مسلسل الدول الإفريقية الأطلسية: وزراء خارجية يشيدون بريادة المغرب للتجسيد الفعلي لهذه المبادرة    بيان ختامي: الاجتماع الوزاري المقبل لمسلسل الدول الإفريقية الأطلسية سينعقد في شتنبر المقبل بنيويورك    أسعار صرف العملات الأجنبية مقابل الدرهم اليوم الجمعة    كيم جونغ يشرف على تدريبات نووية    توقعات أحوال الطقس اليوم الجمعة    السلطات المحلية بفاس: مصرع 9 أشخاص جراء انهيار بناية سكنية من عدة طوابق    الأمم المتحدة-أهداف التنمية المستدامة.. هلال يشارك بنيويورك في رئاسة منتدى المجلس الاقتصادي والاجتماعي للعلوم والتكنولوجيا والابتكار    في ظل استمرار حرب الإبادة في غزة وتصاعب المطالب بوقف التطبيع.. إسرائيل تصادق على اتفاقية النقل البحري مع المغرب    موجة فرح تعم الولايات المتحدة عقب انتخاب أول بابا من أصل أمريكي    8 قتلى و7 جرحى في حادث انهيار منزل من 4 طوابق بفاس    فاجعة..انهيار منزل بفاس من عدة طوابق يخلف ضحايا والبحث جاري عن الناجين تحت الأنقاض    "مؤثِّرات بلا حدود".. من نشر الخصومات الأسرية إلى الترويج للوهم تحت غطاء الشهرة!    سلطات الملحقة الإدارية الثالثة بالجديدة تواصل التضييق على مستغلي الملك العمومي بفضاء الشاطئ    ساكنة دوار المخاطر بجماعة شتوكة تستنكر إقصاءها من مشروع تعبيد الطرق وتطالب بتدخل عامل الإقليم    بالياريا تُطلق رسميًا خط طنجة – طريفة وتكشف موعد تشغيل باخرتين كهربائيتين    عملة "البيتكوين" المشفرة تنتعش وسط العواصف الاقتصادية العالمية    فاس.. انهيار مبنى من ستة طوابق يخلف قتلى وجرحى واستنفاراً واسعاً للسلطات    الزلزولي يهدي بيتيس أول نهائي قاري    عامل إقليم الدريوش يترأس حفل توديع حجاج وحاجات الإقليم الميامين    أوروبا تكشف بضائع أمريكا المعاقبة    المغرب يقود إفريقيا الأطلسية نحو نيويورك    مواجهة حاسمة بين المغرب التطواني وشباب السوالم لتحديد النازل الثاني للقسم الوطني الثاني    اتحاد طنجة يضمن بقاءه في القسم الأول من البطولة الاحترافية    صدام إنجليزي في نهائي الدوري الأوروبي    فتح تحقيق في ممارسات منافية للمنافسة في سوق توريد السردين الصناعي    أسبوع القفطان بمراكش يكرم الحرفيين ويستعرض تنوع الصحراء المغربية    أكاديمية المملكة تتأمل آلة القانون بين الجذور المشرقية والامتدادات المغربية    سعر الذهب يتأثر باتفاق تجاري جديد    لقاح ثوري للأنفلونزا من علماء الصين: حماية شاملة بدون إبر    الشعر الحساني النسائي حاضر في فعاليات الدورة ال18 لموسم طانطان 2025    في عيد ميلاده الثاني والعشرين: تهانينا الحارة للأمير مولاي الحسن    وزير الأوقاف المغربي يقيم مأدبة غداء تكريما لوزير الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد بالمملكة    انتخاب الكاردينال الأمريكي بريفوست بابا جديدًا للفاتيكان    المستشارون يدعون إلى تعديل خريطة الاختصاصات بين المركز والجهات    وزير التشغيل والكفاءات يكشف إجراءات تفعيل العمل عن بعد بالمغرب    مكتب السياحة يسعى للحصول على تصنيف "China Ready" لاستقطاب السياح الصينيين    كرة القدم داخل القاعة لأقل من 19 سنة.. المنتخب المغربي يتعادل مع نظيره الإسباني (6-6)    "الأحمر" ينهي تداولات بورصة البيضاء        أتاي مهاجر".. سفير الشاي المغربي يواصل تألقه في "معرض ميلانو" ويعتلي عرش الضيافة الأصيلة    الأميرة للا حسناء تقيم بباكو حفل شاي على شرف شخصيات نسائية أذربيجانية من عالم الثقافة والفنون    «أول مرة»… مصطفى عليوة