هشام العلوي: استفحال اقتصاد الريع في المغرب ناتج عن هشاشة سيادة القانون والنظام يخشى الإصلاح الاقتصادي الجوهري (فيديو)    لاعبو بركان يتدربون في المطار بالجزائر    دراسات لإنجاز "كورنيش" بشاطئ سواني    أمن مراكش يوقف شقيقين بشبهة النصب    ندوة تلامس السياق في الكتابات الصوفية    ما الذي قاله هشام الدكيك عقب تأهل المغرب المستحق إلى كأس العالم؟    بانتصار ساحق على ليبيا.. المغرب يبلغ نهائي كأس إفريقيا لكرة القدم داخل القاعة ويضمن التأهل للمونديال    المغرب يسعى لاستقطاب مليون سائح أمريكي سنويا    إعلام عبري.. نتنياهو صرخ في وجه وزيرة خارجية ألمانيا: نحن لسنا مثل النازيين الذين أنتجوا صورًا مزيفة لواقع مصطنع    إطلاق الرصاص لتوقيف شخص عرّض أمن المواطنين وسلامة موظفي الشرطة لاعتداء جدي ووشيك باستعمال السلاح الأبيض    المكسيك – موجة حر.. ضربات الشمس تتسبب في وفاة شخص وإصابة العشرات    طقس السبت.. أمطار رعدية ورياح قوية بهذه المناطق من المغرب    نقابة: نسبة إضراب موظفي كتابة الضبط في دائرة آسفي فاقت 89% رغم تعرضهم للتهديدات    طلبة الصيدلة يرفضون "السنة البيضاء"    الجدارمية د گرسيف حجزوا 800 قرعة ديال الشراب فدار گراب بمنطقة حرشة غراس    العرض السياحي بإقليم وزان يتعزز بافتتاح وحدة فندقية مصنفة في فئة 4 نجوم    وزير الفلاحة المالي يشيد بتقدم المغرب في تدبير المياه والسدود    مسؤول بلجيكي : المغرب وبلجيكا يوحدهما ماض وحاضر ومستقبل مشترك    صلاح السعدني .. رحيل "عمدة الفن المصري"    المغرب وروسيا يعززان التعاون القضائي بتوقيع مذكرة تفاهم    وزارة التجهيز والماء تهيب بمستعملي الطرق توخي الحيطة والحذر بسبب هبوب رياح قوية وتطاير الغبار    الأمثال العامية بتطوان... (577)    تسجيل حالة وفاة و11 إصابات جديدة بفيروس كورونا خلال الأسبوع الماضي    المعرض الدولي للكتاب.. بنسعيد: نعمل على ملائمة أسعار الكتاب مع جيوب المغاربة    خاص..الاتحاد ربح الحركة فرئاسة لجن العدل والتشريع وها علاش الاغلبية غاتصوت على باعزيز    ها أول تعليق رسمي ديال إيران على "الهجوم الإسرائيلي"    الوكيل العام يثبت جريمة الاتجار بالبشر في ملف التازي وينفي التحامل ضده    "لارام" و"سافران" تعززان شراكتهما في صيانة محركات الطائرات    مؤشر ثقة الأسر المغربية في وضعها المالي يتحسن.. وآراء متشائمة في القدرة على الادخار    تعرض الدولي المغربي نايف أكرد للإصابة    بورصة الدار البيضاء تفتتح التداولات بارتفاع    "إعلان الرباط" يدعو إلى تحسين إدارة تدفقات الهجرة بإفريقيا    مجلس النواب يعقد جلسة لاستكمال هياكله    ارتفاع كبير في أسعار النفط والذهب عقب الهجوم على إيران    موعد الجولة ال27 من البطولة ومؤجل الكأس    طوق أمني حول قنصلية إيران في باريس    المكتب التنفيذي ل"الكاف" يجدد دعمه لملف ترشيح المغرب وإسبانيا والبرتغال لتنظيم مونديال 2030    بسبب فيتو أمريكي: مجلس الأمن يفشل في إقرار العضوية الكاملة لفلسطين في الأمم المتحدة    "ميتا" طلقات مساعد الذكاء الاصطناعي المجاني فمنصاتها للتواصل الاجتماعي    صورة تجمع بين "ديزي دروس" وطوطو"..هل هي بداية تعاون فني بينهما    منظمة الصحة تعتمد لقاحا فمويا جديدا ضد الكوليرا    التراث المغربي بين النص القانوني والواقع    باستثناء الزيادة.. نقابي يستبعد توصل رجال ونساء التعليم بمستحقاتهم نهاية أبريل    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الجمعة    السودان..تسجيل 391 حالة وفاة بسبب الاصابة بمرضي الكوليرا وحمى الضنك    أخْطر المُسَيَّرات من البشر !    