في خطاب العرش لهاته السنة، كانت الدعوة قد وقفت عند «الانفتاح على محيطنا الجهوي، وخاصة جوارنا المباشر، في علاقتنا بالشعب الجزائري الشقيق». ونجد أن المخاطَب كان هو الشعب أكثر من غيره مما سبق من تحديد المخاطَب في شخص الرئيس. ثانيا، أن الدعوة تكررت من أجل « حوار حول القضايا العالقة «. ثالثا، التمسك بالمغرب الكبير القائم على مرتكزين هما المغرب والجزائر. وهذه الدعوة، كسابقاتها، أعقبها، من بعدُ، تعداد لمكاسب المغرب الجديدة في قضية الصحراء المغربية، التي كانت بمثابة تقديم لدعوة «إيجاد حل توافقي، لا غالب فيه ولا مغلوب، يحفظ ماء وجه جميع الأطراف». «القضايا العالقة»…. لا يمكن أن نفصل، في الخطاب الملكي، بين المغرب الكبير وبين القضايا العالقة ولا سيما منها الحدود، وأيا كان الحاكمون، فإن الجزائر تعتبر في عمق إيديولوجيتها كل مطالب ترابية للمغرب »توسعا«، ولا يمكن أن تقبل إلا أن يكف المغرب عن مطالبه الترابية بما فيها الصحراء. وهنا لا يمكن توفر تعامل إيجابي إلا إذا تحررت هي نفسها من سياسة الجزائر الفرنسية، كما يقول عبد الله العروي، لا يمكن أن تكون للجزائر سياسة مغايرة لما هي عليه، سياسة الجزائر المستقلة هي سياسة الجزائر الفرنسية«. وإذا كانت الرباط ستطالب غدا بمليلية وسبتة فإن الجزائر، ولا شك، ستقف مع إسبانيا. والمحاولة الرديئة في إشعال الفكرة الانفصالية في الريف، مقدمة لاصطفافها المفترض مع مدريد لو وضعت قضية سبتة ومليلية على طاولة التفاوض الدولي من أجل الحرية… وفي سياق آخر، كانت الجزائر تعتبر بأن الحدود الشرقية معيار حاسم في التعامل مع المغرب، ولسنا في حاجة إلى العودة إلى ما سبق، ولكن لا نستبعد بأن سياسة اليد الممدودة والموقف من ترسيم الحدود لهما علاقة وطيدة، ويرتبطان ارتباطا خلقيا. ويقول العروي، في ما يخص اليد الممدودة، »ليس من المعقول الاعتقاد بأن تحسن العلاقات المغربية الجزائرية ممكن، وأن ذلك مرتبط بفعل شخص واحد، حتى ولو كان على رأس الدولة«. فهو يعتقد بأن الموقف المعادي والتصعيدي جزء من هوية الكيان المجاور لنا شرقا. هذا الموقف ثابت ولا غبار عليه ومفكر فيه، وعليه يجزم العروي بالقول «إن سياسة اليد الممدودة من طرف المغرب لن تغير من الفكر شيئا». ومن هذه الزاوية يمكن فهم إغلاق الحدود الذي تصر عليه الجزائر. علاوة على كونه يندرج في ما تعتبره استراتيجية محاصرة المغرب، وتعميق شعوره بالعزلة ( جزيرة )، فهذا القرار المتعلق بإغلاق الحدود يحمل في طياته عمق التفكير الجغرافي للدولة الجارة: 1 إغلاق الحدود، هو عمل ليس معزولا ولا مناسباتيا، كما قد نعتقد، بل هو عمل مفكر فيه. 2 القصد منه هو إجبار المغرب على ترسيم الحدود. 3 إغلاق الحدود معناه حمايتها عسكريا، وفرضها بالقوة! فما لم يحصل عليه نظام العسكر برسم الحدود، يفرضه أمرا واقعا بالجنود! ولا يمكن أن نفهم الإصرار على غلق الحدود إذا لم نفهم الإصرار على إفشال المغرب الكبير، والعكس بالعكس، أي يمكن أن نفسر مناورات الجزائر في إفشال الكيان المغاربي، أو بحثها عن بدائل مقزَّمة أخرى، بهذا الهوس بترسيم الحدود والبحث عن تنازل المغرب عن مطالبه الترابية. ومن ذلك أن الجزائر ترى أن: المغرب العربي لا يمكن أن يكون سابقا لترسيم الحدود. ومن ذلك أن الحاكمين في الجزائر اليوم، يرون المغرب الكبير مرحلة بعدية تأتي حين تحصل الجزائر على ما تريد من المغرب ترابيا، كما حصل مع تونس ومع ليبيا وغيرها من دول الحدود. ولعلنا نقتسم مع تونسي كبير اسمه لحبيب بورقيبة هذا التقدير، باعتباره كان قد انتبه إلى أن الجزائر لا تريد مغربا كبيرا… بل جزائر كبرى! المغرب لابد له من ترسيم الحدود لسنة 1972 والتخلي عن أية مطالب ترابية . لعل هذا