هشام العلوي: استفحال اقتصاد الريع في المغرب ناتج عن هشاشة سيادة القانون والنظام يخشى الإصلاح الاقتصادي الجوهري (فيديو)    لاعبو بركان يتدربون في المطار بالجزائر    دراسات لإنجاز "كورنيش" بشاطئ سواني    أمن مراكش يوقف شقيقين بشبهة النصب    ندوة تلامس السياق في الكتابات الصوفية    ما الذي قاله هشام الدكيك عقب تأهل المغرب المستحق إلى كأس العالم؟    بانتصار ساحق على ليبيا.. المغرب يبلغ نهائي كأس إفريقيا لكرة القدم داخل القاعة ويضمن التأهل للمونديال    المغرب يسعى لاستقطاب مليون سائح أمريكي سنويا    إعلام عبري.. نتنياهو صرخ في وجه وزيرة خارجية ألمانيا: نحن لسنا مثل النازيين الذين أنتجوا صورًا مزيفة لواقع مصطنع    إطلاق الرصاص لتوقيف شخص عرّض أمن المواطنين وسلامة موظفي الشرطة لاعتداء جدي ووشيك باستعمال السلاح الأبيض    المكسيك – موجة حر.. ضربات الشمس تتسبب في وفاة شخص وإصابة العشرات    طقس السبت.. أمطار رعدية ورياح قوية بهذه المناطق من المغرب    نقابة: نسبة إضراب موظفي كتابة الضبط في دائرة آسفي فاقت 89% رغم تعرضهم للتهديدات    طلبة الصيدلة يرفضون "السنة البيضاء"    الجدارمية د گرسيف حجزوا 800 قرعة ديال الشراب فدار گراب بمنطقة حرشة غراس    العرض السياحي بإقليم وزان يتعزز بافتتاح وحدة فندقية مصنفة في فئة 4 نجوم    وزير الفلاحة المالي يشيد بتقدم المغرب في تدبير المياه والسدود    مسؤول بلجيكي : المغرب وبلجيكا يوحدهما ماض وحاضر ومستقبل مشترك    صلاح السعدني .. رحيل "عمدة الفن المصري"    المغرب وروسيا يعززان التعاون القضائي بتوقيع مذكرة تفاهم    وزارة التجهيز والماء تهيب بمستعملي الطرق توخي الحيطة والحذر بسبب هبوب رياح قوية وتطاير الغبار    الأمثال العامية بتطوان... (577)    تسجيل حالة وفاة و11 إصابات جديدة بفيروس كورونا خلال الأسبوع الماضي    المعرض الدولي للكتاب.. بنسعيد: نعمل على ملائمة أسعار الكتاب مع جيوب المغاربة    خاص..الاتحاد ربح الحركة فرئاسة لجن العدل والتشريع وها علاش الاغلبية غاتصوت على باعزيز    ها أول تعليق رسمي ديال إيران على "الهجوم الإسرائيلي"    الوكيل العام يثبت جريمة الاتجار بالبشر في ملف التازي وينفي التحامل ضده    "لارام" و"سافران" تعززان شراكتهما في صيانة محركات الطائرات    مؤشر ثقة الأسر المغربية في وضعها المالي يتحسن.. وآراء متشائمة في القدرة على الادخار    تعرض الدولي المغربي نايف أكرد للإصابة    بورصة الدار البيضاء تفتتح التداولات بارتفاع    "إعلان الرباط" يدعو إلى تحسين إدارة تدفقات الهجرة بإفريقيا    مجلس النواب يعقد جلسة لاستكمال هياكله    ارتفاع كبير في أسعار النفط والذهب عقب الهجوم على إيران    موعد الجولة ال27 من البطولة ومؤجل الكأس    طوق أمني حول قنصلية إيران في باريس    المكتب التنفيذي ل"الكاف" يجدد دعمه لملف ترشيح المغرب وإسبانيا والبرتغال لتنظيم مونديال 2030    بسبب فيتو أمريكي: مجلس الأمن يفشل في إقرار العضوية الكاملة لفلسطين في الأمم المتحدة    "ميتا" طلقات مساعد الذكاء الاصطناعي المجاني فمنصاتها للتواصل الاجتماعي    صورة تجمع بين "ديزي دروس" وطوطو"..