ورشة في تقنيات الكتابة القصصية بثانوية الشريف الرضي الإعدادية بجماعة عرباوة    مهرجان خريبكة الدولي يسائل الجمالية في السينما الإفريقية    ضربات تستهدف إيران وإسرائيل تلتزم الصمت    الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم يطالب بفرض عقوبات على الأندية الإسرائيلية    بيضا: أرشيف المغرب يتقدم ببطء شديد .. والتطوير يحتاج إرادة سياسية    نصف نهائي "الفوتسال" بشبابيك مغلقة    "قط مسعور" يثير الرعب بأحد أحياء أيت ملول (فيديو)    الانتقاد يطال "نستله" بسبب إضافة السكر إلى أغذية الأطفال    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (6)    الأمثال العامية بتطوان... (575)    هاشم البسطاوي يعلق على انهيار "ولد الشينوية" خلال أداء العمرة (فيديوهات)    خطيب ايت ملول خطب باسم امير المؤمنين لتنتقد امير المؤمنين بحالو بحال ابو مسلم الخرساني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مغرب ما قبل الحماية بعيون أمريكية
نصف قرن من المخاض الصعب الذي مهد الشروط الموضوعية للحماية
نشر في المساء يوم 24 - 11 - 2013

حمل المؤرخ الأمريكي، إدموند بورغ، على عاتقه مهمة لم تكن سهلة في النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي، في ضوء غياب الوثائق وفقر الكتابات التاريخية، وهي البحث في جذور المقاومة والاحتجاج بالمغرب، خلال المرحلة ما بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، الموضوع الذي لم يطرقه أحد إلا على شذرات متفرقة في بطون الكتب الفرنسية، التي تعرضت لتلك الحقبة العصيبة من تاريخ المغرب الحديث. الكتابات الأوروبية، وخاصة منها الفرنسية، حول القضية المغربية خلال تلك الفترة، تشبه»وجهة نظر» أكثر مما تقترب من شروط التأريخ الموضوعي للأحداث، بسبب النزعة الكولونيالية وعدم وجود المسافة الضرورية بين الذات والموضوع. هذا هو حكم بورغ على تلك الكتابات التي يعتبر أنها»رؤية للأحداث» أكثر من كونها تسجيلا لما وقع. يدرس بورغ واقع المغرب الحديث في حقبة قلما تعرض لها الدارسون، وهي حقبة ما قبل الحماية. ذلك أن جل الدراسات التي تطرقت إلى المغرب فعلت ذلك من منظور واقعة الحماية، ووقفت عند ما ترتب عنها في النسيج الاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي للبلاد، وحتى الدراسات التي حاولت أن تتعرض للواقع المغربي في مرحلة ما قبل الحماية الفرنسية فعلت ذلك من خلال منظور غرائبي وصفي لم يرق إلى وصف الأحداث والربط فيما بينها والخروج باستنتاجات علمية، يمكن اعتبارها أرضية لمنهج علمي في دراسة الواقع الاجتماعي والسياسي للمغرب. في هذا الملف نحاول التعرف على بعض ما نقله المؤرخ الأمريكي عن الواقع المغربي في الفترة ما بين 1860 و1912، أي حوالي نصف قرن من المخاض الصعب، الذي مهد الشروط الموضوعية للحماية، وخاصة ما يتعلق منها بالإصلاح الذي طبعه التردد في المغرب منذ ذلك التاريخ.
لو كان المجتمع القروي في المغرب مهيكلا جيدا من الناحية الداخلية وفق الحدود التي ترسمها القبائل، لكانت هذه القبائل قد تحولت إلى قبائل ضمن إطار دولة إسلامية بيروقراطية منظمة، شبيهة بما كانت عليه الإمبراطوريات الإسلامية الكبرى في الشرق العربي. لكن ذلك لم يحصل بسبب التحولات التي كانت تحدث في العلاقة بين السلطان والقبائل. لقد كان السلطان يستمد نفوذه أساسا من هيبته الشخصية والدينية بوصفه حفيد الرسول صلى الله عليه وسلم، وبكونه يرأس الجهاز البيروقراطي المعروف ب»المخزن»، وعندما يكون السلطان قويا يكون بإمكانه فرض سلطته على معظم قبائل السهول وبعض قبائل الجبال وأخذ جبايات منها، أما عندما يكون ضعيفا فإن القبائل ترفض أداء أقل قدر من الجبايات يمكن أن تفرض
عليها.
