري فايز سارة بدمشق قبل عشر سنوات
ولا جرم أن في الشّام توجد معارضة وطنية ، لرجالاتها مطالب منطقية مشروعة. وهم لا يريدون بيع البلاد للأجنبي ولا عرضه على المزاد العلني للعبة الأمم. وهم أصحاب آراء وفكر سطّروه وكانوا واضحين في مطالبهم لم ينافقوا نظامهم بل صارحوه ولم يتملّقوه. وفي اعتقادي أن سوريا في حاجة إلى هذا الضرب من الوطنيين الذين لا يخادعونها ولا يكذبون في التعبير عن آرائهم. وإن كان بعضهم أضعفته المناخات التي تصنع في الخارج صناعة ، فإنّ بعضهم فضّل العمل داخل البلاد. وعلى هؤلاء وهم من أكثر العارفين بلعبة السياسات أن يسحبوا البساط من تحت الدّخلاء على المطالب الاجتماعية المشروعة وأن لا يسمحوا لبعض دعاة الإمارات الإسلامية والمخرّبين أن يقتحموا عقبة الحركة المطلبية. إن وجود معارضة تعمل في الدّاخل على شروط العمل السياسي أمر مهمّ به يتجدّد الاجتماع السياسي وتتطور العملية السياسية. وليس أمام هؤلاء المعارضين الوطنيين إلاّ أن يساهموا في العبور بالبلاد من نفق التحرش الاستراتيجي بممانعتها في أفق إطلاق إصلاحات واسعة وفي إطار حوار وطني بات موضع إجماع النظام والمعارضة، إذ لا طريق أنجع في كل بلاد الدّنيا من إطلاق هذا الحوار وجعل المستقبل مرهونا بنتائجه لا بنتائج العمل على إفشال الدّولة. إنّ أي حوار وطني لا بد أن يستحضر مكتسبات الدّولة السّورية ومكانتها في معادلة الصّراع في الشّرق الأوسط. المستخفذون بهذه المكتسبات هم مستخفّون بمناعة الدولة واستقلالها وكرامة شعبها؛ وهي مكتسبات لا تعوّضها سائر المطالب الاجتماعية الأخرى.
من داخل الشّام المحروسة.
قبل أسابيع قليلة فقط ، لا ، أحد ممن صادفت في بيروت من مختلف الحساسيات والمشارب كان يتمنّى انهيارا لسوريا. متحمّس آخر هو الصديق رفعت أحمد السيد من مصر يحمل هو الآخر الكثير من هذا الحنين الدمشقي، يميّز بين ثورة صحيحة وأخرى مفتعلة، حتى أنه بات غير مطمئن لمصير الثورة المصرية. وفي نظره أن ما يقدّم لمصر من رشاوى وديون إن هو إلا من باب : أن الأنظمة إذا ما أقرضوا ثورة أفسدوها. يكفي خصوصية الحدث السوري اليوم أنّ الإعلام الإقليمي عجز عن امتلاك نقاء الصورة التي تعكس حقيقة الوضع. في غياب ممارسة مهنية لإعلام عربي فضّل أن يصبح جزءا من لعبة الحرب وإعادة تشكيل المنطقة على سمفونية الربيع العربي الذي طحنوه طحنا في بلادهم فيما نافحوا عنه في بلاد أخرى، يصبح الأمر غاية في الخطورة. تعرضت البحرين مثلا لأكبر عملية تدمير ممنهج للرموز الثقافية والتّاريخية واقتيد الأطبّاء زرافات إلى السجون وسجنت النساء فيما تخوض المرأة في بعض البلاد الأخرى من الخليج(الهندي) ربيعا خليجيا ليس من أجل تعديل دستوري أو حق تشكيل الأحزاب السياسية أو ما إلى ذلك من مطالب مقتولة سلفا في صحراء الربع الخالي، لم يدخلوا تاريخها بعد ، بل هذه المرّة من أجل حقّ المرأة في السياقة. هذا الإعلام الذي غاب عن سوريا وعوّض غيابه بسياسة إعلامية شديدة المكر والالتباس ، يعيش هو الآخر اليوم بدايات سقوط عذريته الموضوعية وشرفه المهني. طلب منّي كثيرون أن أحدّثهم عن رأيي فيما يحدث اليوم في سوريا. وآخرون فضّلوا الإحراج. بينما يهمّني أن أتحدّث عن معطيات لا عن تكهّنات. وفي جعبتي الكثير من الإشاعات المضادة للمعارضة ولكنّني لا يمكنني الحديث إلاّ عن شيء أملك عليه الدّليل. وحيث بات واضحا أنّ الإعلام الموجّه غير مقنع تماما ، كان لا بدّ أن أقترب من الحدث وأستمع إلى نبض الشّارع، فكان لا بدّ من شدّ الرّحال إلى الشّام. كان في ذمّتي أن أدلي بدلوي في أحداث الشّام. لذا ما كان لي أن أغادر بيروت إلى الدّار البيضاء وليس بيني وبين الشّام سوى مسافة لا تتجاوز الثلاث ساعات بلوازمها الحدودية والاستراحية. فالإعلام استطاع أن يؤثّر سلبا في أصدقاء سوريا. كثيرون لم ينصحوني بالذّهاب يومي الخميس والجمعة. وكثيرون استكثروا عليّ زيارة الشّام في هذه الظرفية الصعبة. قلت لبعضهم متسائلا: هل الظرف صعب إلى هذا الحدّ؟ قال بعضهم : نعم. قلت: إذن معنى هذا أن أرحل إلى الشّام فورا. لا شيء من هذه الحكايات حركت شعرة في رأسي. كنت دائما على حدس سياسي كبير بأنّ لسان الإعلام الخليجي أطول من ضميره. والحقيقة باتت تسكن حدسي السياسي بامتياز وليس تحليلي السياسي. استقلت سيارة خاصة وانطلقت باتجاه الشّام وكلّي شوق لأقبّل رأس قسيونها الشّامخ في إباء وأقبل قدميها الممتدّة إلى ضواحيها. من الصالحية إلى الحمراء إلى "أبو رمانة" إلى باب توما إلى البرامكة وكفر سوسة واليرموك إلى الشاغور والصناعة والميدان .. أرنة أرنة أو بتعبير صاحب الكوميديا السياسية زنكة زنكة. كنت أتفقد المكان، وكلّي رغبة أن تغلق الحدود ويبدأ قدري من داخل الشّام .