يطلق عرضه الكوميدي الأول ويعد الجمهور بليلة استثنائية من الضحك    البرلمان يناقش رئيس الحكومة حول إصلاح وتطوير المنظومة التعليمية    أشرف حكيمي يدوّن اسمه في التاريخ ويصبح المدافع الأكثر تأثيرًا هجوميًا بدوري الأبطال    أبريل 2025 ثاني أكثر الشهور حرارة عالميا    وداديون يحتفون بحلول الذكرى ال88 لتأسيس النادي    منصات المخزون والاحتياطات الأولية.. بنيات جهوية موجهة للنشر السريع للإغاثة في حال وقوع كوارث    الصين توقف استيراد الدواجن من المغرب بعد رصد تفشي مرض نيوكاسل    السيد ماهر مقابلة نموذج رياضي مشرف للناشطين في المجال الإنساني    الغربة والذياب الجائعة: بين المتوسط والشراسة    فنانون مغاربة يباركون للأمير مولاي الحسن عيد ميلاده ال22    لهذا السبب .. الأقراص الفوّارة غير مناسبة لمرضى ارتفاع ضغط الدم    دراسة علمية تكشف قدرة التين المغربي على الوقاية من السرطان وأمراض القلب    تشتت الانتباه لدى الأطفال…يستوجب وعيا وتشخيصا مبكرا    إرشادات طبية تقدمها الممرضة عربية بن الصغير في حفل توديع حجاج الناظور    كلمة وزير الصحة في حفل استقبال أعضاء البعثة الصحية    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد سلام أمزيان.. «والدي كما سمعت عنه وعرفته»
نشر في المساء يوم 08 - 04 - 2013

ولما تضافرت جهود المُستعمرين، الفرنسي والإسباني، على المقاومة الرّيفية وحرب تحريرها، وبدأت القوات الإسبانية تكتسح مجالات الرّيف وقراه ودواويره بقنبلتها، وأهاليها،
بما تفتّقت عنه عبقرية آلتها العسكرية من مختلف آليات الدّمار الشامل، جوا وبرا وحتى بحرا، وُلد ميس ن رحاج سلام أمزيان، وهو الابن البكر، في بيت متواضع كباقي بيوتات الريف وأيث ورياغل عموما، وأيث بوخرف خاصة، وكان ذلك حوالي 1925 تقريبا، حسب رواية والدته، جدتي، التي وافتها المنية عامين بعد تأبينه عن سن تناهز 110 سنوات.. ذلك أنّ سجلات الحالة المدنية آنذاك لم تكن مُتداوَلة، وبالتالي فتواريخ الازدياد كانت تُضبَط بالأحداث والوقائع التاريخية والكوارث الطبيعية والاجتماعية الهامّة، كحدث الهجوم المخزنيّ على إبقوين بقيادة بوشتى البغدادي أو انتكاسة بوحمارة في الريف (عام إيسمغ) أو ملاحم ادهار أبران وإغريبن وأنوال، أو الإنزال الإمبريالي بشاطئ إجداين وصباذيا، أو عام ن جوع أو عام إقبان -عام ن تفاضيسث أو عام الزلزال أو الفيضان..
احتضنه مسجد القرية، كباقي أقرانه وأترابه، لكنه كان متفوقا عنهم بذكائه وبديهيته، حيث تمكّنَ من حفظ القرآن الكريم في سنّ مبكرة، لينتقل بعد ذلك بين بعض مساجد الرّيف، التي كانت تُدرَّس فيها مختلف العلوم الدينية والمُتون.. كما التحق بجبالة، لتلقي كتب المُصنَّفات، وهي العلوم الأساسية التي كان يتلقاها طلبة العلم في ذلك الزمان. غير أن كلّ ما استطاع أن يكتسبه في رحلته الدّراسية التعلمية هذه لم يُشبع فضوله العلميَّ، لذا حينما تأسّس المعهد الأصيل أو الديني في مدينة الحسيمة كان من بين الأوائل الذين التحقوا به، وسنه لا تتعدّى العشرين (أكتوبر 1944) فأقبل على الدراسة بنَهَم. وفي هدا الإطار، يذكر بعض زملائه أنه كان شغوفا بالدراسة، ميالا إلى الرياضيات وعلوم الفلك التي تلقاها على أساتذة أجلاء من الرّيف، أمثال القاضي سي محند أوزيان والفقيه طحطاح، الذي كانت له شهرة واسعة في الحساب والرياضيات والفلك، وهذا الأخير هو الذي شجعه على الانتقال إلى جامعة القرويين لاستكمال دراساته على علماء أجلاء، وهي الجامعة التي تخرَّجَ منها بشهادة «العالمية».
