حسن بنشليخة ما أروع أن تستريح في مقعدك وتستمتع بفيلم من أجمل وأرقى ما عرضه مهرجان فيلم المرأة في سلا، في أول ليلة من المسابقة للأفلام الرسمية، لولا الأطفال الصغار (بعضهم لا يتجاوز العشر سنوات) الذين غزوا القاعة وعكّروا على الجميع صفو الفرحة، عندما كانت ترتفع أصواتهم المقززة مع المَشاهد الجنسية الساخنة.. والفيلم قصة واقعية تنحني لها القامات احتراما وسيرة ذاتية للشاعرة الجنوب إفريقية أنجريد جونكر، أخرجته بكل إتقان وبراعة باولا فان دير أوسيت الهولندية. وإذا كان هذا الفيلم الدرامي يرصد لنا حياة امرأة «سامة» متذمرة ومتقلبة المزاج، تتحول، بين الفينة والأخرى، إلى شحنة من الديناميت قابلة للانفجار في أي لحظة، إنْ هي لم تحصل على ما ترغب فيه من علاقاتها الغرامية مع العديد من الرجال، وعلى طريقتها، يبقى الفيلم، رغم كل شيء، في أسلوبه ونبرته، عملا سياسيا يتحرّى تحركات مجموعة من الكتّاب والأكاديميين الجنوب إفريقيين البيض الذين يتحدّون القيود السياسية لنظام الفصل العنصري. أما إنغريد جونكر فتقاوم بشِعرها لتحرير جنوب إفريقيا من العنف والتطرف، وتكافح من أجل التحرر من عائلتها العنصرية.. وتمزج المخرجة كل هذه العناصر لتعالج سياسة التفرقة العنصرية والتمييز العنصري في جنوب إفريقيا قبل إطلاق سراح المناضل السياسي البارز نيلسون مانديلا والاعتراف بحقوقه الطبيعية وتخلّصها من نظام «الأبارتايد».. وقد ارتأت المخرجة أن أقصر الطرق لفضح جرائم «الأبارتايد» السابقة هو الانطلاق من الداخل إلى الخارج، من حياة فريدة صاخبة منغلقة على نفسها، دون الغرق في الفوضى السياسية والأمنية والاجتماعية والتاريخية لنظام عنصريّ فاسد لم يعد صالحا ولم تعترف به المواثيق والقوانين الدولية الخاصة بحماية حقوق الإنسان.. هذا هو ما يحمله الفيلم في ثناياه من نفحات إنسانية وقيّم جمالية تتجاوز حدود محليتها وبإشارات فنية تصل إلى قلب المُشاهد مباشرة. وقد تقمصت الممثلة كريس فان هوتن شخصية أنغريد بأداء مدهش، لكونها قدمت آثارا ذات اتجاهات إنسانية متباينة ومؤثرة واستطاعت سلب القلوب بصوتها اللطيف الساحر وعينيها اللتين تقطران بالبراءة وسمّ الأفعى، وحملت على أكتافها وزر بطولة هذا الفيلم بكل براعة وأوصلت رسالة المخرجة في أبهج صورها، تنحبس لها الأنفاس وتستحق جائزة أحسن ممثلة إلى حد الآن. أما باقي مجموعة الفنانين الآخرين فقد قدّموا أداء قويا، لاسيما والدها، الذي لعب دورَه الممثل روتجر هاور. أما باقي التفاصيل الأخرى (اللباس، السيارات، الديكور والأحياء التي يسكنها السود) فقد اكتملت فيها جميع المقومات وكانت في غاية الدقة لاستحضار روح مناخ تلك الأزمنة الثقيلة على القلب. ولن ينسى المُشاهد، أبدا، تلك اللحظات الخالدة في الفيلم، عندما تواجه أنغريد والدها لاستعطاف حبه أو محاولة إقناعه بقسوة نظام «الأبارتايد» تجاه أناس ذنبهم الوحيد أنهم وُلِدوا سُوداً. كما أن المُشاهد قد تدمع منه الروح والقلب لتلك الفترات العويصة التي تمر بها أنغريد كمحاولتها الإقدام على الانتحار أو ما تتعرض له من سيّئات الإجهاض أو عندما ترجع من أوربا ويستقبلها حبيبها في المطار، ليسألها عن حالها فتجيبه، بصوت خافت باهت، أنها «متعبة»، وفي ذلك دلالة قوية تتسرب تحت الجلد لتحرّك في المشاهد عواطفه. وأعظم ما في الفيلم تلك المفاجأة الرائعة التي استحوذت على مُخيّلة المُشاهد لحظة خروج صوت نيلسون مانديلا مع انتهاء الفيلم، وهو يقرأ الكلمات ذات الإحساس المؤثر والقوي من قصيدة أنغريد جونكر الشهيرة «الطفل الذي قتل بالرصاص من قبل الجنود في نيانغا»، ويشعر معها المُشاهد أن هذا الصوت الشلال، الحي، في صفائه وحنانه وعذوبته، ينهمر من روح إنسان وقف طيلة حياته ضد الذل والاهانة والاضطهاد، ليكرّم المخرجة الهولندية على إبداعها وليجلب الفخر للشاعرة الراحلة، الإنسانة والمتمردة، أنجريد جونكر. وفي الأخير، أود أن أشير إلى أن هذا الفيلم أيقظنا بحق من السبات الذي عانيناه مع الفيلمين السابقين «الطريق الأخير»، لمخرجته الأمريكية كيلي رتشارد، وفيلم «طفل الأعالي»، لمخرجته السويسرية اورسلا مايير، واللذين لا يستحقان أي تنويه.