ما يفسر الردود المحمومة والعصبية كلما تحدث مسؤول من مسؤولي المغرب، ولو في جوانب الذاكرة والتاريخ والتوثيق والمخطوطات، ومن ذلك الردود المنفعلة على تصريحات مديرة الخزانة الملكية بهيجة سيمو، وكانت آخر فصول ذلك، هو ما حدث بعد محاضرتها في الرباط، لما أكدت أن المغرب »يتوفر على وثائق تؤكد أنه لم يتوان قط في الدفاع عن حدوده الشرقية التي امتلكها منذ القرن 17 إلى غاية وصول الاستعمار الفرنسي في 1912«، وأضافت كذلك بأنه »منذ حصول المغرب على الاستقلال عام 1956، وفي أبريل من نفس العام وعام 1957، حاولت فرنسا الدخول في مباحثات مع المغرب لحل مشكلة حدود الصحراء الشرقية، عبر سفير باريس آنذاك في الرباط، ألكسندر بارودي، الذي أصر على لقاء الحكومة المغربية، واقترح عليها حلاً للمشكلة، ومن بين القضايا التي يتعين حلها منطقة تندوف». وحسب مديرة الوثائق الملكية، فإن فرنسا كانت تنوي إعادة تندوف إلى المملكة المغربية، غير أن العاهل الراحل محمد الخامس رفض هذا الاقتراح من منطلق أن القرار سيكون بمثابة طعنة في ظهر المقاتلين الجزائريين، ومن ثم فضّل ملك المغرب انتظار استقلال الجزائر لحل مشكلة الحدود هذه مع الأشقاء الجزائريين». أضافت مديرة الوثائق الملكية. وإذا أضفنا الوثائق التي وعدت فرنسا بالكشف عنها ثم بعدها إسبانيا، يزداد ثقل الذاكرة على هوامش الفعل بالنسبة للجوار.. ما يمكن التأكيد عليه هنا: أن الملك أرسل رسالة طمأنة للحكام الجزائريين عبر الحديث مع الشعب بأنه متشبث بالمغرب الكبير، عكس ما سبق للرئيس تبون أن أعرب عنه من كون المغرب «اختار آخرين في إفريقيا وفي الشرق الأوسط»، في إشارة إلى غرب إفريقيا وسيداو ودول التعاون الخليجي.ليبرر محاولات إنشاء مغرب مقزم بدولة ونصف (تونس ونصف ليبيا). والملك طمأن بأن المغرب الكبير في قلبه الجزائر والمغرب، وليس طرفا واحدا، وأن للجزائر دورا في السياسة العالمية بالرغم من كونها دفعت بنفسها إلى عكس ما تعلنه! «كل شي قابل للنقاش» هي أيضا عبارة للتأمين، موجهة لكي تقول بأن للجزائر دورا في الترتيبات الإقليمية بالرغم من أنها عزلت نفسها عن جوارها الأورومتوسطي والمغاربي وفي الساحل الإفريقي. وعلى علاقة معاكسة مع القرار الدولي في قضية الصحراء، لا سيما وأن الدول التي سعت لأن تفرمل المغرب لكي تجد للجزائر دورا، قد تماهت مع استراتيجية المغرب، ومع مقترحه. الملك أرسل أيضا رسالة، من خلال مغرب كبير «يذوِّب« قضية الحدود، «وترك قضية الصحراء عالقة»، وفي عمق الموقف حكمة مغربية مفادها : كاع للي معلقة …كاتطيح»! وكانت أكبر طمأنة هي الدفاع عن شعار:« لا غالب ولا مغلوب»، على أساس أن الفرصة مواتية بالرغم من أن موازين القوة في صالح المغرب: لقد تغير المناخ الدولي ولم تعد المرافعات الأيديولوجية، حتى في اللجنة الرابعة أو في عمق القارة، تنفع. لقد تغيرت موازين القوة، من خلال القوة الاقتصادية للمغرب، التي تجاوزت القوة الجزائرية بالرغم من الفرق في الموارد الطبيعية، وهو تحول عميق لا يمكن أن تغفله العقول السليمة لاسيما وأن الخطاب ركز عليه الأضواء. الموقف الحالي أيضا دعوة لقراءة التحولات في التوازن داخل الهيئات الدولية لصناعة الشرعية الدولية.. لا غالب ولا مغلوب، أي حتى لا تنتصر البلادة والتطرف.. لا غالب ولا مغلوب، أي لا يكون ضحايا، في الشعوب وفي الأرواح وفي البلدان… لا غالب ولا مغلوب، أي لا يعود المغلوب، مرة أخرى، إلى التفكير في الانتقام أو الكره مرة أخرى… لا غالب ولا مغلوب هو تأمين المستقبل، لا يشعر أي واحد بالإهانة، من خلال حفظ ماء الوجه… الشعب الذي يتعرض للهزيمة، يشعر دوما بأنه تمت خيانته… لا غالب ولا مغلوب، لا يكون أي طرف مجبرا على الاعتراف بالهزيمة