وبديهي أنّ هذه السنوات الأولى من عمره، والتي قضاها بين تلقي القرآن والعلوم المرتبطة به وعلوم أخرى، هي أيضا سنوات التعرّف، وعن كثب، على أقرب حدث تاريخيّ شهده الرّيف، ألا وهو ثورة الريف التحريرية، بزعامة محمد بن عبد الكريم الخطابي.. وسيدفعه هذا العامل إلى السّعي إلى محاولة فهم مُجرَيات تلك الوقائع التاريخية، لاسيما أنّ الكثير ممن شاركوا وأسهموا فيها كانوا ما يزالون على قيد الحياة، كوالده وعمه القائد حدو وآخرين كثر، يلتقي بهم في الأسواق والمساجد، ليسمع منهم قصص وجولات بطولاتهم.. وهكذا بدأ يتكون لديه الوعي بأهمية التاريخ وبحُبّ الوطن، وهو الوعي الذي سيتعمّق وسيترسّخ لديه حينما التحق بفاس، حيث سيزداد لديه الوعي السياسي والإحساس بالواجب وبضرورة التصدّي لِما يُهدّد كيان المجتمع ومكونات هويته من الأخطار.. فما هي الظروف التاريخية التي حلّ فيها بفاس، المدينة العلمية، بجامعتها القرويين، قِبلةِ طلاب العلم من مختلف الجهات؟
إنها سنوات الأربعينيات من القرن العشرين، سنوات حبلى بوقائع تاريخية كان لها انعكاس كبير على المستقبل السياسي للمغرب، بل وللعالم أجمع. وإذا أخذنا بعين الاعتبار هذه الظرفية التاريخية، أدركنا مدى الأثر الذي خلّفه التواجد بهذه المدينة في الشخصية السياسية للمرحوم، والدنا، ميس ن رحاج سلام.. إنها فترة الحرب العالمية الثانية، التي أوشكت على النهاية، مرحلة خضوع فرنسا للاحتلال الألماني، مرحلة تغيُّر المَطالب السياسية لقيادات الحركة الوطنية، التي انفصلت وكوّنت حزب الاستقلال وحزب الشورى والاستقلال، ثم الحزب الشيوعي، بعد مغربته، فترة تقديم وثيقة الاستقلال، فترة تنافس بين هذه المكونات الحزبية حول اكتساب المشروعية وتوسيع القواعد، فترة البحث عن سبل وآليات تحقيق استقلال البلاد وتحريرها من الاستعمار.. فترة غليان المُستعمرات وتدهور مكانة وهيبة المستعمر، زمن ظهور هيئة الأمم المتحدة والجامعة العربية، بمواثيقهما حول السِّلم العالمي وأحقية الشعوب في تقرير مصيرها، وكذا بروز سياسة الساتياكراها لغاندي في مواجهته الاستعمار الإنجليزي. والأكثر من ذلك هي فترة نزول الأمير عبد الكريم الخطابي بالقاهرة، وما كان لذلك من تأثير ووقع على التواقين إلى التحرّر من الاستعمار الجاثم على العقول والقلوب.
يورد الوالد في إحدى رسائله، التي أرسلها إلي وأورَدَها المرحوم الحاج أحمد معنينو في الجزء السادس من مذكراته (ص. 93-94) ما يلي:
«بسم الله الرحمن الرحيم
ولدي جمال..
تعال معي الآن إلى لَون آخرَ من الوطنية، ولون جديد من رجال هذه الوطنية (...) تعرّفت على الحاج أحمد معنينو في فاس، بعد الحرب العالمية الثانية بثلاث سنوات... بمناسبة زيارته لعاصمة العلم ومدينة القرويين... كنا في هذه الفترة طلاب هذه القرويين، وكنا أيضا الشباب الواعي لواجبه الوطني بالاقتناع، وكنا نعيش الصّراعَ المُفتعَلَ بين الزّعامات السياسية، لا الوطنية...