كانت الدولة المغربية توصف بأنها مقسمة إلى منطقتين: بلاد المخزن، وهي المنطقة التي تسيطر عليها الحكومة المركزية وتستخلص منها الجبايات، وتحكم من قبل القياد، ويحترم فيها القانون، وبلاد السيبة، وهي المنطقة التي تكون السلطة المركزية عاجزة عن السيطرة عليها، حيث توجد قبائل صعبة المراس تكرس جهدها للصراع فيما بينها وفي أعمال النهب.
وتستمد مشروعية السلطان من قدرته على القيام بالواجبات الكبرى الملقاة على عاتق أي حاكم مسلم: أي حماية أرض الإسلام من الاعتداءات الخارجية، والحكم بالعدل، أي الحكم حسب الشريعة الإسلامية.
توزيع الوظائف داخل الجهاز المخزني كان يسير وفق نفس الخطوط العتيقة التي كان معمولا بها في أنظمة القرون الوسطى. فقد كان هناك العلاف الكبير، صاحب الفراش وما إلى ذلك، كما كان هناك مجلس وزاري، بيد أنه كان بدائيا في اشتغاله وينقصه تحديد المهام والمساطر المحددة والمعايير الموضوعية التي تضبط أعماله. فالسلاطين كانوا يميلون إلى تعيين المسؤولين من بين أسر قبائل الجيش النافذة التي كانت قد منحت امتيازات ومواقع متميزة في الماضي. أما قبائل الجيش الأقل أهمية فكان يخول لها القيام بخدمات ظرفية في الشمال وجهات أخرى من المغرب. أما في البوادي فقد كان النظام المعمول به بدائيا وغير ملائم، إذ كان القياد يجري اختيارهم من طرف القبائل نفسها، سواء كان تعيينهم يأتي من السلطان أو كان من اقتراح جماعة القبيلة. وفي كلتا الحالتين كان على القياد تملك القوة، وإلا ظلت أوامرهم رمزية فحسب.
التعليم.. عقبة أمام الإصلاح
في الوقت الذي أراد المغرب الانخراط في سياسة الإصلاح، شكل التعليم عقبة أمامه. كان مجال التعليم أحد القطاعات الرئيسية في الإمبراطورية العثمانية الذي انبثقت عنه نخبة ذات فكر إصلاحي خلال القرن التاسع عشر. وعلى النقيض من ذلك لم تعط في المغرب سوى أهمية قليلة لتغيير تعليم النخبة. ففي غياب مناخ ثقافي مساعد، كانت الأعداد القليلة من الشباب المغربي الذين تعلموا في الخارج تضعف هممهم وسرعان ما ينسون ما تعلموه بعد عودتهم إلى بلدهم. مع الإشارة إلى أنه لم تكن هناك حركة ترجمة في المغرب. أما النظام التعليمي فقد ظل تقليديا يركز على التكوين الديني الإسلامي بالاعتماد على حفظ النصوص المقدسة واستظهارها. وحتى جامعة القرويين التي ظلت محافظة على بعض حيويتها الفكرية، كانت قد ودعت منذ زمن طويل عهد فتراتها الزاهرة. أما عن الدلائل التي تشير إلى تأثير الفكر الغربي فمن الصعب العثور عليها.
لقد كانت قد تأسست في عهد السلطان محمد بن عبد الرحمان بمدينة فاس شبه أكاديمية إدارية لتكوين موظفين يكونون مؤهلين للخدمة في المخزن الخاضع للإصلاح، إذ كانت مدرسة المخزن هذه هي الجهد الوحيد الذي بذل في سبيل وضع تعليم خارج النطاق التقليدي، إلا أنها لم تكن توفر لطلبتها سوى تكوين أولي في الموضوعات العلمية ولم تنتج شريحة متميزة بأفكار عصرية ضمن النخبة المغربية، الأمر الذي أدى إلى فشل سياسة الإصلاح.