صورة التقطها الكاتب لدوّار قريب من الميدان بالشّام في عزّ الأحداث
اجتزت الحدود التي عبرتها مثل السهم وبروح رياضية حضرت فيها الكثير من الدّماثة السورية حتّى أن المراقبة كانت مهنية وسريعة وغير متعبة. وما هي إلاّ لحظات حتّى تغيرت رائحة المكان وبات للمناخ نكهة تشبه الهلّ. شيء جميل هذا الذي بدت تتزين به دمشق في بوّابتها من جهة طريق بيروت. معالم توحي بأنّ التنمية تنمو هنا في صمت وإصرار. وقد خيّل إليّ أننا أمام طبيعة تشبه في تركيبتها العمرانية وتضاريسها الجبلية بالشّوف التي باتت مسك ختام بيروت باتجاه دمشق. معالم سياحية من فلل وفنادق ومؤسسات توحي ضخامتها بأنّ سوريا تحلم من دون ضوضاء، لأنّ قدر التنمية في مثل هذا البلد يجب أن يختفي بين التلال والوديان ، ويناور ما شاء له مكر السياسة ، لأنّ قدر التحرر الوطني أن تخنق تنمويا وتحاصر خلف أسوار ممانعتك، وفي كل الأحوال : ياساتر من عين الحسود. أخبرني السّائق أنه لم يفارق بلده إلا ساعتين، حينما قرأ أخبار البلد في إحدى الفضائيات التي فقدت حياءها المهني منذ فترة، بأنه تملّكه خوف شديد وظنّ بضغط الصّورة الملتبسة أن سوريا قد قرئ عليها السّلام. قلت له: إن كان هذا وضعك أنت المواطن السّوري بعد فراق لم يزد على السّاعتين لسوريا فما بال من لا عهد له بهذا البلد ولم يسمع عنه ولا رأى منه سوى الصّورة التّي قالت لأبيها أفّ ونهرته وأطاحت بشرفه؟! دخلت الحرم الدمشقي مترشّفا هواء مسائيا باردا. حذّرني كثيرون من الخروج يوم الخميس والجمعة. لكنّني فضّلت الخروج في هذا الوقت الذي يصادف أنه عطلة أسبوعية رسمية. قلت لهم مرارا : إن كنتم تريدون منعي من الخروج ، فقولوا أن الأمر بخير ولا تبالغوا في الحذر. إن كان الأمر يتعلّق بحراك اجتماعي مطلبي ، فهذا لا يخيف بطبيعته المدنية. وإن كان الأمر يتعلّق بزعرنة لها نظائر في كل بلاد الدّنيا، فذاك لا يخيفني البتة. خرجت مع ذلك و لا أثر لطوارئ ملفتة للنظر. بين الفينة والأخرى وفي بعض النقاط الخاصّة لا سيما تلك التي تتعلق بمنشآت صناعية ومرافق عمومية تتكدّس أكياس رمل تحتضن بضعة شباب من الجيش والأمن السّوري. تعمل سوريا على الحدّ الأدنى من المفارز العسكرية في شوارع دمشق، إلاّ ما كان حماية لبعض المنشآت الاستراتيجية. ولم تستوقفني من تلك الحواجز إلاّ واحدة ليلا في إحدى مداخل جرمانة. حيث اشتقت للكباب العراقي عند القاسم أبو الكص. رجعنا واشترى بعضنا بطيخا من بائع يفترش الأرض وذلك بعد السّاعة الثانية عشر ليلا. وعند المرور تأكّد بأن هذه المنطقة المليئة بالمطاعم تستقطب زبناءها كما لو أن ليل الشّام لا تعكّر صفوه صفّارات الإنذار التي يطلقها الإعلام في الخارج. وفي تلك الأثناء كان الإعلام خارج سوريا يرسم ملامح تراجيديا شامية، بينما كنت قد بدأت جولة أخرى في منتجع مع صديقي أبو حمّودة، على قهوة سادة ونفس أركيلة مضبوط. لا أحد يستوقف المارّة. على طول المزّة وعلى طول المتحلّق في سماء الميدان وفي باب توما وفروعها إلى الضواحي حتى حرسته ومخيم الوافدين إلى مخيم اليرموك إلى طريق المطار لا أثر لطوارئ ولا لتفتيش ولا لمساءلة. أمّا الحامدية فهي تحتفظ بحيويتها ورواجها كأنّها لم تشاهد الأخبار في قناة الجزيرة. وداخل الجامع الأموي الذي عزّ عليّ دخوله من فرط تدفّق الزّوار، اكتظت باحته وكذا داخل الجامع بمحاربه الأربعة. ومثل هذا كان ديدن الشّام حتى في عهد ما سمّي بقانون الطّوارئ. هل تصدّق أنه طيلة هذه السنوات بليلها ونهارها لم أذكر أن دورية طلبت منّي بطاقة إثبات الهويّة!؟ اللّهم إلاّ واحدة مع الرّابعة صباحا ، حينما سألني ذات عام ضابط :
من أي بلد أبو الشّباب، بلا زغرا؟
عربي!