الحقيقة، يا ولدي، أننا في هذه الفترة كنا في قمّة النشاط الوطني، ويحق للقرويين أن تسجل هذه الفترة على أنها الأوج في هذا النشاط.. وبعده تهاوت هي الأخرى وسقطت تحت المغولية السياسية والعلمية والحزبية والاستعمارية»...
من فاس التحق بقرية با محمد للتدريس، ثم بطنجة وتطوان. وهكذا، ففي مستهلّ أكتوبر 1955 انضمّ محمد الحاج سلام أمزيان إلى جيش التحرير، حيث كان يجتمع مع الأشخاص الذين كان عبد الكريم الخطابي يُرسلهم إلى الرّيف لربط الاتصال بما تبقى من جنوده في العشرينيات. ومن أجل هذا المبتغى وتمويه عيون الإسبان، الذين سجّلوه في تقاريهم كرجل «خطر»، قام ببناء بيت قرب سوق أربعاء توريرت قبيل بدء العمليات العسكرية لجيش التحرير، ووضعه تحت تصرّف هذا الجيش، وموفرا له كل ما بوسعه توفيره من دعم لوجيستيكي، ماديا ومعنويا، بحكم موقع السوق على الحدود بين منطقتي الاحتلال الإسباني والفرنسي..
وبعد الإعلان عن الاستقلال ورفض قيادة جيش التحرير إلقاء السلاح حتى يتم التحرر الكلي والشامل، بدأت التحالفات والمناورات من أجل تفكيكه وتصفية قياداته ومنها عباس المسعدي، إلى جانب تصفية مناضلي الأحزاب السياسية المعارضة والتي كان الشمال مسرحا لها. أمام هذا الوضع تشكل وفد من سكان الشمال، ومنهم والدنا، لعرض صورة هذا الوضع أمام الملك الراحل محمد الخامس ورئيس الحكومة السيد مبارك البكاي، والذي طلب منه رفع تقاريرَ مُفصَّلة عن الأوضاع في شمال المغرب وعن سياسة الإدارة تجاه السكان، والتي كان جُلّ موظفيها لا يتقنون اللغة المحلية ومُنتمين إلى حزب سياسي يسعى إلى الانفراد بالحكم. وفعلا، قام برفع عِدّة تقاريرَ إلى الحكومة، رغبة منه في لفت أنظارها إلى مسلسل التصفيات والاختطافات والانتهاكات التي يتعرّض لها الأبرياء، محذرا من انزلاقات أعوان الإدارة ومن النتائج التي لا تُحمد عقباها إذا استمر الأمر على ما هو عليه، وهذا ما لم يرُقْ مديرَ الأمن الوطني، الذي أمر باعتقاله لإسكات صوته..
وفي هذا السياق أورد نموذجا من التقارير المُوجَّهة إلى رئاسة الحكومة المغربية بتاريخ 10 أكتوبر 1956، نُشِر، في فترة سابقة، في جريدة «الغد» (عدد 2، سنة 1995) يقول فيه:
«فالحقيقة المُرّة التي تحُزّ في قلوبنا وتفتت آمالنا هنا هي الإهمال الفظيع الذي تمارسونه تجاه معالجة الموقف في هذه المنطقة المُهدَّدة بالتخريب (...) فلماذا هذا الإهمال؟
نستغيث لا لضعفٍ ولا لجُبن، وإنما للمحافظة على الوحدة الوطنية كي نصمد جميعا أمام العدو الأجنبي المُهيمن، بجيشه ومخابراته، على القضية المُقدَّسة».
وفعلا، سيتم اعتقاله بتطوان في أواخر 1956، مع نية مُبيَّتة لتصفيته جسديا.. ثم نقل إلى سجن الحسيمة، حيث مكث حوالي سنة كاملة في زنزانة انفرادية، لينقل بعد ذلك إلى سجن لعلو في الرباط، ثم إلى السجن المركزي بالقنيطرة. وفي شتاء 1958، أفرجت عنه المحكمة مؤقتا، مع فرض الإقامة الجبرية عليه في الرباط وسلا، وألا يعود إلى الرّيف..