توات تقتل مبعوث السلطان
منذ نهاية القرن التاسع عشر بدأت الدوائر الفرنسية في الجزائر تبدي اهتماما كبيرا بالتوسع في الجنوب المغربي، وكانت تطرح بين الحين والآخر مخططات لمد خطوط حديدية عابرة للصحراء. وفي 1890، على عهد المولى الحسن الأول، بدأت الاهتمامات تتركز على مجمع واحات توات ووادي الساورة، وأصبحت توات هدفا للتوسع الفرنسي. وفي محاولة لإنقاذ الوضع في الصحراء أرسل السلطان المولى عبد العزيز الذي تولى الحكم بعد وفاة والده عام 1894 مبعوثا إلى فرنسا هو محمد بن موسى، لمعالجة القضية بشكل مباشر مع السلطات الفرنسية، لكن الحكومة الفرنسية ردت عليه بلباقة بأنه إذا كانت الحكومة المغربية تريد مناقشة»ادعاءاتها» الترابية في الصحراء فإن ذلك لن يكون مع الحكومة المركزية في باريس بل مع المسؤولين الفرنسيين في الجزائر.
وفي عام 1900 بلغت إلى مراكش أنباء عن دخول فيلق عسكري فرنسي إلى منطقة توات وعن سقوط جميع واحاتها بيد الفرنسيين. وكرد فعل طلبت القبائل الواقعة بين فكيك وتافيلالت من المخزن إرسال حملات فورية للثأر من الفرنسيين، لكن الوزير الأعظم باحماد فضل اختيار القنوات الديبلوماسية لمعالجة الوضع عوض اللجوء إلى استعمال القوة كما كان يفضل البعض من داخل البلاط السلطاني. فأرسل قاضي مراكش العربي الماني إلى طنجة كمبعوث خاص لتبليغ احتجاج الحكومة المغربية للقوى الغربية.
أثارت ردة الفعل الضعيفة من قبل المخزن على احتلال جزء من التراب المغربي غضب مجموعة من القبائل، وساهم ذلك في إضعاف شرعية الدولة أمامها. وكان علماء فاس أكثر الناس غضبا على التخلي عن قطعة من التراب المغربي للنصارى. وفي أحد الأيام وجد قاضي مراكش العربي الماني مقتولا بطريقة مفاجئة، ومن المحتمل أن قتله قد تم من طرف المناصرين لرد فعل عنيف من لدن المخزن على احتلال توات، كرسالة إلى المخزن وتحذير لأي تعاون مع الفرنسيين. وقد شكل سقوط توات بداية انعدام الثقة بين قبائل الحدود ونخبة من المدن، وبين السلطان الذي أصبح في أعينهم غير راغب في الدفاع عنهم.
الرحامنة.. منطلق الإصلاح
كان هناك خلاف بين أعضاء البلاط السلطاني حول سياسات الإصلاح، فقد كان يتعايش النقيض مع نقيضه. من جهة كان هناك وزير البحر(الخارجية)عبد الكريم بنسليمان، الذي كان مؤيدا للإصلاح، والمهدي بن العربي المنبهي العلاف الكبير(وزير الحربية)، وفي المقابل كان هناك محمد غرنيط الوزير الأعظم وعبد السلام التازي وزير المالية، اللذان كانا يعارضان سياسة الإصلاح. وبين المعسكرين كانت تدبر المكائد، فعلى سبيل المثال، استغل محمد غرنيط غياب المنبهي لمدة شهرية في بعثة إلى أوروبا من لدن السلطان فحاول إقناع هذا الأخير بالتخلي عنه وعن برنامجه الإصلاحي، ولم يتمكن المنبهي من استعادة موقع في البلاد إلا بعد محاولات مضنية ومناورات ذكية. وبعد عودته إلى موقعه تأسس مجلس للنظر في مسألة الإصلاح برمتها، وكان هذا المجلس يتكون من المنبهي وغرنيط وبن سليمان والقائد الإنجليزي ماكلين وبعض الأشخاص الآخرين، منهم اثنان قضيا مدة في مصر ولديهما معرفة بالإصلاحات التي تم القيام بها هناك. وقد خلصت هذه المجموعة إلى مخطط شامل للإصلاح حظي بدعم السلطان، ولمعرفة إمكانية تطبيق ذلك المخطط تقرر القيام بتجربة له في نواحي مراكش والقبائل المجاورة لها، وخاصة منطقة الرحامنة.