شرّييف..على عيني.. يا مائة أهلا وسهلا!
كثيرون في هذا الحراك لم يتعرفوا على معنى قانون الطوارئ في سوريا بعد أن تمّ إصدار قرار برفعه. كان أحد المشاركين في التظاهرات يعبّر عن مطالبه قبل أن يدنو منه بعضهم: ماذا تريدون؟ يجيب :
نريدهم أن يرفعوا عنّا هاد اللّي إسمه أبو طارء!؟
بين قانون الطوارء وأبو طارق لا تكمن زلّة مشترك لفظي فحسب، بل زلّة جهل مركّب بالمطلوب أيضا. لم أسمع يومها كما اعتادت وسائل الإعلام العربية في الخارج أن مسيرات خرجت في الشّام بعد صلاة الجمعة تهزّ المكان وتشغل النّاس و تغيّر من ملامح الهدوء الشّامي. بضعة شعارات ترفع بمقدار ساعة أو السّاعتين في غفلة عن الأغلبية الصّامتة. وثمة بضعة شباب يخرجون في أقصى الليل داخل الحارات المحروسة يمارسون هواية الاحتجاج بشعارات ليس جميعها يحمل من اللّياقة ما قد تملك بعض الفضائيات جرأة نقله إلى الرأي العام عبر إعلامها الكسيح. أستطيع أن أميّز بين مطالب بعض السياسيين الوطنيين وبين حركات الاحتقان الطّائفي. لكن ما عرفته أن بعض الزعران يفقدون نقاوة الاحتجاج ويلوّثونه بتعبيرات تحمل شحنات طائفية رخيصة حتما لم يتلقّوها في التربية القومية في مدارس سوريا، ولكنها تحمل بصمة المنشقّين من أمثال العرعور وسرور وغيرهما. ففي كفر سوسة وقفت شخصيّا على مشهد مشين ، حيث تعرّضت امرأة لاعتداء من أحد الشّباب الطائش بضربة سكين في يدها ، فيما رشقوا بيتها بالحجارة في مشهد انعدمت فيه المرجلة بأصالتها الشّامية. حاولت أن أتعرّف على هذا الشّخص ولكن عبثا. يومئذ فقط تمنّيت لو أكون شبّيحة حقّا. لنتذكّر أن لا أحد يمكن أن يرفع الصّوت واليد على المرأة في سوريا. لكن في مثل هذه الخرجات تشطّ الزعرنة وتفقد الحركة نظافة الحراك التحرّري الحقيقي. حينما تفقدت هذه الشعارت التي تخرج من كهوف اللاّوعي الطّائفي ليلا، أكتشف أنها تتعلّق بشعارات استفزاز لا شعارات مطلبية. أي شعارات صناعة الحروب الأهلية وقضم الاستقرار لا شعارات تطالب بحقوق ومكتسبات. هي بالفعل خرجات شاذّة لا يعبأ بها الشّارع السوري المتعلّم والواعي والمثقف. لكنها على نشازها تبدو مقلقة. وشخصيا لم أكن أفهم حتى ذلك الوقت أن يذمّ الرئيس بشّار وتمدح السيدة الأولى بمعايير طائفية. لقد تحدثت بعض من تلك الشعارات عن أنّنا سنخرج حافظ الأسد من قبره ونفعل كيت وكيت. وأننا سنمسح بصور حافظ الأسد وبشّار الأسد والسيد نصر الله كذا وكذا.. ويستمر الهيجان الطائفي عند بعض المجموعات المندسة في هذا الحراك حدّ سبّ بشّار لأنه علوي وحسب ، ومدح السيدة الأولى لأنها سنّية وحسب. علّمهم العرعور خرق اللّياقة والحؤول بين المرء وزوجه. آخرون عبّروا عن مطالبهم بكيفية غارقة في السّذاجة الطّائفية. يهتف بعضهم: بدنا نحكي عل المكشوف، علوي ما بدنا نشوف.. أما آخرون ففضّلوا ذروة الاستفزاز حينما قال بعضهم متى صادف علويّا - واعذروني: ناكر الكفر ليس بكافر-: يلعن عليكم(أي عليّ بن ابي طالب). لم أكن أعرف أن التطرّف يبلغ هاهنا مبلغه. ويا ما أدركت من هذا النمط من بقايا أثر الأموية. هذه هي ثقافة العرعور وسرور والاحتقان الطّائفي الذي لن ترضى عنها الطوائف الإسلامية وهي حتى بالمعايير السنّية تعتبر استهتارا ونصبا. ولو كان النظام السوري طائفيا لظهر ذلك في الكثير من الممارسات. لقد أدركت من حال هذا البلد أن أسوأ حديث تنفر منه العامة والخاصة هو