بعد خيباته المتراكمة .. النظام الجزائري يفتح جبهة جديدة ضد الإمارات    في خطوة رمزية خاصة .. الRNI يطلق مسار الإنجازات من الداخلة    وداعاً لكلمة المرور.. مايكروسوفت تغيّر القواعد    برشلونة يهزم بلد الوليد    منتخب "U20" يستعد لهزم نيجيريا    العثور على ستيني جثة هامدة داخل خزان مائي بإقليم شفشاون    إسرائيل تستدعي آلاف جنود الاحتياط استعدادا لتوسيع هجومها في قطاع غزة    من الداخلة.. أوجار: وحدة التراب الوطني أولوية لا تقبل المساومة والمغرب يقترب من الحسم النهائي لقضية الصحراء    الوداد يظفر بالكلاسيكو أمام الجيش    جلالة الملك يواسي أسرة المرحوم الفنان محمد الشوبي    الناظور.. توقيف شخص متورط في الاتجار في المخدرات وارتكاب حادثة سير مميتة وتسهيل فرار مبحوث عنه من سيارة إسعاف    حقيقة "اختفاء" تلميذين بالبيضاء    مقتضيات قانونية تحظر القتل غير المبرر للحيوانات الضالة في المغرب    البكاري: تطور الحقوق والحريات بالمغرب دائما مهدد لأن بنية النظام السياسية "قمعية"    الأخضر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    أمسية احتفائية بالشاعر عبد الله زريقة    نزهة الوافي غاضبة من ابن كيران: لا يليق برئيس حكومة سابق التهكم على الرئيس الفرنسي    52 ألفا و495 شهيدا في قطاع غزة حصيلة الإبادة الإسرائيلية منذ بدء الحرب    تقرير: المغرب يحتل المرتبة 63 عالميا في جاهزية البنيات المعرفية وسط تحديات تشريعية وصناعية    قطب تكنولوجي جديد بالدار البيضاء    الموت يفجع الفنانة اللبنانية كارول سماحة بوفاة زوجها    تفاصيل زيارة الأميرة للا أسماء لجامعة غالوديت وترؤسها لحفل توقيع مذكرة تفاهم بين مؤسسة للا أسماء وغالوديت    المغرب يبدأ تصنيع وتجميع هياكل طائراته F-16 في الدار البيضاء    ابنة الناظور حنان الخضر تعود بعد سنوات من الغياب.. وتمسح ماضيها من إنستغرام    حادث مروع في ألمانيا.. ثمانية جرحى بعد دهس جماعي وسط المدينة    العد التنازلي بدأ .. سعد لمجرد في مواجهة مصيره مجددا أمام القضاء الفرنسي    توقيف شخص وحجز 4 أطنان و328 كلغ من مخدر الشيرا بأكادير    توقعات أحوال الطقس اليوم السبت    مجموعة أكديطال تعلن عن نجاح أول جراحة عن بُعد (تيليجراحة) في المغرب بين اثنين من مؤسساتها في الدار البيضاء والعيون    الملك: الراحل الشوبي ممثل مقتدر    وصول 17 مهاجراً إلى إسبانيا على متن "فانتوم" انطلق من سواحل الحسيمة    كلية العلوم والتقنيات بالحسيمة تحتضن أول مؤتمر دولي حول الطاقات المتجددة والبيئة    الإمارات وعبث النظام الجزائري: من يصنع القرار ومن يختبئ خلف الشعارات؟    العصبة تفرج عن برنامج الجولة ما قبل الأخيرة من البطولة الاحترافبة وسط صراع محتدم على البقاء    إسرائيل تعيد رسم خطوط الاشتباك في سوريا .. ومخاوف من تصعيد مقصود    تونس: محكمة الإرهاب تصدر حكما بالسجن 34 سنة بحق رئيس الحكومة الأسبق علي العريض    الملك محمد السادس يبارك عيد بولندا    كازاخستان تستأنف تصدير القمح إلى المغرب لأول مرة منذ عام 2008    بيزيد يسائل كاتبة الدولة المكلفة بالصيد البحري حول وضعية مهني قوارب الصيد التقليدي بالجديدة    الإقبال على ماراثون "لندن 2026" يعد بمنافسة مليونية    منحة مالية للاعبي الجيش الملكي مقابل الفوز على الوداد    الداخلة-وادي الذهب: البواري يتفقد مدى تقدم مشاريع كبرى للتنمية الفلاحية والبحرية    أصيلة تسعى إلى الانضمام لشبكة المدن المبدعة لليونسكو    اللحوم المستوردة في المغرب : هل تنجح المنافسة الأجنبية في خفض الأسعار؟    