لكنْ، تجري الرّياحُ بما لا تشتهيه السّفن.. فبعد أشهر، ومع حلول شهر يونيو من السنةِ نفسِها، عاد إلى الرّيف، حيث بدأ يتقاطر على منزله، في قرية آيتْ بوخرف، أبناءُ الرّيف لتهنئته بالنجاة من موت كاد أن يكون مُحققا، وكذا للتعبير له عن موقفهم الرّافض سياسة الإدارة المخزنية وعقليتها وطريقة تدبيرها، وهذا ما لم يرُقْ عاملَ الإقليم، منصور الحاج، الذي واصل ضغوطه على السكان واستفزازته لهم. وبذلك أضحت الظروف مُهيَّأة للتذمّر العلنيّ، فعمّ الاقتناع بأنّ المواجهة لا مفرَّ منها للدفاع عن تحقيق الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية.
وبعد ما آلت الأمور إلى ما آلت إليه وألبس قميص عثمان، التحق بمليلية بعد رحلة شاقة من الأهوال، ثم ألميريا. ومن هناك أبحر إلى القاهرة، حيث وجد مثلَه الأعلى الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، فلازمه إلى أن وافت الأميرَ المنية. ومع بداية السبعينيات، انتقل إلى الجزائر، ومنها إلى هولندا سنة 1981 كنقطة استراحة، ليواصل الطريق إلى العراق. وكانت وفاته بمدينة أوتريخت في هولندا يوم 09-09-1995 بعد مرض عُضال، ووري جثمانه بالقرية التي ولد فيها يوم 16-09-1995، حيث ما زال قبره.
الإنتاج الفكري
يُعدّ محمد الحاج سلام موح موح أمزيان من القلائل من أبناء الرّيف الذين كرّسوا حياتهم للتكوين الذاتي واكتساب المعرفة، مُبحرين في مختلف العلوم، ولاسيما الرياضيات وعلم الفلك والتوقيت، ثم التاريخ السياسي للبلاد الإسلامية عموما، وغربها خاصة، ثم المغرب المعاصر. هذه الملكة، أي القراءة والتأليف التي لا يمَلّ منها ولا يكل، جُبِل عليها منذ الصّغر، ويؤكد ذلك كل الذين عرفوه، كان يُعتبر من الأوائل الذين أدخلوا آلة الكتابة وجهاز الرّاديو إلى الريف، واللذين كانا يرافقانه أينما حلّ وارتحل لتدوين ملاحظاته ويومياته واستنتاجاته عن الرّيف وأهله، اقتصاديا وسياسيا وثقافيا وتاريخيا، وكذا روايات معاصري ومرافقي وقادة وجنود الأمير، وتتبع أخبار الحركات التحررية في كل أرجاء المُستعمَرات.. ساعدته هذه المرجعيات على اكتساب ثقافة ومعرفة ودراية واسعة بالرّيف حتى أنني دهشت حينما كان يسألني لمّا التقيت به في ظروف سابقة لوفاته عن بعض المواقع والأشخاص والعادات والمَسالك.. لقد كان قويَّ الإيمان العزيمة والإرادة والشكيمة والشخصية، ومنها كان يستمدّ طاقته.
حينما حلّ بقاهرة المُعزّ، بجانب الأمير، أجلسه إلى جواره واعتبره كاتبَ وأمينَ سرّه. ولمّا توفي الأمير، وبحكم بُعد الأسرة وانقطاع أخبارها عنه، اعتكف وتفرَّغَ للكتابة التي اهتمّت بالتاريخ والسياسة والفلك، بأسلوب فيه نوع من الدعابة والبساطة والتهكّم أحيانا. يقول، مثلا، مُخاطِباً التاريخ:
«أيها التاريخ.. إنك تستحقّ كلَّ ما في الكون من رثاء.. فكم تحتوي في جوفك من صعاليكَ، فيهم كل بذاءات السّلوك والأفكار والمَشاعر؟»..
ويقول: «إذا خان مؤرّخونا أمانة التاريخ ولو يقولوا شيئا عن مملكة النكور ولا عن مدينة النكور، التي دمّرتها الخيانة ولم ترحم حتى مقابرَها، فتكتْ بالأحياء وانتقمت من الأموات الشّهداء، في عمليات همجية متتالية لا مثيل لها حتى حملات المَغول.. فلا يعني ذلك أننا سنصمت أو نعايش السّاكتين عن الحق في انتظار الموت على مذبح الطغاة.. وإذا انتهكوا قدسية حرمة تراثنا حتى من خلال العبارات التي اختلسوها من مخلفات المُؤرّخين الأجانب، كما فعلوا بمملكة البورغواطيين الدّستورية... فإننا لا نُكرّس المأساة أو ننتظر المزيدَ من البَلاء...