الحديث الغارق في التصنيف الطائفي. هنا لا يوجد إلاّ حديث عن أنا عربي. وإذا تخصص أكثر ، كان الانتماء سوريا. وكان أن خامر الخوف الكثيرين وأنا منهم بمجرّد أن أصبح السوريون يتحدّثون عن أنفسهم كسورييين لا كعرب بعد أن كان السوري والعرب لهم بوّابة واحدة في مطار دمشق الدّولي. كانت عروبة دمشق آخر أمل لنا كعرب. ولدي أصدقاء هناك لم أتعرف على نحلتهم ولا عن طوائفهم حتى اليوم، لأن إنسانيتهم تكفي وما تبقّى فضول. ففي المدارس والمعاهد الرسمية للدّولة توجد مادّة التربية القومية تحتلّ مكانة أساسية في العملية التربوية في كافة المستويات. وفيها يكبر عقل السوريين وثقافتهم وتصورهم للوطنية. وقسم مهم من الاحتقان ضدّ حافظ الأسد، هو أنه قمع الطّائفية ولم يجاريها في منطقها الثقافي واللّغوي. فمن حيث المبدأ لا يوجد في سلوك حافظ أو بشّار ما يعكس موقفا أو نزوعا طائفيا في بلد يغلي بمكونات متنوعة. الطائفية هنا غائبة لكنها محتقنة في زواريب شاذّة تتحيّن فرصتها التّاريخية لتدمير مكتسبات الاستقرار السوري. تحتاج إلى الوحش الأشقر؛ وهذا قدر النسبة. وحتى الآن لم أفقه غرابة هذا الاتفاق، أنّ من درعا ودرعة والدرعية تطلّ رؤوس الفتنة دائما على طول الوطن العربي ؛ فللّه في خلقه شؤون. قلت لصديقي إنّ قصارى ما ترمي إليه هذه الشعارات هو أن تسقط الأسد وتأتي بالعرعور. ضحك وضحكت وفي القلب وجع. ويا زمان سجّل هذه السّخرية ، لأنّ ما يجري اليوم هو أعمق مما تنتجه السينما الإعلامية في فضائيات أرباع الحقائق. ما أضحكني هو وجود إشاعات عن تواجد حرس ثوري إيراني وقوات خاصة من حزب الله لقمع التظاهرات في سوريا. وهي حتّى اليوم ليست مظاهرات تعجز نواطير البنايات ، فلم الحاجة لكلّ هذه المديونية الأمنية؟! هل يتذكّر هؤلاء بأن سوريا تتوفّر على تضخّم أمني؟! هل نسي هؤلاء بأن سوريا رعت أمن دولتين في فترة من الفترات: أمنها وأمن لبنان؟! لا شيء حقيقي فيما تذكره وسائل الإعلام المتسامحة في تنقيح أخبارها. لا وجود لمعسكرات باسدران في المناطق التي ذكروها وقد طفت فيها زنكة زنكة. كما أدركت يقينا أن حزب الله يمنع رجاله بمن فيهم المدنيين من الذّهاب إلى الشّام في مثل هذه الظروف. فمن أين نشأت هذه الأسطوانة المشروخة؟! هذه الأيام ليس فقط السلاح وحده ما يتسرب إلى سوريا من خارج الحدود، أيضا هناك الإشاعات الملفوفة بالسيلوفان. سألتني الأستاذة زينة في جولة المساء بقناة (anb) ، قبل ذهابي إلى الشّام ، عن سرّ وسائل الاتصال والأجهزة المتطورة المستعملة عند المسلحين بجسر الشغور ودرعا. كان جوابي: هذا صنع في درعا!؟ كان يهمّني أن أعرف إذا ما كان ما يجري هناك مجرد مسرحية كما يقول بعض المنشقين في الخارج؟ لكنّ مصادري الأكثر وثوقا أنّ هناك بالفعل أعمالا تخريبية مسلّحة من جهات لا أريد أن أفصل فيها تفصيلا. إنّ حكاية أنّ حافظ الأسد وبشار الأسد طائفيان هي جزء من صناعة الكذب. لقد وصل حافظ الأسد إلى زعامة حزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا بفضل كفاءته ونضاله. وقد اختاره لهذه المهمة حزب يضمّ أكثرية من الطائفة السّنية. وقد كان للطائفة العلوية دور بارز في مواجهة الاستعمار الفرنسي. وللشيخ صالح العلي تاريخ حافل بالكفاح. وكانت فرنسا قد قرّرت إنشاء دولة للعلويين. لكن العلويين الوطنيين رفضوا وواصلوا المقاومة. ومن هذه الثقافة الوطنية خرج الأسد.