الكوكب يسعى لوقف نزيف النقاط أمام "الكاك"    غوارديولا: سآخذ قسطًا من الراحة بعد نهاية عقدي مع مانشستر سيتي    الفنان محمد الشوبي في ذمة الله    الصحة العالمية تحذر من تراجع التمويل الصحي عالميا    دراسة: هذه الأطعمة تزيد خطر الوفاة المبكرة    دراسة: مادة كيمياوية تُستخدم في صناعة البلاستيك قتلت 365 ألف شخص حول العالم    "موازين" يعلن جديد الدورة العشرين    وفاة الممثل المغربي محمد الشوبي    القهوة تساعد كبار السن في الحفاظ على قوة عضلاتهم (دراسة)    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«المساء» في قلب مخيمات اللاجئين الماليين بالمغرب
فروا من المعارك الطاحنة في مالي ويعانون من «غارات» البوليس على الحدود المغربية الجزائرية
نشر في المساء يوم 15 - 03 - 2013

منذ أن بدأ القصف الفرنسي على الجماعات المُتشدّدة في مالي، لم
يتوقف عدد اللاجئين الماليين الفارّين من الحرب إلى الدول المجاورة، خاصة النيجر وموريطانيا، وتؤوي الأخيرة، وحدها، أكثرَ من 70 ألفَ لاجئ ماليّ. ورغم بُعد المسافة التي تفصل باماكو عن الرّباط، فإنّ المغرب لم يخرُج من لائحة الدول التي مسّتها موجاتُ المهاجرين الماليين الهاربين من الحرب.. «المساء» زارت مخيمات اللاجئين الماليين في النقطة الحدودية بين المغرب والجزائر، وأعدّت تحقيقا شاملا عن حياة اللاجئين في الغابات المُجاورة لمدينة وجدة ومعاناتهم مع «البوليس»، الذين يتهمون بعضهم ب«الاعتداء عليهم وسرقة ممتلكاتهم البسيطة».. في هذا التحقيق، كذلك، تفاصيل دقيقة عن الحياة اليومية لهؤلاء اللاجئين، عن أعدادهم وعن قصص حياتهم وطريقة وصولهم إلى المغرب..
من غاو إلى وجدة، مرورا ببوركينافاصو، أو من بماكو، إلى وهران، ثم وجدة، مرورا بالنيجر، أو من سيكاسو إلى موريطانيا، ثم الصّحراء المغربية.. هي ثلاث طرُق تقود كلَّ هارب من الحرب الطاحنة التي تدور رحاها بين الإسلاميين المُتشدّدين في مالي والقوات الغربية إلى هذه النقطة الحدودية. غير أنّ معانقة هذه المدينة في النهاية لا يحظى به إلا من مرّ بامتحان قاس ومرعب واحتمل مشاق السّفر عبر فيافي الصّحراء القاسية وتغلّبَ على الجوع والعطش والمرض في أرض صفراء، خارج الزمن والتاريخ.. أربعة آلاف كيلومتر هي المسافة بالضبط التي تفصل على الخريطة مدينة بماكو عن وجدة، المدينة الحدودية المُطلة على الجزائر...
بيد أن عبد الله وسانوغو وباكايوكو وأكثر من 100 من زملائهم الآخرين قطعوا أكثرَ من هذه المسافة، إما تمويها وإمّا هروبا من «البوليس» الحدوديّ أو من الجماعات الإرهابية الموجودة في صحارى الجزائر وموريطانيا..
وصلوا، أخيرا، إلى نقطة النهائية، واستقرّوا في غابة بعيدة عن مدينة وجدة بكيلومترات قليلة، في منحدر، غير بعيد عن الحدود المغربية -الجزائرية. راضون بالعيش في الغابة ومدّ اليد في الطّرُقات وراضون بتعامل المغاربة، رغم جمل عنصرية سمعوها من بعض المُشاغبين في المدينة، يردّدها عليهم «عيسى» ويضحك الآخرون بعد أن وصلت إليهم مترجمة: «عْزّي بامْبالا سْرق لمّوساندالا»... عيسى حالة خاصة جدا لأنه الأقدمُ في المغرب، وهو الذي يأخذ بيد هاربين آخرين اليوم ويفتح أعينهم على المجتمع وعلى الثقافة المغربيَّيْن.
«كل شيء جميل في المغرب إلا البوليس»، يقول سانوغو، الذي وصل إلى وجدة منذ حوالي شهر، مضيفا، بوجه كئيب، يُجففه كل حين بمنديل متسخ من طول الاستعمال: «يُهاجموننا كل يوم تقريبا في ساعات جدّ مبكرة، فيسرق بعضهم كل ما يجدونه باهظا أو يستحق الاستعمال».. كان يتكلم ويتنهد كثيرا، قبل أن ينهار متأثرا بالذكرى..
بداية القصة
في العام الماضي، كانت هناك تعهّدات شفوية من الجماعات المقاتلة شمال مالي بعدم الاقتراب من الجنوب، فحصل هناك اتفاق «سري» بين الاستخبارات الغربية وقادة الحركة على الالتزام ب«الهُدنة»، لكنّ قائد جماعة «أنصار الدين» قرّر أن يصبح الآمرَ الناهيَّ في كل الأراضي المالية، فتوجه، ذاتَ ليلة، إلى العاصمة باماكو. آنذاك بدأ القصف الفرنسيّ على مواقع الجماعات الإسلامية على جبهة التماس مع الجيش المالي لتعطيل تقدّمها نحو الجنوب واقترابها من العاصمة، لتبدأ بذلك «الحرب الفرنسية على الإرهاب في مالي»..
أمام اشتداد المعارك هرب الآلاف من المواطنين الماليين إلى الدول المجاورة، خاصة موريطانيا، التي تضمّ حاليا أكثرَ من 70 ألف لاجئ مالي، مع وجود أرقام مُتباينة لعدد اللاجئين في باقي دول الجوار، ولعلّ المغرب من ضمن هذه الدول التي مسّتها موجات الهروب من الحرب.
عبد الله، 26 سنة، ينتعل حذاء لامعا وسروالا أسود وسترة بيضاء أنيقة ويضع نظارات... هو الأخ الأصغر لعيسى. جاء إلى المغرب قبل حوالي ثلاثة أشهر. كان هو العنصرَ المتأنق الوحيدَ في الجماعة.. قال لنا: «درست في غانا وأتقن أربعَ لغات، وأنا أتعيش في هذا المخيم بفضل أعمال الترجمة التي أنجزها لفائدتهم»، مشيرا إلى خيمة على شكل غرفة مغلفة بإحكام بلدائنِ بلاستيك غليظ محمول على أعمدة من خشب الغابة.
في الطريق إلى الجبل، نصادف -بين الفينة والأخرى- بعض اللاجئين يحملون، على ظهورهم أو فوق أكتافهم، قواريرَ كبيرة مملوءة بالماء وهم يتجهون إلى الخيمة عبر طرق ملتوية، وعرة. يأتون بالماء من المدارس والجامعات المُجاورة.. وفي أيام السبت والأحد يجدون دائما منافذ للحصول عليه.. حتى التناوب على جلب الماء يسهّل مشاق الطريق، إذ «يتعاقب» على الخيمة أكثرُ من 80 شخصا، ورغم أنْ لا أحد منهم يزاول عملا قارا في المدينة منذ التحاقهم بالمغرب فإنهم يجدون في التضامن الحلَّ الوحيدَ لاقتسام المعاناة، «لأن هناك دائما عشرة أو عشرين يحصلون على بعض الدراهم، كافية لاقتناء بعض القطاني أو الخضر.. أو أي مواد غذائية تسد الجوع»، يستدرك عبد الله.
«نحن مسلمون والحمد لله، حينما نقول للناس إننا ماليون يتعاطفون معنا، خاصة في المساجد»، يقول عيسى، الذي خبر المغرب منذ سنوات، وتعلم العربية الفصحى والدارجة.. «لا أستطيع أن أكتم إعجابي بالمغرب، رغم بعض العنصرية التي تواجهنا أحيانا»... هو الذي ألقى على زملائه ترجمة الأبيات العنصرية التي تعلّمها في الدار البيضاء، ولما كان يلقيها ويترجمها لهم بلغة «بامبارا» (اللغة المالية) كان بعضهم يضحكون وآخرون لا يُجيدون الابتسام بما يكفي لإنارة عيونهم المدفونة بين وجناتهم الضّامرة..
