ما يزال في بداية عقده الثالث، لكنه رأى خلال هذا العمر القصير ما لم يره كهل أو عجوز. عاش جمال الدبوز بؤس الطفولة، وسلطة الأب وقتامة المستقبل وقسوة الطوارئ، لكنه عاش أيضا حنان الأم، وإيمانها به وتشبث بالأمل، الذي أنقذه، خلافا للكثير من أقرانه أبناء الأصول المهاجرة، من الضياع وغياهب السجون. استطاع جمال أن يتسلق أدراج المجد رغم كل الصعوبات ورغم العاهة إلى أن أصبح واحدا من أشهر الفكاهيين الموهوبين. هذه مقتطفات من حياة غير عادية لشخص غير عادي. بعد عودة من رحلة قصيرة قادته مع عدد من الزملاء رفقة رشيد بن الزين، عن جمعية «نافذة الإغاثة»، شعر جمال بأن حياته آخذة في التغير. حكى جمال لأصدقائه ولأسرته تفاصيل الرحلة المغربية. أنصت إليه أبوه وأمه، التي كانت تحلم بمستقبل باسم يسعد ابنها. شكرت الله على جميله، بينما كان الأب، أحمد، يتمنى أن لا يكتمل أي مشروع من تلك التي يحلم بها جمال وأمه. «جمال لن يكون ممثلا. التمثيل مهنة مدمني المخدرات»، قال الوالد. لا يجب الاقتراب من هذا. لا أريد ممثلا في أسرتي. وإذا كنت قبلت بالمسرح الارتجالي، فهذا تسامح كبير مني. مستقبل جمال في التجارة، هو موهوب في التجارة.» خلال عطلة نهاية السنة، وبينما كان جمال في كيبيك وفي المغرب مع فرقته الهاوية، قررت الأسرة سحب ملفه من كوليج غوستاف كوبير لنقله إلى إحدى الثانويات المهنية. فالأب صار أكثر قلقا على مستقبل الإبن البكر. كان يحضر كل الاجتماعات التوجيهية مع الأساتذة، إلا أنه لم يكن ليدرك ما يقولون. «مشكلتي، يقر جمال، هي أنني لم أوجه بالشكل الصحيح في المدرسة، لأنه لم يكن أحد في أسرتي يملك التراكم الثقافي الكفيل بتوجيهي في الاتجاه الصحيح. في المستوى الدراسي الثالث قيل لي: أنت بارع في الحديث، ستشتغل بائعا تجاريا. كان أمرا غبيا، لأنني كنت أهوى حصص تفسير النصوص، والقراءة». وبينما انتهت السنة بنتيجة كارثية رغم النتائج المشرفة في اللغة الفرنسية، ارتأى مجلس التوجيه أن يطلب من الأبوين أن يسجلا جمال في سلك دروس شهادة الدراسات المهنية بالثانوية المهنية هنري ماتيس. كانوا 650 تلميذا يلتحقون بالثانوية. أفقهم المهني الوحيد هو أن يصبحوا «في أفضل الحالات رئيسي جناح تجاري في أحد الأسواق الممتازة، وراتب يكفي بالكاد لشراء بذلة C&A وسياقة سيارة فورد إسكورتXR3، يقول جمال نفسه.» لم يكن التلميذ جمال الدبوز ليقبل بالحضور السلبي في القسم، بل كان يسعى دائما إلى التميز عن الآخرين وإثارة الانتباه إليه دون أن يفرط في الظهور بمظهر المتعقل، الرصين، المختلف عن أقرانه، وباللباس. ففي الوقت الذي يرتدي فيه رفاقه سراويل الجينز، والأحذية الرياضية، والأقمصة الشبابية الفضفاضة... يفضل جمال أن يرتدي سروالا بطية سفلى كلاسيكية وقميصا مكويا بشكل جيد... قبل بداية إحدى حصص اللغة الفرنسية، عبأ جمال جميع التلاميذ ووزع عليهم الأدوار بين من يقوم بدور الديك، والبقرة، والخنزير، والحمار، والدجاجة... ولما أقبل الأستاذ، استُقبل بأصوات الحيوانات كما لو كان الأمر يتعلق بحظيرة حقيقية... أما في حصص تعلم تقنيات البيع والشراء، فقد كان يحول العملية لتصبح ارتجالا على مزاجه طالما يتمتع بالقدرة على توجيه الآخرين والتأثير عليهم. استطاع جمال أن يقلب السحر على الساحر عندما نجح في أن يستفز أستاذ الفرنسية، الملقب ب «سوبرمان» لأنه كان صاحب بنية قوية وتكوين رياضي في التايكواندو جعله يتدخل في العديد من المرات لينقذ التلميذات من عمليات سطو خارج الثانوية. ظل جمال يناوشه إلى أن غادر الأستاذ قاعة الدرس، لا بل إن جزءا من الجسم التعليمي كان له رأي واحد في جمال، لأنه كان مشاكسا إلى حد بعيد. هذه السمعة جعلت الحارس العام للمؤسسة يعزله في مكتبه عن بقية التلاميذ. إلا أن جمال كان ساعتها يحتاج إلى مباركة الحارس العام للحصول على إذن منه بالغياب لأنه كان عليه أن يسافر إلى المغرب ليؤدي دورا رئيسيا في فيلم قصير بعنوان «حجر الصحراء الأزرق». فاتح، أولا، أستاذته الرئيسية مريام كوتيل قبل أن يتكلم مع الحارس العام ألان دوهام، لكنه «رفض، يحكي جمال، أن يأذن لي بالغياب ثلاثة أيام. خيرني بين هوليوود أو الدراسة، فاخترت هوليوود، فسافرت إلى المغرب للعب دوري في الفيلم بعد أن طلبت من صديق لي كان يشتغل في سفارة المغرب بباريس أن يبعث بفاكس رسمي إلى الثانوية ليخبرهم بأنني تلقيت دعوة من الوزير المغربي المكلف بالجالية المغربية بالخارج، وأن الأمر يتعلق بقضية دولة». توجه جمال، إذن، إلى المغرب بمباركة من الحارس العام، الذي ربما فضل أن يغيب جمال بعض الوقت عن الثانوية ليستريح من مشاكسته، خاصة وأنه يعتبر جمال «تلميذا طيبا، إلا أنه غير متحفز ويتغيب بدون مبرر جدي. هذا التلميذ لا مستقبل له...». وبعد مرور عدة أشهر، وبينما كانت زوجة الحارس العام تشاهد التلفزيون بلامبالاة رأت الطفل «الذي لا مستقبل له» على الشاشة يقف أمام جون بيير فوكو في أمسية خاصة بالمغرب، صورت بحدائق القصر الملكي بالرباط. فصرخ الحارس العام:» ماكر هذا الفتى. فقد خدعني مرة أخرى.» في اليوم الذي شارك فيه جمال في إحياء ذلك الحفل، كان يفترض أن يحضر تدريبا إلزاميا في المقاولة. كان مقررا ان يلتحق بالرواق التجاري بالمركز التجاري لوكليرك دو موربا لبيع ربطات العنق. يتذكر جمال تلك الحكاية فيقول:» في الوقت الذي ركزت علي الكاميرا أمام جون بيير فوكو شاهدني السيد دوهام (الحارس العام). وبعد أسبوع التقاني ليسألني: