لا أعتقد أن أي واحد منا سبق أن طرح على نفسه، وهو يستيقظ في الصباح، بعد أن يكون قد أمضى دقائق طويلة في عالم الأحلام، هذا السؤال: هل هو حر؟! وهل هو قادر على أن يفعل بحريته ما يشاء؟ لا أعتقد ذلك. كما أنني أشكّ أن أيا منا، سواء أكان رجلا أو امرأة، يملك من الشجاعة ما يجعله قادرا حتى على استغلال ما منح له من هامش الحرية. إنه يجد نفسه، دائما، معتقلا، مكبل اليدين، والأخطر من كل ذلك أنه يجد نفسه مسلوب الإرادة وعاجزا عن استعمال عقله الذي قيل عنه: «من لا نبي له عقلُه نبيه». إنه يعتبر أن هذا العقل لا يصلح لأي شيء، لذلك أوصد عليه هناك في «صندوق خشبي» قديم ونسيّه، كما ينسى أحلامه التي تتلاشى كما تتلاشى الفقاعات. لا فلسفة ولا هم يحزنون.. فهو يسير مستقيما حتى يتخشب... إن المتأمل في الواقع وفي هؤلاء الناس الذين يملؤون الشارع من الصباح إلى المساء ويعلو ضجيجهم حتى يبلغ عنان السماء، سيجدهم أشبهَ بالمعتقَلين الذين يتحركون في سجن كبير وفق ما سُطِّر لهم، حيث إنهم لا ينحرفون ولا يتمردون على أنفسهم ولا يشاكسون أنفسهم ولو على سبيل المزاح.. هذا غريب، ولكنّ الأغرب والمحزن في آن واحد هو أن هؤلاء مقتنعون، إلى درجة الإيمان، أنهم أحرار ويعيشون كما تملي عليهم ضمائرهم ووفق إراداتهم الخاصة. فهم يأكلون، يشربون، ينامون ويقضون حاجاتهم السرية بدون إذن. ويثورون في وجه بعضهم البعض، ويشتمون بعضهم البعض كما يحلو لهم، بل يبصقون في وجوهم، كما يحلو لهم دون إذن. كما أنهم يغيّرون وجوههم ومبادئهم بسرعة البرق، دون إذن أيضا، فهم بناء على ذلك أحرار ولا ينقصهم شئ سوى الموت في حضن سادات قريش ورضاهم، الذي به يحيَون وبه تنزل عليهم البركات ويدخلون الجنة.. تذكر الروايات أو أنني أريد أن تحكي الروايات أنه كان نائما ورأى في ما يرى النائم أنه أصبح حرا في كل شيء إلى درجة أنه أصبح حلزونا يسير على خطى الفلاسفة ويرشق سادات قريش بأسئلة كبرى ولا يرجو من وراء ذلك سوى أن يقولوا له متى نكون أحرارا.. لكن الطرفة أنه لما أيقظه نباح كلاب كانت تتهارش على عظمة، وجد الحلزون بالفعل على كفه وسادات قريش تقف على رأسه بسيوفها، وهي تتشاور: من أي جهة نذبحه؟!..