وصلنا إلى الخيمة بعد حوالي نصف ساعة مشيا على الأقدام، وعلى بُعد أمتار قليلة، استقبلتنا عشرات العيون الدّائخة بكثير من الرّيبة والتساؤل عن سبب زيارتنا.. ورغم تأكيدنا أننا كنا قد اتفقنا البارحة على الموعد وسبب الزيارة فإنّ مشادات كلامية نشبت بين بعضهم ممّن يخافون -لأسباب أمنية- «انتقام الشرطة من استقبال الصحافة»، على حد تعبير عيسى.. إلا أن تدخُّل عبد الله، الذي يعتبر «مثقفَ الجماعة» بامتياز، ليُطمْئن الجميع، مؤكدا أنّ هدفَ الزيارة «إنساني» ساهم في نقل جانب من حياتهم في الغابة إلى الرأي العامّ ومسَح الصورة التي يحملها بعض المغاربة عن المهاجرين الأفارقة، «لكوننا مسلمين، مثل المغاربة، وهاربين من الحرب»... وكلام كثير آخر لم يترجم أغلبَه ولم نفهم جُلَّه.. آنذاك، وبشكل فجائي، التفّ الجميع حولنا، مُرحّبين..
ذكريات من مالي
«فقدتُ أمي قبل الحرب، وفقدت أفرادا من العائلة خلال الحرب»، يقول سانوغو، هذا الشاب ذو السابعة والعشرين سنة. يتكلم قليلا ويسكت كثيرا.. لعلّه لا يريد نبش جثتهم في صدره.. فحوالي 60 شخصا ضمن الثمانين الموجودين في المخيم يؤكدون أنهم أيتام من أمهاتهم. توفي بعضهنّ في أوقات مبكرة، فبقي الأبناء في يد عائلات الأمهات، «لأن الأب في المجتمع المالي يتزوج أكثرَ من امرأة»..
يقول أحدهم في المرأة: «النساء الماليات ثرثارات، طحنَهنّ الزّمن وغدْرُ الرّجال»، ويضيف آخر: «خُلق الرّجل المالي للمبيت في أكثر من عشّ.. يضحك بعضهم على كلامِه.. لكنْ سيتحول الجو، بعد ذلك مباشرة، حين أخذ أصغرهم سنا (واسمه كذلك عيسى -17 سنا) في سرد قصته..
«توفيت والدتي.. أنا أكبر اخوتي، تزوج أبي مباشرة بعد وفاة الوالدة بامرأة أخرى... غادرتُ حجرة الدراسة في المستوى السابع».. يتلعثم في الحكي، لعله يبتلع جمرات الحزن، ثم يضرب فخذه بيده متحرّقا: «لعلك لا تعلم قيمة الأم في مجتمعنا، فهي كل شيء.. ليتني كنتُ فقدتُ أبي مكانَ والدتي، فالأب لا يجيد إلا النوم ورفع شارة الفحولة على هضاب النساء في مجتمع كله ذكوريّ»، قالها وسكت.. غرس الجميع أعينهم في الأرض.. ثم واصل عيسى الحديث بلغة «بامبارا» لمدة طويلة، لكنْ اكتفى المترجم بتركيز كل كلامه في جملة واحدة: «مَن لا أم له لا وطن له».. بعد ذلك، نهض عيسى -الأصغر، متألما فانحشر في الخيمة ولم يخرج بعد ذلك..
تجاوزت أعمار بعض الموجودين داخل هذا المخيم الثلاثين. تجشّمَ بعضهم أعباء الأسرة مبكرا، لكنهم قرّروا، مع بداية الحرب، الهروب من ساحة المعارك. يقول باكايوكو، 35 سنة، جاء من مدينة سيكاسو منذ بداية العام الجديد: «أنا متزوج منذ 2005 وأب لفتاتين»، مضيفا: «لستُ أنانيا، كما قد يعتقد البعض. أنا لم أترك عائلتي إلا بعد إلحاحهم عليّ... أريد أن أعيلهم من المغرب، لكنّ هذا الحلم بدأ يتبدّد». لم يستطع أن يخفيّ خيبة أمله منذ قدومه إلى وجدة، لأنه عجز تماما عن إيجاد أي عمل، كيفما كان. يؤكد أنه لا يستطيع الرّجوع إلى مالي دون أن يجمع بعض المال: «من العار أن يحدُث ذلك حتى بعد نهاية الحرب، أما الآن فمستحيل لأنّ الخارج من النار لا يدخلها أبدا»، يقول بفرنسية «عرجاء»، ممزوجة بلكنة إفريقية.