وتنفضح غواية الطّائفيين الذين يريدون أن يركبوا الاحتجاجات المشروعة والمطلبية في سوريا حينما نكتشف أنّهم صادقوا حزب البعث العراقي أيّام صدّام حسين وبعضم شارك في جبهات القتال وكثيرون بكوه بكاء الفصيل عند فقد أمه؛ يومها فقط أصبح حزب البعث مؤمنا وصديقا للإخوان!؟ الطّائفية مرض لا يزال يسكن بعض الكهوف والزوايا المظلمة ولا مخرج منه إلاّ كما قال بشّار وهو الطبيب، بتقوية المناعة الدّاخلية. ففي سوريا لا تسأل سوى هل أنت عربي أم غير عربي. استمرت علاقة سوريا بالعرب على أساس مبدأ التحرر الوطني ومركزية الصراع العربي الإسرائيلي. كانت هذه الأخيرة آخر من وضع سلاحه بعد أن غدر بها السّادات حينما جنح لسلم لم تجنح له إسرائيل. وظلت سوريا في وضعية لا سلم ولا حرب، ورفضت أن يعود الجولان بشروط تنهك إرادة التحرر السوري. حينئذ خاض العرب مباشرة أو بالوكالة حروبا استنزافية بينية أو غير مجدية صرفتهم عن الصراع الحقيقي. صمدت سوريا في أصعب الظروف وأطلقت أوراشا مهمّة بإمكانات ذاتية لتحقيق حدّ أدنى من الاكتفاء الذّاتي. فكانت دولة عربية غير مديونة للغرب.
ويبدو هنا أنّ حكاية علاقة الأسد بإيران، لا تفهم إلاّ في سياق التحدّيات التي عصفت بالمنطقة. خالف الأسد غالبية العرب في الموقف من الثورة الإيرانية باعتبارها ثورة في صالح العرب. واستطاع الأسد أن يكون هو آخر خيط رفيع جعل الثورة بعد حرب الثماني سنوات لا تختار لها طريق إدارة الظهر للقضايا العربية. لقد كان له الفضل أيضا في جعل إيران عمقا استراتيجيا للقضية العربية الأولى: فلسطين. لم تستمر علاقة الإيرانيين بمنظمة التحرير الفلسطينية كما هو المتوقع من العلاقة التّاريخية النّاشئة بينهما عشية فتح ايران لسفارة فلسطين في طهران على أنقاض السفارة الإسرائيلية. فالحرب الخاطئة غيرت مزاج الإيرانيين تجاه مجموعة أبي عمّار لكنها عادة إلى فلسطين من دمشق وعبر بدائل أخرى. كان القادة الإيرانيون أيضا يستقوون بصداقتهم العربية على التيّار القوماني الفارسي في الدّاخل والذي كان ينظر بعين غير الرضا لهذا التقارب الإيراني العربي. لم ينظر الأسد إلى هذه العلاقة على أنها مجرد لقاء مصلحي لا يقوم على فكرة مبدئية. لعل من ثمرات هذه العلاقة هو حينما تقرر أن يصار إلى تقارب قومي إسلامي في تسعينيات القرن المنصرم. في إحدى المناسبات حضرت كلمة بمناسبة انتصار الثورة الإسلامية في إيران، لوزير الدفاع السابق مصطفى طلاس في مكتبة الأسد بساحة الأمويين. روى فيها مصطفى طلاس لأول مرّة حكاية أول تعرّف لحافظ الأسد على الإمام الخميني. كان هذا الأخير لا زال معارضا لنظام الشاه من منفاه بنوفيل لوشاتو بضواحي باريس. بعث الأسد بطلاس كي يتعرف ماذا وراء هذا الرجل. فلقد كان الشّاه رافدا أساسيا لإسرائيل بالنّفط خلال حرب أكتوبر. وكانت الحيرة مفهومة في سياق الذروة الأيديولوجية. لكن النّباهة السياسية لحافظ الأسد اقتضت كسر الحدود، ولأوّل مرّة تبدأ رحلة التّواصل بين حزب موسوم بالعلمانية وقائد ثورة فقيه إسلامي. بعد اطلاع الأسد على بعض المنشورات والأدبيات التي حملها إليه طلاس من نوفيل لوشاتو، قال له حافظ الأسد: إذن ، هذا بعثي بعمامة! كانت تلك هي أولى انطباعات الراحل حافظ الأسد، الذي لم يخطئ حدسه ، وهو يتحيّن كل فرص بناء القوّة الرّادعة ضد إسرائيل.