المولى عبد العزيز.. يركب الدراجة و»يأكل مع النصارى»
لم يكن حظ السلطان المولى عبد العزيز مع القبائل جيدا منذ البداية. عندما توفي المولى الحسن في 7 يونيو 1894 أثناء تنقلاته في إقليم تادلا وهو في حالة مرض، تم التكتم على وفاته خوفا على القافلة المخزنية من القبائل المعادية. وكان الحاجب أحمد بن موسى(باحماد) قد رأى في الحدث فرصة له لكي يضع على العرش الطفل عبد العزيز، أصغر أبناء السلطان، لكي يرتب لنفسه منصب الوصي على العرش. وعندما وصلت القافلة إلى مكان آخر بالرباط سارع الحاجب إلى أخذ بيعة العلماء بها للسلطان الجديد، لكن هذه البيعة لم ترض الناس والعلماء، الذين اعتبروا أن تلك البيعة وضعتهم أمام الأمر الواقع، ولم يوقعوا على بيعته إلا على مضض. وما زاد في تعقيد الوضع أن باحماد وضع شقيق السلطان المولى امحمد رهن الإقامة الجبرية في أحد قصور مكناس، تحت حراسة مشددة وممنوعا من الاتصال بأنصاره الكثيرين. وكان المولى امحمد يحظى بنوع من التبجيل لدى رؤساء القبائل الذين يؤمنون بالكرامات والخرافات، فقد كان تشوهه الخلقي وأحوال الجذب التي تراوده تجعلانه محل توقير وتبجيل.
انخرط السلطان الجديد في سياسة الإصلاح، ويقال إن لعبة حصل عليها عبارة عن مجسم قطار صغير هي التي ألهمته إدخال إصلاحات عصرية إلى المغرب. لكن سياساته الإصلاحية لقيت ممانعة قوية، بسبب المناخ الثقافي السائد ومصالح الزوايا والمحميين والشرفاء، الذين كانوا يريدون الإبقاء على الوضع القديم. عندما أراد السلطان مثلا بناء الطرق والقناطر وتجهيز الموانئ طلب من الشركات الأوروبية عروض مناقصة، واستدعى عمال الأقاليم إلى الرباط لأداء القسم على القرآن بأن لا يأخذوا الهدايا(الرشاوى) أو يقوموا بابتزاز من هم تحت نفوذهم، فانتشرت الشائعات ترفض سلوك السلطان، لأنه بدعة وانتشرت التعليقات السلبية. وكانت العادة أن يستقبل السلطان المبعوثين الأجانب وفق طقوس تقليدية تقضي بأن ينحني الزائر الأجنبي وأن يركع ثم يبقى واقفا بينما السلطان جالس طيلة المقابلة، ومرة استقبل مبعوثين أجانب وجرى التخلي عن تلك التقاليد فكانت هناك ردود فعل سلبية من طرف الرعايا. وسرعان ما راجت الإشاعات بأن السلطان يركب الدراجة ويأكل مع النصارى ويصور بلباس أوروبي.
السلطان وأزمة ضريح المولى إدريس
في أكتوبر عام 1902 دخل مبشر بريطاني يسمى دافيد كوبر مدينة فاس، وكان يجهل العربية ولا يعرف شيئا عن تقاليد المدينة، وبدأ يطوف في أزقتها إلى أن قادته خطواته إلى ضريح المولى إدريس، مدفن مؤسس فاس وأكثر الأضرحة قداسة لدى المغاربة. وهناك صادف رجلا قبليا غاظه أن يتواجد نصراني بالقرب من الضريح المقدس فاعتدى عليه بالضرب إلى أن قتله، ثم لجأ هاربا إلى داخل الضريح رافضا تسليم نفسه. وقد اتخذت القضية بعدا خطيرا، لأنها كانت بالنسبة للأوروبيين المتواجدين في المدينة وداخل البلاد اختبارا للقضاء المغربي. وبعد الكثير من الجدال اقتنع الرجل بالخروج من الضريح وتوضيح موقفه أمام السلطان المولى عبد العزيز، شريطة أن يصحبه مقدم الضريح وأن يتمتع بحماية الولي المولى إدريس. استمع السلطان إلى قضيته واستشار مجلسه ثم قرر إعدامه ليكون عبرة للجميع، ونفذ الحكم فورا بحضور الشرفاء ومقدم الضريح ونائب القنصل البريطاني.