هل هي بداية تعاون فني بينهما    منظمة الصحة تعتمد لقاحا فمويا جديدا ضد الكوليرا    التراث المغربي بين النص القانوني والواقع    باستثناء الزيادة.. نقابي يستبعد توصل رجال ونساء التعليم بمستحقاتهم نهاية أبريل    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الجمعة    السودان..تسجيل 391 حالة وفاة بسبب الاصابة بمرضي الكوليرا وحمى الضنك    أخْطر المُسَيَّرات من البشر !    ورشة في تقنيات الكتابة القصصية بثانوية الشريف الرضي الإعدادية بجماعة عرباوة    مهرجان خريبكة الدولي يسائل الجمالية في السينما الإفريقية    ضربات تستهدف إيران وإسرائيل تلتزم الصمت    الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم يطالب بفرض عقوبات على الأندية الإسرائيلية    بيضا: أرشيف المغرب يتقدم ببطء شديد .. والتطوير يحتاج إرادة سياسية    نصف نهائي "الفوتسال" بشبابيك مغلقة    "قط مسعور" يثير الرعب بأحد أحياء أيت ملول (فيديو)    الانتقاد يطال "نستله" بسبب إضافة السكر إلى أغذية الأطفال    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (6)    الأمثال العامية بتطوان... (575)    هاشم البسطاوي يعلق على انهيار "ولد الشينوية" خلال أداء العمرة (فيديوهات)    خطيب ايت ملول خطب باسم امير المؤمنين لتنتقد امير المؤمنين بحالو بحال ابو مسلم الخرساني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ترميم فاس القديمة.. تاريخ كامل للبيع في المزاد العلني
هكذا يقود المسؤولون المدينة إلى «الاندحار» من لائحة التراث العالمي
نشر في المساء يوم 15 - 03 - 2015

يحكي عالم الآثار الفرنسي فيكير عن مقامه بالمغرب: «كانت الأشغال في الخط الحديدي الرابط بين فاس ووجدة على أشدها والدراسات قد عهدت إلى السيد سيجورني، عظيم مهندسي القناطر الفرنسيين، وكان الجميع يعلم أنني (فيكير) متخوف من أن يمر الخط قرب مقبرة باب فتوح وأسوار المدينة وبوابتها الكبيرة.. اقترح السيد سيجورني أن القناطر التي ستلتقي بخاصرة المقبرة المرتفعة ستمكن من إنشاء أسلوب معماري أصيل، وسوف ينجز أقواسا مغربية ومشرفيات تعوض متاريس السور الأصلية، بالاعتماد على مادة الإسمنت التي ستأخذ شكل الطابية وتلون بلونها معلنة عن ولادة الفن السككي المغربي الحديث.. لا داعي لأن أشرح وقع هذه الآراء التافهة علي. وبما أننا كنا في حاجة إلى قرار عال لتفادي كارثة غير قابلة للتصحيح، فقد اتجهنا لمقابلة ليوطي ونحن شبه متيقنين أنه لن يتمكن من لقائنا. كيف؟ وحرب عبد الكريم على أشدها والريفيون يقتربون من فاس وتازة. رغم ذلك خصص لنا المارشال صباحا كاملا تجولنا فيه حول قباب المرينيين التي تمنح فرصة الاستمتاع بمناظر المدينة والمقبرة وقبابها البيضاء… وبعد النقاش والتمحيص والتساؤل، اتخذ المارشال قراره: إنقاذ التراث الفني لا يقدر بثمن، ولا بأس من التضحية ببضعة ملايين.. كم كنت سعيدا بانتصاري». قبل قرن كامل كان المارشال ليوطي، المقيم الفرنسي بالمغرب، حريصا جدا على أن تتم التضحية بالمباني الأثرية على حساب مشاريع حديثة، واليوم، في مغرب الاستقلال تغيرت الأمور وأصبحت عمليات الترميم مجرد «عملية تحديث بدون مراعاة للتاريخ ولا للأركيولوجيا». في هذا التحقيق تتوقف «المساء» عند مشروع ترميم أكثر من 27 مبنى داخل مدينة فاس القديمة، وهي العملية التي وصفها العديد من الأركيولوجيين ب»الكارثة الأثرية والتاريخية».