صورة عن اللقاء الذي تحدّث فيه مصطفى طلاس وبالمناسبة تمّ تكريم أبناء الشهداء ومنهم عائلة فتحي الشّقاقي في الصّف الثالث على اليمين قبل سنوات
الذين يتحدّثون حديث الأطفال عن أن سوريا لم تطلق رصاصة واحدة في الجولان طيلة هذه السّنوات، مخطئون في تقدير استراتيجيا الصراع ووضعية انعدام التوازن في الرّعب. لكن سوريا وطيلة أربعين سنة كانت تحفر حفرا تحت إسرائيل، فاستطاعت أن تناور دون أن تمنح فرصة للعدو في أن يخوض معها حربا كلاسيكية محسومة النتائج سلفا. لقد ساهمت في قيام معادلة صلبة جعلت إسرائيل تتّجه نحو مزيد من الضّعف وآفاق تعدها بالانتحار. فالمعركة ظلت استراتيجية. وكان حافظ الأسد قد التقط الإشارة بعد عودته من موسكو دون أن ينجح في إقناعهم بصفقة سلاح من شأنها أن تؤمّن توازن عسكري مع إسرائيل، حينها أدرك الأسد أنه لا بد من تحقيق التوازن بوسائل غير تقليدية، ولا شيء إلاّ بتفعيل العمل المقاوم. كان هذا الأخير مقتنعا بأداء الإسلاميين في مجال المقاومة، لذا فتح دمشق أمام كل أطيافها الفلسطينية. غير المقاومين ممن لم يلفحهم لهيب النّار الإسرائيلي لا يقنعهم شيء، لكن من كان في ميدان المعركة - حيث وكما يؤكّد مظفّر النواب: النّار هنا لا تمزح يا قردة - وحدهم يدركون قيمة الحضن السّوري. ألم تهد المقاومة انتصارها في تحرير الجنوب إلى حافظ الأسد؟! في مثل هذا الأمر وجب معرفة وجهة نظر المقاومة لا خصومها، وجهة نظر الجبهة الشعبية وحماس والجهاد والمقاومة اللبنانية والمقاومة العراقية ؛ أي قيمة بعد ذلك لما يقوله من امتهن الكفاح بالمراسلة؟! إنّ المطلوب كان هو رأس بشار الأسد لممانعته. نتساءل من كان قد جرّأ كل هذه الجرأة الزعيم الدرزي وليد جنبلاط على سوريا في تلك الأيّام قبل أن يتغيّر الموقف. جنبلاط أدرك حينها أن سوريا مطلوبة للأمريكيين، فاختار إعلان البراءة. وفيما بلغني من مصادر خاصّة أنّ الأمريكيين كانوا قد أبلغوا وليد جنبلاط شخصيا بأنهم عازمون أن يعلّقوا بشار بساحة المرجة. من يدري أنّ الكثير من هذه الوعود الجبانة يتمّ تداولها مع أولئك الذين لا زالوا يعتقدون أنّ خصوم سوريّا قادرون فعلا على إنجاز حلمهم في النيل من آخر زعيم عربي لم يرضخ لشروط إسرائيل.
حديث من قلب الشعب
أبو محمود شامي أصيل من الضّواحي ، صادق اللّهجة. لذا فاتحني بما يراه حقيقة.
ماذا رأيت يا أبا محمود؟
الله وكيلك، النّاس إلها مطالب.. أخّي بيكفّي كذب!
هل منعك أحد من التجوال أو السعي؟
لا، بس فيه مشاكل أخي.. ما بدنا نحكي غير هيك
طيب ، شو المشكل يا أبو محمود؟
يا أخي فيه شي عشرين مخفر عم يسحل الناس سحل؟
شو بدّك بالمخافر يا أبو محمود.. المهم أنا ما فيه حدا وأّفني بنوب!
أخي إحنا مو ضد الرئيس.. ما شفتو لما صلّى الرئيس في الجمعة وحملوه بسّيارتو.. ما تشوفو هيك مواقف..بس نريد مطالب وبس.
ما أعجبني هو أن أبا محمود يتحدّث في حضرة مواطنين علويين. ويقول: أنا ما بشارك في المزاهرات .. بس الناس تعبانة..أخي نفذوا مطالبهم ولا تتأخروا عليهم وما بدنا شي ثاني.. نحنا مو زدّ الأخ الرئيس.. نحنا زدّ الفساد..
يتّصل صديقي بزميله ويخبره أن أبا محمود لا يمكن أن يأتيك يوم الخميس. يسأله الشخص المذكور، ولم؟ يقول صديقي: بدّو يشارك في المزاهرات. يهتز بدن أبي محمود: الله يسامحك، انا ما بخرووج ..يضحك الجميع.. يبدو أن النكتة لم يعد لها طعم في زمن الالتباس.
صورة التقطها الكاتب في سوق الحامدية خلال الأحداث الأخيرة في سوريا
عبرت الأزقة. أخيرا وقبل أن ينال منّي التعب ألفيت سيارة تاكسي في انتظار زبون قادم. لن يجد صاحبها أفضل منّي ، اتفقنا على السعر لأنّ العدّاد قلّما يشتغل مع إخواننا السائقين في سورية لا سيما حينما يتعلق الأمر بزبون أجنبي ، يحبون أن يعاملوه معاملة خاصة في قضايا البيع والشراء. العداد غير محرز وفرصة السائقين هنا هم الزبناء الأجانب. عادة ألفناها، وقد يحتدم النزاع وقد يبلغ أشدّه ، لكن كلّ هذا يحدث ونظلّ نحب سوريا وأهلها.