وإذا كان هناك من يقول إنّ البحث عن الماضي يعني الفضول ولا يُثير الاهتمام ولا يحلّ المشكل السياسي الاقتصادي العلمي الثقافي الاجتماعي، فأنا هنا لا أنبش الماضي رغبة في النّبش، بل لأنّ هذا الماضي عطاء دائم نحتاج إليه في كل وقت وعصر، إنه كتابُ إرشاد وترشيد، يُفيدنا بإحياء الأمل فينا بأنّ لنا جذورا في الوُجود ولسنا أوراقا مقطوعة من شجرة مجهولة.. إنّ أصحاب هذا القول يحاولون أن يجعلوا منا أشباهَ يتامى ضائعين، إنهم من مدرسة مُؤرّخي الأحزان الذين كان عليهم أن يشهدوا للحقيقة لا أن يكونوا عليها شهودَ زور، فخانوا أنفسهم ولله في خلقه شؤون»..
ومن مؤلفاته غير المنشورة، نذكر على سبيل المثال لا الحصر:
-مملكة النكور بالشمال المغربي،
-البورغواطيون،
-موسى بن أبي العافية المكناسي،
-قصة عبد الكريم الخطابي في المنفى،
-قصة نزول عبد الكريم الخطابي في القاهرة،
-قصة عبد الكريم الخطابي مع لجنة تحرير المغرب العربي،
-نشأة الخطابي وشبابه،
-الخطابي رجُل حرب،
-الخطابي رجل دولة،
-الخطابي: آراؤه وأفكاره.
لكن الفاقة التي لازمته وبساطة عيشه وأنافته دفعته إلى تلخيص الكتب الأخيرة في كتاب واحد تحت اسم «عبد الكريم الخطابي وحرب الريف» (مطبعة المدني، 1971) والذي يقول فيه عن الخطابي:
«ولد في أحضان قلق شعبيّ، إذا عرفنا أنّ الانسلاخ من الجنسية كان ظاهرة مُميزة لذلك العهد، حيث انتشرت الحماية الأجنبية، التي كانت تعني حماية الصديق والخادم وخادم الخادم وكلب المحميّ وكلب الخادم والجار وجار الجار وكلابهم.. عملا بالنصّ الوارد في بنود الامتيازات (حق المخالطة) الذي كان فتنة ظهر أثرها في الاضطرابات، التي تطورت إلى حروب أهلية، غذاها قناصلُ الدول، مانحة هذه الامتيازات..
شب في هستيريا استعمارية.. عاش في تطوان طالب علم.. فكانت له فرصة للوقوف على ما يسميه في مذكراته «المتناقضات المغربية»، من حيث الولاء المزدوج والتخاذل والانحلال، ثم التّزمّت والجهل والاستسلام لِمَا كانوا يُطلقون عليه القضاء والقدَر، وبعد ذلك انتقل إلى فاس، يتابع دراسته في جامعة القرويين..، فاستطاع -كما يقول- أن يقف على الأوضاع الفاسدة والفوضى السائدة والاستسلام للقضاء والقدَر».
وعن انتفاضة الرّيف يقول: «ما قمتُ به لم يكن تمرُّداً عشوائيا لغرَض ذاتيّ أو جهوي.. وإنما تمرُّداً على الوجود الأجنبيّظ، وطالبته بالجلاء لتُترجَم كلمة الاستقلال إلى معناها الحقيقي في الإدارة الوطنية على الأقل».
ويضيف: «طيلة سنوات نفيي، وهي الآن تقترب من 35 سنة، تمسّكتُ بحُبّ وطني بالإيمان المطلق، فرفضتُ الإغراءات وقاومتُ كلّ مُحاوَلات الانتهازيين، من مغاربة وعرب وأجانب... وحرصت على عدم الظهور في أسواق الدعاية المَخفية من صحافة ونشر وتصريح ولقاءات «التهافتات» البهلوانية بشعار المُعارَضة التقدّمية أو الرّجعية، واتجهتُ لدعم ذاتيّ وفكريّ بالعلم والمعرفة، من خلال معظم المكتوب والمنشور على مستوى العالم، وخاصة تراثنا العربيّ الإسلامي، وهذا ميدانِي الذي أجد فيه نفسي وقوة تحمّلي للمعاناة، وما أقساها في دنيا الضلال»..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.