أكد، هو الآخر، أن الأم تلعب دورا كبيرا في المجتمع المالي. قال إنه كان بدون عمل في بلاده، لا يغني وجوده ولا يُسمن، ما دامت زوجته هي التي تعمل في الغالب، كعادة الأمّهات في مالي. «أما الرجل فما عدا المتعلمين يبقى الجميع أرقاما متزايدة في طابور العاطلين».. مضيفا: «انتمى بعض الأصدقاء إلى جماعات المتطرّفين، فأصبحوا أغنياء من أموال فديات الرّهائن، أما نحن فنبحث عن الخبز.. لقد طاردناه إلى هنا، لكنّ الحياة ليست سهلة»..
الحياة في وجدة
«قدِمنا إلى وجدة فرادى، فالتقينا بالصدفة ونظمنا أنفسنا في جماعة، نتعاون على مشاق الحياة»، يقول كولي بالي، 25 سنة، خرج منذ 20 دجنبر الماضي من مدينة موبتي قاصدا المغرب. «الحلم ليس هو الاستقرار في المغرب، ولكنْ محاولة المرور إلى أوربا، إذا توفرت الظروف، لكنْ على الأقل أنقذنا الله من الحرب، ونحن الآن في غابة وفي شبه سلام يومي!»..
يصف كيف التقوا ونظّموا أنفسهم في جماعة، قائلا إن عيسى هو الذي لمّ الشمل، «حينما وصلنا إلى المدينة لم يكن أحد يعرف لغتنا رغم حديث بعضنا باللغة الفرنسية، والتقينا صدفة عقب محاولة تشكيل شبكة للتعاون مع بعض المُهاجرين الأفارقة من بلدان أخرى.. كان الكلام مع المهاجرين الأفارقة من جنسيات نيجيرية وغانية وبوركينابية صعبا في البداية، لأنّ بعضهم يتكلمون اللهجات المحلية، وأكثرُهم اللغة الانجليزية، غير أنها كانت البداية للوصول إلى عيسى، الذي جمعَنا في جماعة واحدة وأطلعَنا على الكثير من الأمور التي غابت علينا، خاصة ما يتعلق بالمجتمع المغربي وكيفية التعامل مع السلطات»..
يحترم كولي بالي وزملاؤه عيسى وأخاه الأصغر عبد الله، الذي يترجم، ويعتبرونه أخاهم الأكبر.. حسب العادات المالية، التي تتنفس رياح العروبة والإسلام في كثير من مناحيها، فالأكبر دائما على حق.
في هذا المجمع الصغير هناك مرحاض عارٍ من السقف ومحاط بأغطية متهالكة يصلح للاستجابة لنداء الطبيعة ما عدا قضاء الحاجة الكبرى، التي تتطلب البحث في البراري المُجاورة عن مكان بعيد جدا عن المأوى، حتى لا تنتقل الرائحة، بفعل رطوبة الجو والرياح القوية في الجبل.. بجانب المرحاض الصغير هناك ما يشبه المطبخ، وهو مكان مغطى من فوق، مكشوف من كل الجهات، فيه مكان للطبخ ومكان لوضع الأعواد التي يحصلون عليها بسهولة من الغابة، والعديد من الطناجر وقوارير بلاسيتكية مليئة بالماء وبعض الصّحون.. وفي الأماكن المجاورة للمطبخ سطل ماء وباقي بلاستيك مُمزَّق وحذاء وصدف وسروال بال... ومن كلّ الجوانب حبال مليئة بالثياب المغسولة، التي لا تزال مبللة.
ما يثير الانتباه في مخيم اللاجئين الماليين في وجدة، وفي مناطق أخرى غير بعيدة، في تاوريرت أو الناظور أو غابات أخرى محاذية لبعض المدن الكبرى، كطنجة وتطوان، هو غياب تام للعنصر النسوي.. فكل الجاليات الإفريقية التي اجتاحت المغرب مؤخرا في موجات غير مسبوقة وتقطعت بها السبل في المملكة، بعد تشدّد الإجراءات الأوربية على المهاجرين الأفارقة (كلها) تضمّ أعدادا كبيرة من النساء والفتيات.
يقول اسحاق، وهو شاب في العشرينات من عمره، «نحن ثقافة مختلفة عن بقية الجنسيات، فنحن مسلمون وثقافتنا قريبة من الثقافة العربية»، مضيفا: «المرأة في مالي لا تسافر ولا تهاجر.. الرّجل هو من يفعل». مشيرا إلى أنّ الفئة القليلة التي تهاجر تفعل ذلك إمّا للدراسة أو للعمل وليس هروبا من الوطن، كيفما كانت الظروف.
«يا صاحب الجلالة»..
«هاجمونا في الثالثة صباحا فأخذ منا الرعب كل مأخذ، وشتتونا في كل الجهات وسرق بعضهم هواتفنا المحمولة والمال الذي وجدوه في سراويلنا.. وحتى كوكوتمينوت أخذوها منا»، يقول سانوغو، مضيفا بمرارة بالغة: «الشعب المغربي طيب والبوليس خايبْ، خايبْ بزّافْ»، قالها وكرّرها بعربية مضحكة..
أكد هذا الشاب، الذي قدِم منذ حوالي شهر من مدينة باماكو، أنهم تعرّضوا لغارات الشرطة أكثر من 20 مرة خلال الشهر الماضي.. «يقتحمون علينا الخيمة ويبدؤون في ضربنا، وعندما نهرب في الظلام الدّامس نصطدم بالحجر أو الشجر.. ومن أثر الخوف والرّعب يسقط بعضنا ويُجرحون ويُعتقل البعض الآخر».. يأخذني من يدي ليُريني يد صديق له تكسّرت ولا تزال ملفوفة بالجبس، بعد أن سقط (قبل أسبوعين) في حفرة، هاربا من هراوات «البوليس» الهاجم..
يصرخ إسحاق في استنكار: «ماذا فعلنا لهم؟ نحن لا نسرق ولا نعتدي على أحد... هربنا من الحرب، نريد السلام فقط».. قبل أن يبدأ في وصف الكيفية التي تتم بها المُداهَمات في الصباح الباكر، قال: «يكون الهجوم، غالبا، بين الثالثة والرابعة صباحا، وبشكل يوميّ، حتى بدأتْ جامعة محمد الأول تغلي باحتجاجات الطلبة، حيث استرحنا من مضايقاتهم بعد أن تفرّغوا تماما لإخماد احتجاجات الطلبة.. لكنهم ما إنْ ينتهوا من قمع الطلبة حتى يلتفتوا إلينا، مجدّدا». يقول إسحاق إنّ ذلك كان فظيعا في البداية، «لأننا لم نفهم مَن يعتدي على أناس متشرّدين من أمثالنا، لكنْ بعد ذلك أصبحنا نستسلم لهم.. أصبحوا يعتقلوننا وبعد تحرير المَحاضر وسرقة ما نمتلكه يُطلقون سراحنا، بعد أن يقودونا إلى الحدود، طالبين منا الالتحاق بالجزائر أو الرجوع إلى مالي».. يقفز صديق له (باكايوكو) ويُعقّب: «يطلبون منا أن نركب معهم شاحنة أو سيارة صغيرة ونقطع مسافة 15 كيلومترا، وأحيانا أقل من ذلك، ثم يفكون قيودنا ويطلبون منا الدخول إلى الجزائر.. مضيفا: «أحيانا أخرى، ندخل إلى التراب الجزائري ونلتحق بالغابة مجددا، وفي بعض الأحيان نرجع مشيا على الأقدام بدون أن تطأ أقدامنا الجزائر»..
فتح هذا الموضوع شهية الجميع للحديث عن معاناتهم مع بعض الشّرطة.. قال عيسى: «يعتدي البوليس علينا كثيرا، ولا نفهم سبب كرههم لنا، رغم تعاطف باقي المغاربة مع وضعيتنا كلاجئين ماليين»، متابعا: «تصور أنهم نزعوا عني حذائي، لأنه جيد، من النوع الأوربي.. حصلتُ عليه من الناظور قبل مدة، كما تعرَّضَ بعض الأصدقاء للسرقة نفسها.. أحيانا، يأخذون منا المال أو أي شيء ذا قيمة»..
يرفض عيسى، الذي يمتلك جرأة كبيرة في الحديث عن معاناته مع الشّرطة، السكوت عما سماه «الظلم الذي لو عرفه المغاربة المسلمون لتصدَّوا له».. يسترسل قائلا : «نتعرّض لحملة كبيرة للإساءة إلينا كلاجئين، حيث يُروج البعض أننا فاسدون، أو أننا نأكل القطط والكلاب وباقي ما يُحرّمه عليه ديننا»، ويتابع: «يطلق مثلَ هذه الإشاعات الذين يريدون أن يجدوا مُبرّرات لسرقتنا والاعتداء علينا باستمرار»...
يصرخ عبد الله بكلام غير مفهوم، متوجها لزملائه، ثم بعد مناقشة صاخبة حظي كلامه بقبول كبير، ثم ترجمه لنا، بعد ذلك: «نتوجّه لصاحب الجلالة وللشعب المغربي أن يُحسنا إلينا كلاجئين ماليين.. لا نريد أي شيء... نريد أن تتوقف «غارات» الشّرطة واعتداءاتهم وإحراقُ خيمتنا، ما نضطرّ معه إلى المبيت في العراء كل يوم... نريد أن تتوفر لنا فقط بعض الأدوية وأن نُستقبَل في المستشفيات المغربية كبقية الموطنين المغاربة، فبعضنا يواجهون أمراضا غيرَ معروفة، ولا نتوفر على المال للتوجه إلى المصحّات»..
هي جُملة مطالب، ختمها عيسى بأن قادنا إلى الخيمة، حيث يضطجع صديق لهم، منذ عدة أيام، وهو مريض.. كان ملفوفا في غطاء متهالك، ولمّا أزاله عنه عيسى فتح فمه، ثم عجز عن الكلام، فحرّك يده قليلا، لكنْ عاودته موجة إنهاك غيرِ عادية، فسقط على ظهره واضطجع مرة أخرى.. ألقى عليه عيسى الغطاء مُجدَّدا، قائلا: «منذ حوالي ثلاثة أيام وهو يغلي بالحمّى ويهذي.. اشترينا له بعض الأدوية، غير أنه لم يبْدُ على صحته أيُّ تحسن إلى حد الساعة... قد يكون أولَ من نودعهم في هذا المخيَّم»..

إسحاق كوليبالي -25 سنة -من مدينة موبتي

خرجتُ من مدينة موبتي مع اندلاع الحرب كي أنجو بجلدي. قطعتُ أكثرَ من 4 آلاف كيلومتر.. كنت أدرس الأدب الفرنسي في مالي، لكنْ حينما كنت أنظر إلى ما آلت إليه وضعية بعض أصدقائي ممن حصلوا على الإجازة أجد أنّ الدراسة ليست، دائما، مُجدية.. لقد قطعتُ مسافات طويلة، فسلكت الطريق إلى موريطانيا، ثم عبر الصحراء المغربية وصلنا إلى وجدة، في الأخير. لم أكن أدري أنني سأجد أصدقاء أتقاسم معهم الهمومَ نفسَها. لكنْ في الوقت ذاته تعرّضتُ لخيبة أمل كبيرة، حينما عجزتُ عن إيجاد أي عمل. لن أرجع إلى مالي خاليّ الوفاض، لأنّ ذلك هو العار بعينه في ثقافتنا.. سأبحث -بكل السّبل- عن منفذ إلى أوربا..

سانوغو -26 سنة -من مدينة باماكو

جئتُ إلى المغرب منذ حوالي شهر فقط. لقد توفي كثير من أقاربي خلال القصف الفرنسيّ، وذهب آخرون ضحية للجماعات الإسلامية... كانتْ رحلتي إلى المغرب شاقة جدا، فقد خرجت من مالي إلى بروكينافاصو، ثم النيجر، ودخلت المغرب عبر الجزائر.. كانت معي شابة من النيجر، وتحمّلنا عذابَ الطريق سويا، وقد تركتها في الناظور، ولا أعرف أين هي الآن.. كنا نسأل الناس عن أسهل الطرق ونحاول الابتعاد عن الصحارى، حتى لا نموت جوعا وعطشا..
وجدتُ في المغرب أناسا بثقافتنا نفسِها تقريبا.. تجْمعنا قيم ودين واحد.. الله وحده هو الذي قادنا إلى هذه البلاد. نتمنى فقط من صاحب الجلالة ومن الشعب المغربي أن يوقفوا علينا اعتداءات البوليس، لأنهم يأخذون كلَّ ما نحصل عليه من عطف الناس في شوارع وجدة..