قال : تفضل تكرم
قلت لا بد أن نتفق على شان ما بنختلف بعدين
قال: ما راح نختلف .. يا سيدي راح آخذك ببلاش
قلت مازحا : دين العرب أن يختلفوا .. لا يا حبيبي سنختلف حتما
قرأ في عيني أنني أفهم هذا اللون من الخداع اللغوي فأذعن للواقع. قال لي آخذك بمائتين وخمسين ليرة. قلت له:
شو هاد مو معؤول حبيبي .. أنا صار لي سنوات هون آخذ تكاسي يوميا ، بأأل من هيك...
أعتقد أن سوريا في حاجة إلى محاربة كل أشكال الفساد والخروقات التي يصار إليها موضوعيا في بيئة الأزمات. نحن نتحدث عن دولة تركت لحالها في المواجهة وأطبق عليها الغرب بالحصار. والرشوة التي هي معضلة المجتمعات مشرقا ومغربا تتطلّب إرساء قوانين وقبلها إقرار سياسات للشفافية ، تقلّل من منسوبها العالي المهدد للسياسات والعمران. ونهج الشّفافية يتطلّب إعداد بنية تحتية للشفافية في سائر المؤسسات العمومية. ويتوقّف هذا على أن تبدأ عملية تحسين الأجور في قطاع الأمن والجمارك. كما يتطلّب الأمر إرساء سياسات قطاعية كبيرة وتطبيق استراتيجية تتعلّق بالقطاع الخّاص، وذلك بمعية إصلاحات قضائية تمكّن الاستثمار من الاطمئنان إلى القوانين الدّاخلية والأداء الحقوقي في المجال التجاري والاقتصادي. وخلافا لبعض المحلّلين المتموضعين في الخندق المعادي لسوريا ، لا نعتبر سوريا دولة فاشلة. لكنها دولة مجهدة بالممانعة والصّمود، وبتعبير أدق:
هي نسيانا حالها وما بدا تتجمل أكثر من هيك!
عليها إذن أن تتجمّل وتسفر عن مفاتنها، لأنّ قسما من الرجعية العربية ظنّت أنها في موقع يؤهّلها لإعطاء دروس في الديمقراطية وحقوق الإنسان والانفتاح لسوريا!؟ كانت سوريا أسبق من كل البلاد العربية في استقبال النقد السياسي من طريق الفن السّاخر. وحتى في أكثر البلاد العربية ديمقراطية لم نقف على أعمال كلاسيكية تضاهي تلك التي أنتجها التلفزيون السوري. وقبل طاش ما طاش بسنين عددا، عرفت سوريا رائعة "كاسك يا وطن" و فيلم "الحدود" أو سلسلة مرايا المتخمة بالنقد السياسي السّاخر. دمشق التي نطق فيها الرّاحل الماغوط كلّ كلماته غير المتقاطعة. وفيها تعتّقت روائع دريد لحّام وأشرقت قصائد نزار قباني. إنها ليست جمهورية للصّمت بقدر ما قيل عن غيرها. ما ينقص سوريا اليوم ليس هو الجرأة وحرية التعبير التي مورست بلياقات مختلفة، بل ليس هناك سوى دسترة بعض أشكال هذه الحريات والحقوق .
أبو شادي(رشيد الحلاّق) جزء من العبق الذي يؤثث المكان.. بل هو نغمة شاردة من ذلك الشّام الذي يسكن الوجع والحنين.. لا أهتم بمحتوى الحكاية الخالدة عند الحكواتي التي تستعيد دورتها وفق الفلك الدوار كما لو أنها تحرس الزمن الشامي من الشطط..لكن يهمك الذوق الذي يصنع الألفة ويحفظ هذا التساكن ويذكّر بمجد الأبطال ونبوغهم في تشكيل حكائي لا يعترف بانكساراتهم. إنّ لنوستالجيا الشّام جغرافيا واسعة ذات نتوءات يقترن فيها عبق التّاريخ بسحر المكان. هذه المرّة اقتادني الحنين إلى مقهى النّوفرة. كنت قد عرفت أبا شادي حكواتيا منذ 20 سنة حينما دخلت النوفرة في لحظة الذّروة. كان أبو شادي بلغ عقدة الحكاية وهو يلوّح بالسيف ساردا فصولا مهمة من أقاصيص عنترة. لم أتعرّف يومها على الحكاية لأنّني لم أتعرف على سياقها. لكن همّني يومئذ أن أتأمّل الحكواتي والمتلقّي والمشهد الحكائي نفسه. كان أبو شادي قد سيطر على مشاعر الحضور وبتفنن رفيع كان يرسم خطوطا بيانية تعكس منحنى توتّر أحاسيسهم. هذه المرة عدت إلى النوفرة لأكتشف أن سحرها لا يزال باديّا . وكسائر عرائس الشّام لا زالت تحتفظ بغنجها التراثي. وإن كان شيء من الخوف يخفيه أبو شادي على مستقبل الصناعة الحكواتية وتراث الشّام الأصيل.