أثار ذلك الحدث غضب العلماء في فاس وجموع المواطنين، لأن القتيل كان في حماية ضريح المولى إدريس، وظهر سلوك السلطان وكأنه نوع من التحدي لحرمة الأضرحة واختبار لنفوذ العلماء. وكان ذلك هو الخطأ الذي فاقم المواقف الرافضة للمولى عبد العزيز. وفي ذلك الوقت كان بوحمارة قد ظهر في مدينة تازة مدعيا أنه المولى امحمد أخ السلطان، معلنا الجهاد ضد المولى عبد العزيز، وكانت حادثة المبشر البريطاني عملا مساعدا على استقطاب المؤيدين لدعواه.
عبد الحفيظ.. النقيض للمولى عبد العزيز
كان المولى عبد الحفيظ، على النقيض من أخيه، مثقفا نال شهرة بالعلم وبكونه عالما بالشريعة. فقد كان على نحو ما شاعرا ومؤلفا لعدد من الكتب، من بينها كتاب هاجم فيه بشدة الطريقة التيجانية. وفي فترات مختلفة من حياته العلمية درس على يد كبار علماء المغرب، ومنهم حاز على إجازات من بينها إجازة الشيخ ماء العينين سنة 1904، وأثناء توليه العرش استدعى الشيخ أبا شعيب الدكالي من المدينة المنورة ليصبح عضوا في المجالس العلمية التي كان يعقدها، وبتأثير من الدكالي أصبح المولى عبد الحفيظ مناصرا للدعوة السلفية ومناهضا قويا للبدع التي شابت الممارسات الدينية، كما كان يتوصل بالصحف المصرية التي كان يشترك فيها بانتظام. وعلاوة على ذلك كانت للمولى عبد الحفيظ مزايا أخرى جعلته أكثر قبولا من أخيه السلطان في معظم أنحاء المغرب. فقد كانت لديه قدرات ومهارات فائقة في مجال الإدارة، بحيث إن الفترة التي قضاها خليفة للسلطان أكسبته كفاءة في التعامل مع سياسة القبائل المعقدة، كما كان يحظى باحترام رجال الدين والتجار في مراكش، وكانت تنقصه روح المرح واللهو التي كانت لدى المولى عبد العزيز، حيث كان متحفظا في سلوكه أمام العموم.

المشهد الأخير قبل نزع البيعة من المولى عبد العزيز
بعدما انتشرت المعارضة القوية للسلطان المولى عبد العزيز في فاس، قرر نقل مقر إقامته إلى الرباط، تاركا المدينة وراءه تحت نفوذ عامل فاس الجديد، وذلك في دجنبر من عام 1907، بينما كان الموقف يميل لصالح المولى عبد الحفيظ الذي كان يحصل على بيعة القبائل في الجنوب. وفي 30 دجنبر حل بمدينة فاس مبعوث من قبل السلطان عبد العزيز هو ادريس الفاسي، محملا برسالة من السلطان. أشيع بأن الرسالة هي رسالة سرية موجهة إلى علماء المدينة يطلب فيها السلطان منهم إصدار فتوى تبيح الحصول على قرض أجنبي جديد. وبمجرد أن حل المبعوث بالمدينة أحيط بجمهرة من الغاضبين الذين طالبوه بقراءة الرسالة عليهم. لكن سرعان ما تبين أن الرسالة هي فقط رسالة شكر موجهة إلى أعيان فاس على الطريقة التي عالجوا بها مشكلة الاضطرابات التي عاشتها المدينة أياما قليلة قبل ذلك التاريخ. آنذاك انسحب المتجمعون، لكنهم سرعان من جاؤوا من جديد وتجمعوا قريبا من ضريح سيدي عبد القادر التازي وقد أصبحوا أكثر غضبا، فأعلنوا استقلالهم عن السلطان والعلماء. بعد ذلك أمروا سبعة من العلماء بالمثول أمامهم مطالبين إياهم بفضح سر الرسالة وقراءة فحواها على مسامعهم. أنكر العلماء وجود رسالة من ذلك القبيل، إلا أن الناس الغاضبين أرغموا أولئك العلماء على التوجه إلى جامع القرويين، وهناك التمسوا من العلماء إصدار فتوى حول أهلية المولى عبد العزيز للبقاء سلطانا على البلاد. طلب العلماء مهلة يوم للتدبر في الأمر قبل الإجابة، وآنذاك حضر علماء آخرون إلى المسجد من بينهم مولاي إدريس الزرواطي، أحد أعضاء اللجنة الثلاثية المؤقتة، التي اختيرت لتدبير الشؤون البلدية للمدينة. ومرة أخرى تمسك العلماء بطلب مهلة، إلا أن المتجمهرين هتفوا منددين بموقفهم، وكان عددهم قد وصل إلى حوالي أربعين ألفا. وبعد مشاورة لم تطل أعلن قاضي فاس رأي العلماء في المسألة، الذي يقضي بأن هذا الرجل عبد العزيز يجب أن يخلع حالا. إثر ذلك قام العلماء الحاضرون بالتوقيع على الفتوى وسط هتافات الحاضرين المؤيدة، وانتشر خبر عزل السلطان عبد العزيز في كل أرجاء المدينة من خلال البراحين، الذين طافوا الأحياء معلنين الخبر، فعم الفرح قلوب الناس خلال الأيام التالية، بينما ظهرت محاولات لتخويف وترهيب من بقوا مؤيدين للمولى عبد العزيز.