فاس «جنة الأثريين». مدينة شكلت دائما وجهة للتجاذب السياسي بين الدول التي تعاقبت على حكمها ولذلك لا غرابة أن تصنفها اليونيسكو تراثا إنسانيا يجب حمايته بترسانة قانونية. غير أن العكس هو الذي حدث تماما، ففي الوقت الذي كان ينتظر فيه الأركيولوجيون والمؤرخون أن تكون خطوة التصنيف داخل التراث الإنساني مقدمة لعملية ترميم كبرى تخضع لها «المآثر التاريخية» تستجيب للمقومات الدقيقة للترميم منها القيام بدراسات تاريخية تسعف على فهم تطور المآثر العمرانية وتأثرها بتداول الحكم وفنون المعمار التي تطبع كل دولة على حدة. ومنها أيضا أن يكون الترميم محافظا على الجمال الهندسي والبحث عن المواد التي تشبه على الأقل المواد التي شيدت بها هذه المآثر العمرانية بكثير من الحذاقة والإتقان.
ففي الوقت الذي تبخرت كل تلك الآمال، أصبحت عملية الترميم التي شرعت فيها وكالة إنقاذ مدينة فاس مرادفا لعملية «المسخ» الأركيولوجي بتعبير أحد علماء الآثار. قبل الخوض في تفاصيل الترميم، فعملية الترميم التي تعرفها مجموعة من المباني التاريخية بمدينة فاس العتيقة ضمن برنامج ترميم وإعادة تأهيل المآثر التاريخية للمدينة العتيقة، وهو البرنامج الذي رصد له غلاف مالي إجمالي قدره 285,5 مليون درهم. تضم 27 مشروعا أعطى الملك انطلاقتها في الرابع من مارس منذ سنة 2013، يهم ترميم وإعادة تأهيل خمس مدارس عتيقة وأربعة أبراج و ثلاثة فنادق وثلاث مدابغ وسورين وقنطرتين ومنزلين عتيقين ومباني أخرى. إلا أن الغضبة الملكية الأخيرة التي هزت كل المتدخلين المعنيين ببرنامج إنقاذ فاس العتيقة في نونبر 2014 والتي أرجعت ، بالأساس، إلى تأخر الأشغال، رافقها قرار سام بأن تنهي وكالة التنمية ورد الاعتبار لفاس الموكول لها تنفيذ المشروع كافة أشغال الترميم في نونبر 2015. يؤكد أحد علماء الآثار أنه عوض أن تكون الغضبة الملكية حافزا نحو العمل الجاد، فقد تحولت إلى نوع من «التبرير» لدى الجهات المكلفة بالترميم للإسراع في الأشغال على حساب تاريخ بنته عشرات الحضارات.
فاس.. تاريخ في المزاد العلني
مدينة فاس مسجلة في لائحة التراث العالمي ومسجلة تراثا وطنيا منذ 1954، ووزارة الثقافة مطالبة بإعداد تقارير دورية تبين مدى احترام القيمة العالمية الاستثنائية التي صُنفت بفضلها فاس تراثا للإنسانية جمعاء. وتتجلى هذه القيمة أساسا في كثافة مبانيها التاريخية وتنوعها باعتبارها نموذجا فريدا من نوعه ومعبرا عن الفن المعماري المغربي.
يتعلق الأمر ب27 بناية ذات قيمة تاريخية ومعمارية عالية مصنفة ضمن المآثر التاريخية٬ وهي خمس مدراس: المحمدية والصفارين والمصباحية والصهريج والسبعيين٬ وأربعة أبراج وهي سيدي بونافع وبوطويل والنفارة والكوكب٬ إضافة إلى ثلاثة فنادق هي أعشيش والقطانين والصاغة.
الاتفاقية التي عقدت تنص على تأهيل المعالم التاريخية والمباني الأثرية بالمدينة العتيقة بفاس وترميمها، والحديث عن التأهيل يقودنا للحديث عن الوظائف الجديدة التي ستسند إلى هذه المباني، ووظيفة المعلمة محدد أساسي من الناحية التقنية لطريقة الترميم، فإذا كان المهندس- حسب علماء الآثار دائما- يعلم أنه سيجعل من المبنى متحفا، فلا شك أنه سيضطر لفتح القاعات لتسهيل مسار الزائر، ولكن إذا كانت الوظيفة هي رواقات للفنانين والصناع، فلا داعي لفتحها، والحال أن أيا من المباني السبعة والعشرين لم يخضع لمشروع تأهيل حقيقي، وهذا الأخير يجب أن يستند بدوره إلى دراسة اجتماعية لمعرفة متطلبات السكان اجتماعيا وثقافيا، وهي الدراسة التي تعتمد استبارات الرأي، واخذ آراء السكان وتطلعاتهم. لكن عدم اتخاذ هذه الخطوة يجعل الترميم مرتجلا وعرضة للأهواء، ولن يكون من المجحف وصفه بترميم عديم الجدوى.
إن عملية الترميم قبل كل شيء تتوخى المحافظة على الشواهد المادية لمظاهر التراث الإنساني، والتي تمكن من فهم مراحل تطوير الإنسان لمهاراته وكفاءاته. وبالتالي فترميم المباني التاريخية فرصة لإعطاء حياة جديدة لهذه البنايات حتى تتمكن من أن تصل رسالتها الحضارية للأجيال القادمة، ولذلك من الواجب اتخاذ كل إجراءات التريث والعقلانية من أجل التدخل بطريقة صحية وصحيحة، وأخذ الوقت الكافي لاستكمال الدراسات اللازمة.
في فاس، أوكلت مهمة هذا المشروع الجبار إلى وكالة التنمية وإنقاذ مدينة فاس بمشاركة وتمويل وتنسيق ولاية فاس بولمان، وتمويل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ووزارة الاقتصاد والمالية، ووزارة السكنى والتعمير وسياسة المدينة، ووزارة الثقافة، ووزارة الصناعة التقليدية بتكلفة مالية قدرها 285,5 مليون درهم. بيد أن العملية التي كان يراد منها إنقاذ تاريخ مدينة فاس ومعمارها الحضاري من التلف تحول حسب المختصين إلى مشروع كبير «للإسمنت المسلح».
على المستوى النظري، وعلى مستوى كل الاتفاقيات العالمية: كل شيء واضح وعملية ترميم الآثار لا تحتمل خطأ ولو كان صغيرا. في فاس عملية الترميم لا تسير بالطريقة التي يبتغيها المهنيون ولا بالطريقة التي تحترم ما تعهد به المغرب أمام اليونسكو. استنادا إلى معلومات دقيقة حصلت عليها الجريدة، فإن لجنة من اليونسكو قد تحل في فاس لمعاينة عملية الترميم. وتفيد المعطيات ذاتها أن المكلفين بالتراث الإنساني العالمي لا ينظرون بعين الرضى إلى ما يجري بالمدينة من «تشويه للمآثر العمرانية».
يقول مجموعة من الأركيولوجيين إن المشروع، الأول من نوعه، والأكبر من حيث حجم التمويل لم يقم بأي دراسات علمية مستفيضة لا سيما تلك التي تهم الجانب الأركيولوجي، والذي تعتبر علميا المحدد الأساسي للطريقة التي يجب أن يتم بها الترميم، بالإضافة إلى تفويت صفقات الترميم لمقاولات أغلبها لا تتوفر على الخبرة الكافية في ترميم الآثار.
لا يتوقف الخبراء عند هذا الحد، بل يؤكدون أن مشاريع التصاميم والتتبع توكل إلى مهندسين معماريين لا يتوفرون على أي خبرة أو راكموا تجارب في ميدان الترميم، ناهيك عن غياب المشاركات العلمية في المنتديات الدولية في مجال الترميم في سيرهم الذاتية.
«بؤس أثري»
على هذا الأساس يمكن طرح الكثير من الأسئلة التي قد تشفع في فهم بعض من خيوط عملية الترميم بمدينة فاس: كيف يعقل أن تسند دراسة إحدى وعشرين بناية أثرية لمكتب دراسات وحيد؟ ومكتب مراقبة وحيد؟ وهل سيتمكن المكتبان المذكوران –أيا كانت إمكانياتهما البشرية والمادية- من تسطير دراسات مدققة لكل بناية على حدة؟ وهل توفرت دفاتر التحملات الخاصة بكل بناية على اقتراحات مهنية وتقنية تستوعب مبادئ الترميم السليم وتحل المشاكل التقنية؟ ثم كيف أوكلت لبعض المقاولات خمسة مشاريع دفعة واحدة؟ كما أسند مشروع دور الدباغة بمبلغ سبعة ملايير ونصف سنتيم على سبيل المثال إلى مقاولة لم تشتغل قط في ميدان التراث، علما أن مدبغة شوارة هي أقدم المدابغ وأشهرها وتكاد تكون صورة ناطقة باسم مدينة فاس،لاسيما أنها تملأ البطاقات السياحية البريدية. التي تروج في العالم بأكمله؟
الجواب عن هاته الأسئلة يقود إلى طرح أسئلة أخرى لكنها تحتوي على أجوبة لما يحدث الآن في أضخم عملية ترميم بمدينة فاس. لا يفهم الأثريون الاستعمال المفرط لمواد البناء الحديثة من إسمنت مسلح على مستوى الأساسات والقباب (نماذج برج الكوكب وفندق اعشيش ومدرسة الصفارين وضريح سيدي احرازم ومكتبة القرويين ومدرسة السبعيين)؟. وعلى هذا النحو أيضا، يسألون على سبيل الاستنكار: أليس حريا بالمرممين إرجاع هذه المباني إلى طابعها الأصلي باستعمال تقنيات ومواد بناء تقليدية والتي أثبتت فعاليتها منذ قرون عديدة. ولحسن الحظ أن فاس لا زالت تحتضن صناع مهرة بإمكانهم التعاون مع فرق الترميم ومساعدتهم في إيجاد الحلول التقنية للمشاكل المستعصية. إن استعمال مواد بناء حديثة داخل بنايات تقليدية من شأنه أن يخلق مشاكل فيما يتعلق بمتانة البنايات على المدى البعيد وهو ما يعرف بمشكل الاندماجية compatibilité. وهذه الشروط متعارف عليها دوليا.
الخروقات التي يعرفها المشروع كثيرة جدا لكنها تصب في الأخير عند مجرى واحد: تغيير ملامح المدينة القديمة وتحويلها إلى مدينة حديثة لا تعترف إلا بالإسمنت المسلح، إذ عاينت «المساء» كيف تم تغيير بعض معالم وتصاميم المباني الهامة والمرتبة تراثا وطنيا (مدرسة الصفارين والمدرسة المصباحية ومدرسة السبعيين ومدرسة الصهريج)؟ من خلال إضافة سلالم إضافية ومصاعد آلية وتهيئة غرف كبيرة على حساب غرف صغيرة أو إحداث ثلاثة منافذ جديدة على مستوى مشور باب المكينة الشهير. وما هي مبررات ذلك من الناحية القانونية، علما أن تغييرات من هذا النوع يجب أن تخضع لترخيص من قبل وزارة الثقافة، الشيء الذي لم يحصل.
هل نحن أمام عملية ترميم؟ أم عملية إعادة بناء؟ يلاحظ المختصون أن بعض البنيات الهامة من جدران وأرضيات يتم هدمها بسرعة كبيرة وإعادة بناء بنيات مكانها (ولو بالطريقة التقليدية)؟ فلماذا؟ لا سيما أن الأمر حينئذ يتعلق بالتجديد، زد على ذلك أنه لا يتم ترميم بعض العقارات بالتخصيص من أفرايز وسقوف وقباب كما يتطلب ذلك المنهج العلمي المتعارف عليه في الترميم وفق ميثاق البندقية، بل تتم إعادة صباغتها بالألوان من جديد وبمواد جديدة في ضرب لعرض الحائط بكل ضوابط الترميم التي تركز على احترام كمالية الممتلك الثقافي وأصوليته والتدخل القابل للاسترجاع في حدود مضبوطة.
بصوة تقنية أوضح: فخليط الملاط المستعمل للعب وظيفة ربط الآجر أو الحجارة لا يحترم المقادير والنسب المئوية بين الجير والرمل والمواد الأخرى وغالبا ما تضاف إليه نسب مهمة من الإسمنت ناهيك عن أن الآجر التقليدي الذي يطلبه دفتر التحملات يكون من الاختيار الأول (وغالبا ما يصنع في فاس)، أما الآجر المستعمل فيكون في حالات غير قليلة من الاختيار الثاني (يصنع في مناطق أخرى).
عملية ترميم أم بناء للعمارات؟إنها في الأخير، ودون إطلاق الأحكام عملية مرتجلة تسارع الوقت وتقوض تاريخا بأكمله تحت ذريعة الترميم، والارتجال يرتبط بالأساس باتخاذ قرارات ترميم مصيرية ستكون عواقبها غير محمودة البتة (المدرسة المحمدية التي تتوفر على عدة مراحل بعدة مواد مختلفة وتتطلب دراسة أثرية جادة)؟ إذ تناقش قرارات تقنية غاية في الأهمية على مستوى لجنة التتبع الأسبوعية بطريقة مرتجلة تشوبها الكثير من مظاهر عدم التواصل بين الفرقاء.
لماذا لا تتوصل مصالح وزارة الثقافة المسؤولة عن المباني التاريخية بالجهة وهي الوصية على القطاع من خلال مصلحتها الأساسية مفتشية المباني التاريخية والمواقع لجهة فاس بولمان بمقترحات ترميم المعالم التاريخية من أجل الدراسة وإبداء الرأي؟. الأركيولوجيون موقنون أن المصالح المختصة خائفة من عدم موافقتها على بعض التغييرات التي تهم التصميم ومواد البناء)، علما أن هناك عدة مدارس ومباني مصنفة في عداد التراث الوطني بظهائر شريفة، ومعلوم أن المشرع المغربي يمنع أي تدخل في عقار مرتب أو مقيد دون موافقة السلطة الحكومية المكلفة بالثقافة (قانون 22-80).
وزارة الثقافة
ثمة ما يشبه الإجماع أن وزارة الثقافة لا تعير أي اهتمام لما يجري من: كوارث أثرية بفاس ويستدلون على ذلك بأنها هي المسؤولة وفق القانون عن المراقبة والإشراف والتأطير (قانون 22-80) مفسرين الأمر بالتأكيد أن وزيارة الثقافة تتعاطى بنوع من اللامبالاة مع المصالح المختصة بفاس، وهي مبالاة تتمثل أساسا في النقص الكبير الملاحظ على مستوى ضعف الموارد البشرية واللوجيستيكية بالنسبة لمفتشية المباني التاريخية، مما يجعلها عاجزة عن مواكبة هذه المشاريع بأكملها. إن هذه المؤسسة العتيقة التي ظهرت للوجود منذ تسعين عاما عندما كان يطلق عليها مصلحة الفنون الجميلة والتي كانت هي الآمر الناهي والمتدخل صاحب الكلمة الفاصلة في التدخل في النسيج العتيق، صارت اليوم لا تتوفر إلا على تقني واحد في البناء التقليدي ولا تتوصل بكل ملفات المشاريع التي تهم المجال العتيق.
لا يختلف اثنان في أن أرض فاس تختزن أسرارا أثرية ستحمل بالنسبة لعلماء الآثار الأركيولوجيين أجوبة حاسمة تهم تاريخ المغرب في العصور الوسطى والحديثة والمعاصرة. إلا أن الأثريين يقولون إن هناك شيئا ما يشبه المؤامرة تحاك في الخفاء، تحاول خنق خروج هذه الإجابات إلى العلن، وإن كانت بعض الحفريات قد أفضت إلى نتائج أبهرت الفرقاء (حفريات الإنقاذ بالمدرسة المصباحية في صيف 2014 وحفريات الإنقاذ بمسجد القرويين في 2006) . رغم أن الحفريات الأركيولوجية قادرة على حسم الكثير من الإشكاليات التاريخية، فإن وزارة الثقافة تمتنع حتى عن إصدار بيان للرأي العام تخبره فيه بوجود حفريات وبأخبار أولى عن نتائجها. ولا تفرض الوزارة الوصية على القطاع على الفرقاء مواكبة حفائرهم الخاصة بالتحقق من صلابة الأرضيات (حفائر المختبر) بأركيولوجيين فتتم الحفائر وتختلط الطبقات التاريخية وتفوت الفرصة على الأثريين في الحصول على الوثائق الأثرية التي يمكنها كتابة تاريخ البلاد. فهل يتعلق الأمر بمؤامرة تهدف إلى منع كتابة تاريخ فاس؟ وقد تبين جليا هذا الجانب في فندق الصاغة ومدرسة السبعيين وغيرها. وفي هذا الصدد نسجل مدى تكتم الأركيولوجيين ورفضهم الإدلاء بأية معطيات في هذا الباب، حيث إنهم نصحوا بالاتصال بالمصالح المركزية لوزارة الثقافة.
بالموازاة مع مشروع المباني السبعة والعشرين التي تخضع للاتفاقية التي ترأسها الملك، يلاحظ زائر فاس وجود ورش كبير جدا على ضفاف وادي الجواهر والذي يقضي بتهيئة جنبات الوادي، لكن كمية الإسمنت المسلح والمواد الحديثة تخدش بصر الزائر وتضعه في إطار تاريخي لا علاقة له بالعاصمة الروحية والعلمية للمملكة المغربية. وتجعله كذلك يلاحظ بشكل تلقائي التناقض الصارخ بين مشهدين: مشهد البنايات التاريخية المطلة على الوادي ومشهد الممرات الحديثة أسفلها.
لن تخطئ أي عين وجود مشروع ضخم جدا كذلك يتعلق بهدم وإعادة بناء حي بأكمله بما يتوفر عليه من فنادق وحمامات ودور عتيقة. ويتعلق الأمر بحي «بين المدن» الذي يعود للعهد الإدريسي أي النواة الأولى لفاس وهو الحي الذي كان يربط وما زال بين عدوة الأندلس وعدوة القرويين باستعمال مواد بناء حديثة، في حين لا يُعلم شيء عن مسألة تدبير بنايات الحي كمقاهي وأروقة العروض وفنادق…، ويعتقد مختصون في التعمير ان المشروع قد يفرغ فاس من روعة محتواها التراثي ومن شأنه أن يدفع لجنة التراث العالمي التي تجتمع سنويا بباريس إلى إسقاط العاصمة الروحية للمملكة من لائحة التراث العالمي، بناء على تقارير الخبراء السلبية التي أنجزوها مؤخرا بعد معاينتهم لما يحدث. وتجدر الإشارة إلى أن موقع فاس العتيقة قد تلقى إنذارين اثنين، أولهما سنة 1996 بمناسبة إنشاء منفذ عين أزليتن على مستوى السور الشمالي لفاس البالي، وتهيئة موقف كبير للسيارات به، وثانيهما سنة 2010 بعد إقدام المجلس البلدي للمدينة على إحداث ثلاثة أبواب ضخمة على مشارف فاس البالي، تميزت بانعدام اندماجها في المحيط التاريخي إذ أنها لا تعوض أية أبواب تاريخية مندرسة بل جاءت لتغليط للحقائق التاريخية، فالباب في المدينة العربية الإسلامية ذو مدخل منعرج، وليست ذات مدخل مباشر، ناهيك عن الأخطاء في التفاصيل المعمارية للأقواس والزخارف.
باب «شباط» الذي جر على المغرب غضب اليونسكو
عند مدخل المدينة العتيقة هناك باب يبدو شاذا جدا عن المعمار القديم الذي يسود في كل أرجائها: باب كبير تشبه طريقة بنائه طريقة بناء عمارة معدة للسكن. يسميه الفاسيون بغير قليل من السخرية «الباب الشباطية» لأنه شيد من طرف المجلس البلدي الذي يقوده الأمين العام لحزب الاستقلال. باب كبير تخترقه ثلاثة أبواب صغيرة بدأت تتشقق. الأركيولوجيون يصفونه بوصمة العار التي «طمست معالم المدينة القديمة بفاس» وأدت في الأخير إلى إفراز بنيان شاذ لا يمت للحضارة ولا للأركيولوجيا بصلة.
الباب تم تشييده داخل منطقة محرمة البناء، وإن كان الباب في الحضارة الإسلامية ذا معنى وروح ومدخل مرفقي، فهذه الأبواب لا تمت لروح المدينة بصلة، ومدخلها المباشر «يصرخ بعدم معرفة المصمم وجهله بتاريخ المدينة وتراثها وأبوابها. أما الأقواس، فقد تعدت شكل العقود مكتملة الأحزمة المكسرة لتصير أشبه بالعقود الأوجيفية بالكنائس الأوروبية، ولا علاقة لعمارتها بعمارة المغرب الأقصى، اللهم إلا سطحية الجهلة بتاريخ الفنون ممن يعتقدون أن الفن الإسلامي هو توريق وتنميق.
اليونسكو وجهت انتقادات حادة إلى المغرب وإلى سلطاته بسبب ما أسمته مخالفة اتفاقياتها الدولية حول جعل مدينة فاس تراثا إنسانيا وحذرت السلطات من تكرار الأمر. غضب اليونسكو يعني شيئا واحدا هو قدرتها على سحب»صفة التراث الإنساني» من فاس في أي لحظة.
باب المكينة .. مهرجان «عابر» يقوض تاريخ مدينة
باب المكينة: لم يكن مسطرا في لائحة ترميم 27 بناية المقترحة في الاتفاقية. لكن قرار سلطات فاس أقحم مشروع ترميم أسوار مشور المكينة في الاتفاقية وطلب من وكالة التنمية وإنقاذ فاس الشروع في الإنجاز بصفة استعجالية في مدة لا تتعدى ستة أشهر، فكانت أول صفقة تفوت في لائحة المباني السبعة والعشرين لكي يحتضن الفضاء فعاليات المهرجان في موسمه العادي والمشروع قد انتهى فعليا سنة 2014. ما لا يفهمه الأركيولوجيون أنه بالرغم من أن الباب يكتسي أهمية تاريخية وأثرية كبيرة بل إن هناك من يعتبره «جوهرة أثرية». بالنسبة لهم فإن المهرجان قد يتوقف يوما وستبقى المعلمة الأثرية مشوهة المعالم التاريخية للمدينة.
أدركت مفتشية المباني التاريخية بالمدينة أن إحداث منافذ الإغاثة استعدادا لاستضافة مهرجان الموسيقى الروحية سيفضي إلى كارثة أثرية حقيقية ولذلك رفضوا التأشير على القرار، فبعثوا بتقرير مفصل إلى محمد الأمين الصبيحي، وزير الثقافة مطالبين فيها بإيقاف أشغال البناء «التي لا تحترم المعايير الأثرية ولا تاريخ مدينة فاس». رغم القرار الذي اتخذته المفتشية الأثرية بالاحتجاج على قرار فتح أبواب داخل باب الماكينة، فإن المسؤولين لم يعيروا أي اهتمام لهذا القرار. ماذا يعني أن تتحدى السلطات تقارير أعدها مختصون وأركيولوجيون يقولون فيها إن ما يحدث لا يمت لا للقانون بصلة ولا للتاريخ بصلة أيضا.
في التفاصيل، ركز المشروع (ومهندسه المعماري هو رئيس هيئة المهندسين المعماريين بفاس) على ترميم أسوار المشور وصيانة باب الدكاكن (خلفية منصة المهرجان) وإنشاء ثلاثة منافذ للإغاثة ومرافق صحية ومرآب للسيارات ملاصقة للسور الشرقي للمشور من الناحية الخلفية. إلا أن هذه البنيات الجديدة لم تحظ بموافقة مصالح وزارة الثقافة بجهة فاس بولمان، نظرا لكونها تتنافى مع الظهير الخاص بترتيب باب الدكاكن والأسوار الملاصقة له (ظهير بتاريخ 31 غشت 1914) (ج . ر، رقم 98 في 14 شتنبر 1914) باعتبارها تراثا وطنيا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.