عيسى الأصغر -17سنة -من مدينة غاو

عيسى -الأصغر.. هكذا يلقب هنا في المخيم، لأن هناك عيسى آخر سبقهم إلى المغرب منذ سنوات، فتعلم العربية الفصحى والدارجة، وهو اليوم منسق الملجأ.. قدِم «عيسى الأصغر» إلى المغرب منذ حوالي شهر ونصف. سلك، هو الآخر، طريق موريطانيا، ثم المناطق الجنوبية المغربية، في اتجاه الشمال الشرقي، وحط الرحال في وجدة، حيث أخبره بعض زملائه المهاجرين، من جنسيات افريقية، بتمركّز اللاجئين الماليين في هذه المدينة الحدودية.. قال إن والدته توفيت وخرج من المدرسة، لكنْ لن يقتنع تماما بضرورة الرحيل إلا بعد أن بدأت الحرب الفرنسية على المُتشدّدين الإسلاميين.. هو القائل: «في مالي مَن لا أمَّ له لا وطن له»..

عيسى الأكبر -30 سنة -من باماكو

هوالذي لَمَّ شمل الجماعة. كان في المغرب قبل بداية الحرب، ومع تدفق اللاجئين الماليين على شمال المغرب عمل على تنظيمهم وتجميعهم في تنسيقية واحدة. يساعده أخوه الأصغر (عبد الله) بالترجمة وكل الأمور المرتبطة بالتعامل مع السُّلطات.
اشتكى من اعتداءات الشرطة، وقال إنّ «البوليس «يباغتونا كل صباح باكر، وحينما نهرب يتم الانتقام منا بطريقة سادية، حيث تعرَّضَ زميل لنا للضرب المبرّح».. قال، كذلك، إنه اعتقل في مرات كثيرة وتم تفتيشه وأخْذُ ما لديه من المال، وفي المرة الأخيرة، رجع من الحدود المغربية الجزائرية حافيَّ القدمين، لأنّ أحد عناصر الشرطة أعجبته «جزمته» فأخذها منه. يقول: «نحن مسلمون، حرام أن يقع لنا هذا»..

مامادو -21 سنة -من باماكو

من العناصر الشابة داخل المخيم. خرج، هو أيضا، من باماكو مع صديق له وحاولا الالتفاف على بوليس الحدود والجماعات الإرهابية الناشطة في الصّحراء. قال إنه حينما يتم التعرض لهم في الطريق يقدّمون «رشوة» لشرطة الحدود..
قال، كذلك، إنّ كثيرا من العناصر التي جاءت إلى المغرب تضع في حسبانها إمكانية ارتشاء الشرطة حينما يتم اعتقالهم.. مضيفا أنه اشتغل لمدة طويلة للحصول على 200 أورو تقريبا بغرَض تغطية تكاليف السفر، لأنه كان يعتقد أنّ المال الذي جمعه في مالي سيسترجعه بسرعة في المغرب حينما يحصل على العمل.. اليوم، يمدّ اليد في مواقف السيارات وأمام إشارات المرور في شوارع وجدة..

نامور -27 سنة -من سيكاسو

من سيكاسو إلى موريطانيا، ثم الجزائر، فوجدة.. هو المسار الذي قطعه نامور للوصول إلى المغرب. تحدّثَ عن مشاق السفر، قائلا إن جميع من في المخيم التقوا صدفة في وجدة، متابعا: «نحْنُ جماعة من 90 شخصا.. لم نكن ندري أنّ الحصول على العمل، أيِّ عمل في المغرب، صعب إلى هذه الدرجة، لكنْ والحمد لله، فنحن نتضامن، وكل من يحصل على درهم واحد فهو للجماعة كلها في المخيم»..
يشتكي من الأمراض التي أصابت بعضهم، خاصة عبد الله، الذي يعاني من «تورّمات» غريبة في وجهه. يتأبّط نامور أوراق الطبيب ويقول إنه في كل مرة يقولون له «إنك مصاب بمرض مختلف».. يدعو الأمم المتحدة ومفوضية اللاجئين إلى إنقاذهم من البرد بالأغطية اللازمة ومن الأمراض بالأدوية..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.