فساد الزوايا ومحاربة الإصلاح
من بين المعضلات التي واجهها السلطان المولى عبد العزيز في سياسته للإصلاح، ومن بعده المولى عبد الحفيظ، هي الامتيازات التي كان يتمتع بها الشرفاء والزوايا. عندما وضع المولى عبد العزيز سياسته لإصلاح نظام الجبايات المحلية سعى إلى محاربة التجاوزات التي قد تحدث أثناء تحصيلها من طرف القواد والأمناء في البوادي، لذلك خصص لهم رواتب كافية لتحاشي الابتزاز. وكان من مهام الأمناء تقييم قيمة الجباية وجمعها، وعدم تمتيع أي كان بالإعفاء الجبائي، بمن فيهم أصحاب الامتيازات التقليدية أمثال الشرفاء وبعض الزوايا والمحميين والدور التجارية الأوروبية وقبائل الكيش، وكل هؤلاء كانوا معفيين من الجبايات في النظام القديم. وكانت الزاوية الوزانية، التي كانت محمية من طرف فرنسا، على رأس الزوايا التي قاومت سياسة الإصلاح الجبائي فأعلنت رفضها لمشروع الإصلاح. وحرصا من هؤلاء على الدفاع عن امتيازاتهم المهددة، سرعان ما بدؤوا يتحركون تحت راية الدين ضد إصلاحات»النصارى» والسلطان، حجتهم في ذلك أن الضرائب التي نص عليها القرآن لا يمكن لأي كان، ولو كان السلطان نفسه، أن يعبث أو يتلاعب بها. وفي نفس الوقت سارع بعض هؤلاء إلى وضع أنفسهم تحت الحماية الأجنبية للحفاظ على ثرواتهم، بينما أخذ آخرون ينخرطون في حركات التمرد ضد النظام. وفي هذا السياق جرت مفاوضات بين المخزن والزاوية الوزانية بوساطة والتر هاريس، أحد المواطنين البريطانيين المرموقين الذي كان مقيما بالمغرب، أفضت إلى اتفاق بين الطرفين، على أن يقدم المخزن إلى دار وزان هدية سنوية تساوي قيمتها ما يستخلصه منهم من الضريبة، ومن ثم أفرغ الإصلاح من محتواه.
نفس الصعوبات ووجه بها المولى عبد الحفيظ، فقد سعى إلى فرض سلطة المخزن في وزان عبر تعيين قائد على المدينة غير منتم للوزانيين، ومطالبة شرفاء وزان ومن هم تحت حمايتهم بأداء الضرائب للمخزن. وقد شكل هذا جزء من المجهود العام لإلغاء الامتيازات التقليدية التي كان من بينها فرض ضرائب اعتيادية على قبائل الكيش في أحواز فاس، وكان المولى عبد الحفيظ مقتنعا بالتأثير المشؤوم والمهلك للزوايا والطرق على الوضع العام في المغرب.