صورة للكاتب رفقة أبي شادي الحكواتي في مقهى النوفرة في عزّ الأحداث
ينتابك إحساس أنك داخل فصل من فصول باب الحارة. أمّا أبو شادي فهو يرى نفسه كذلك. وحين سألته : لماذا لم يدعوك لللمشاركة في مسلسل باب الحارة وأنت كبير الحكواتيين، قال: هذا فيلم للأجانب أمّا نحن فنعيش مثل حياة باب الحارة، نحن نعيشها واقعا. غير بعيد عنّي قبل أن أتوجّه ناحيته ، كان أبو شادي يحتسي كأسا من الشّاي تأهّبا لاعتلاء كرسيه مع حلول الثامنة. كم كان جميلا أن أتحدّث إلى أبي شادي تحت وطأة نظرات فضولية من الزّبائن. قال لي أبو شادي: لا بد أن ندردش لأنني بعد الإلقاء لا يبقى معي نفس للحديث. إن أبا شادي يعطي كل جهده في الحكاية ولا يأل جهدا قط. سألته كم قضّى من السنوات في الحكاية بالنوفرة، فأجابني: 21 سنة. إذن حينما شاهدته أول مرّة كان حديث العهد بالشغل في النوفرة. تعكس ملامح أبو شادي أصالة الشّام ، فهو لم يفقد نكهته، فله رائحة مثل الهلّ وتنباك عجمي والقهوة التركية والبوظة الشّامية. أخبرني أيضا أن مسكنه بالغوطة يبعد من النوفرة بحوالي 25 كلم . أبو شادي حكواتي مثقّف حتّى أن له اجتهاد خاص في تدبير نصّ الحكاية. فهو يخرج على النّص عند الاقتداء كما يتصرّف في متن القصّة. تدور الحكاية كلّها حول عنترة أو حكاية الملك الظّاهر ببرس. وهذا الأخير مليء بالمفاصل الطّائفية. بينما قناعة أبو شادي أنّ الدّين لله والوطن للجميع. لذا يعتمد على القفز على النّص المستفز وينطّ فوق هذه الموارد المثيرة للحساسيات. فوظيفة الحكواتي أن يمتّن العلاقات المجتمعية ويعمّق الإحساس الوطني. كما يحضر الجانب السياسي والاجتماعي في صناعة الحكاية وأسلوبه ومقاصده عند أبي الحكواتيين الدّمشقيين. ولكي يمنح هذا الأخير لدورته الحكائية بعدا توعويّا وتربويا فهو يستطرد كثيرا ويخرج على النّص ليثير قضية اجتماعية ما أو أي قضية من القضايا المعيشية التي تهمّ النّاس . وهو شكل من أشكال الاجتهاد في النّص لا مع النّص لتحيين محتوى الحكاية وإعطائها بعدا معاصرا. إنّ حكاية عنترة والظاهر بيبرس كما يقدمها أبو شادي هي بمثابة دورة كاملة تستمرّ إلى ما يقارب السّنة والنصف. هكذا يملك أبو شادي أن يأسر عقول الزبناء بمسلسله الحكائي لمدة تفوق السنّة. ولا يكاد يفهم هذه الفصول إلاّ من ابتدأ الدورة؛ لذا فهي غير متاحة لمن كان مجرد عابر أو متواجد على سبيل الصدفة والفضول. ولأبي شادي محطّات حكائية خارج النّوفرة تتعلّق بضرب آخر من الحكاية المحصورة والشبيهة بالقصة القصيرة يستطيع أن ينال بها إعجاب من ليسوا من رواد النوفرة أو هواة مسلسل عنترة والظّاهر ببرس.
سألته عن ما إذا كان يزاول حكايته يوميّا وعن أيّام العطلة، لأكتشف أنّ لا عطلة للحكواتي. فهو حاضر في سائر أيام الأسبوع كما كان دائما حاضرا في كل العصور. فالحكواتي يستنشق الحكاية كما يستنشق الهواء. هي ليس إذن مداومة في عمل بل مداومة في وجود ومعنى وتماهي مع فصول الزمان ودوراته. فالحكواتي هو قلب النوفرة النّابض وأمل استمراريتها واستمرار نكهتها. يوم لم يعد يوجد حكواتي ولو وعدا بالحكاية، سيصبح الأمر كما لو افتقدت القهوة نكهتها ولم يعد ثمة من نكهة للعجمي ولا للهلّ. لكن أبا شادي الذي لم يمنعه حرّ ولا زمهرير من حضور فصول ملاحم حكايته في النوفرة ، يجد نفسه مضطرا يومي الخميس والجمعة أن يتغيّب نظرا للمظاهرات وصعوبة التنقلّ وتعذّر وسائل النقل . قلت له هل تتمنّى أن تهدأ الأمور ويعود الهدوء إلى سائر أوقات الشّام؟ قال: طبعا ، نحن نريد أن تهدأ الأمور لنواصل عملنا! أبو شادي يشكوا من بعض العلل في رجليه. ولكنه لا زال مصرّا على مواصلة الطريق . وحينما سألته إن كان يائسا ، قال ، نعم ولكن عندي بعض الأمل. وأمل أبي شادي مرتهن بوعد قطعه إيّاه مدير اليونسكو في لقاء معه ، على أن يتمّ تشييد مقرّ خاص يزاول فيه أبو شادي هواية ومهنة الحكي براتب شهري محرز. هذا هو أمل أبو شادي. لكن هذا الأمل سرعان ما جرفته الأحداث الأخيرة ، ما يؤكّد أنّ ما يجري في سوريا اليوم قضم آخر أمل لأبي شادي بعد يأس مرير!
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.