جنود أتراك لمحاربة المتمردين في نواحي فاس
كان من النتائج التي أسفر عنها انتصار المولى عبد الحفيظ ووصوله إلى الحكم إحياء مشاعر قوية لدى نخبة المدن المغربية في إقامة علاقات وثيقة مع تركيا، ذلك أن التأثير الناجم عن ثورة جمعية تركيا الفتاة أثار في المغرب موجة من التعاطف معها. ومن بين الأساليب التي فرضت نفسها إحياء المشاريع القديمة التي كانت تتطلع إلى الامبراطورية العثمانية لتقوم بتزويد المغرب بمستشارين عسكريين مسلمين، ومن ثم يتفادى المغرب الاستعانة بمستشارين عسكريين فرنسيين أو غيرهم من الأوروبيين. فبعد نجاح ثورة تركيا الفتاة عام 1908 سعى النظام إلى دعم المسلمين خارج الإمبراطورية العثمانية ممن انخرطوا في مقاومة الغرب، لذا عندما تقدم المغرب عام 1909 لاستقدام بعثة عسكرية لقي طلبه استجابة فورية. وصلت البعثة إلى فاس وعلى رأسها القبطان عارف باي، ورغم احتجاج البعثة العسكرية الفرنسية تم إلحاقهم بالجيش المخزني، وسرعان ما بدؤوا يرافقون فرقه في المناورات التي كانت تتم ضد القبائل المتمردة شمال فاس، وقد استمروا في العمل ضمن الجيش المخزني إلى مارس 1910، حيث أجبروا على الرحيل بضغط من البعثة الفرنسية.
مولاي عبد الحفيظ ومصير الكتاني
بعد وصول المولى عبد الحفيظ إلى الحكم وفق بيعة مشروطة بشن حملات الجهاد ضد التحرشات الفرنسية والأجنبية بالمغرب، ضغطت فرنسا عليه لكي يعلن تخليه عن خيار الجهاد، ويعلن ذلك على الملأ في خطاب يقرأ على منابر المساجد، مقابل الاعتراف به، والسماح له بسحب أموال الجمارك التي كانت مجمدة. وفي 9 يناير 1909 جرى تبليغ ممثل المخزن بطنجة بالاعتراف الرسمي بالنظام الجديد، وفهم من ذلك الاعتراف أن السلطان أعطى ما طُلب منه.
لكن السلطان واجه مقاومة من بعض الأصوات التي كانت تدعوه إلى مواصلة الجهاد. وكان علماء فاس وعلى رأسهم محمد بن عبد الكبير الكتاني لا يقبلون أي تنازلات عن المبادئ التي قامت عليها الحركة الحفيظية. لكن السلطان رفض الإنصات إليهم، وفي 3 أكتوبر اجتمع علماء فاس لبحث الخيارات الممكنة، وفي النهاية وافقوا على قبول شروط اتفاق الجزيرة الخضراء ورفضوا إلحاح الكتاني على السير في طريق المقاومة. وفي 9 مارس غادر الكتاني فاس هاربا رفقة أسرته سرا، وساعدته الأمطار الغزيرة في ذلك اليوم على التخفي، وعندما وصل إلى معقل بني مطير ذبح قربانا»عارا» أمام خيمة زعيم العشيرة طالبا الأمان. وعندما علم المولى عبد الحفيظ بالخبر أصدر تعليمات إلى قياد بني مطير لتسليم الكتاني تحت تهديد إحراق مساكنهم. وبعد أيام صدر قرار بإغلاق جميع مقرات الزاوية الكتانية. ونقل الكتاني في نهاية المطاف إلى فاس وأدخل السجن حيث تعرض لضرب مبرح أودى بحياته، فتراجع فريق المتشددين في فاس.
لكن الخلاف بين المولى عبد الحفيظ والكتاني لم يكن فقط حول كيفية مقاومة الغرب، بل كان ناجما عن خلافات عميقة بين الرجلين. ذلك أن المولى عبد الحفيظ كان مقتنعا بأن الإسلام في حاجة إلى تطهير من الشوائب الغريبة من قبيل تقديس الأولياء والطرق والزوايا الدينية، التي تدخل في باب البدعة والانحراف عن الدين القويم. وحين كان الخليفة في مراكش تأثر بالشيخ ماء العينين، ثم بأفكار أبي شعيب الدكالي، وهذه الأسباب هي التي تفسر حملة المولى عبد الحفيظ على الزاوية الكتانية، وبهذه الطريقة أيضا تخلص من خصم قوي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.