حينما اعتقد الجميع أن صفحة جيش التحرير المغربي، بكل تناقضاتها، قد طويت إلى الأبد، ظهر رجل اسمه زكي مبارك، قادته الصدف إلى أن يضع يده على أخطر وثائق جيش التحرير حساسية. في سيرة زكي مبارك الكثير من الأحداث والشخوص. يقول إنه كان دائما يشتغل بجبة الأكاديمي، لكن خصومه من أحزاب الحركة الوطنية كانوا يعتبرونه «مؤرخا للمخزن». على كرسي «الاعتراف» يحكي مبارك قصة صراعه العنيف مع حزب الاستقلال، ويتذكر كيف خاطبه علال الفاسي يوما بلغة حازمة: إذا لم تبتعد عن هذا الموضوع -يقصد جيش التحرير- «تلقا راسك مليوح فشي بلاصة». على مدار حلقات طويلة يسرد زكي مبارك أحداثا عاشها مع المحجوبي أحرضان، علال الفاسي وإدريس البصري، ويشرح، بإسهاب شديد، كيف أصبح صديقا لعبد الله الصنهاجي، علبة أسرار عباس المساعدي، وكيف أخفى لمدة طويلة وثائق حساسة حول «ميليشيات حزب الاستقلال» والصراع العنيف بين محمد الخامس وأحزاب الحركة الوطنية.. – بعيدا عن الظروف الاقتصادية للأساتذة الجزائريين، ألم تثر يوما موضوع تعثر العلاقات السياسية المغربية الجزائرية مع أصدقائك؟ قلت لك إن كلامهم كان دائما موسوما بطابع دبلوماسي، وكانوا يتحاشون الحديث عن العلاقات السياسية المغربية الجزائرية، أولا لأنهم يخشون من ردود فعل النظام الجزائري، ثم إن جزءا منهم ولد بالمغرب. كنت أفهم التناقض الذي يحسون به، إذ لا يمكن أن تهاجم بلدا ولدت فيه ويعتبر وطنك الأم، شئت ذلك أم أبيت. الأساتذة الجامعيون كانوا يقولون لي دائما: إننا نحب المغرب ونريد أن تفتح الحدود، لكن لا يمكن أن نفصح عن هذا الأمر، لأنهم كانوا يخشون أن يعاقبوا من طرف النظام الجزائري. العقدة الوحيدة لدى المسؤولين السياسيين الجزائرين ومعهم مؤرخو السلطة هي المساعدات العسكرية التي قدمها المغرب للجزائر أثناء صراعه مع الاستعمار الفرنسي، إذ كلما تحدثوا عن العلاقات بين البلدين يقفزون على الموضوع، بل لا يتحدثون عنه. لقد لاحظت ذلك في لغة السياسيين الجزائريين وفي كتاباتهم أيضا. – داخل الجامعة أصبحت عضوا في تعاضدية الطلبة، التي كان يسيطر عليها اليساريون، هل اقتنعت أخيرا بالمشروع اليساري؟ لقد انخرطت في «لاميج» وبدأت أحضر ندواتها وأنشطتها، لكن لم يقنعني يوما المشروع السياسي والهوياتي لليسار لأنه لم يكن يتناسب مع تربيتي المحافظة، بمعنى لم أكن تقدميا بالطريقة التي يريدها اليساريون، ولم أكن محافظا جدا أيضا، على هذا الأساس لم أنتم يوما إلى هذا المشروع، رغم أني انخرطت في أنشطته، وكنت متعاطفا معه لمدة طويلة. وأتذكر أن شخصيات سياسية كبيرة كانت تؤطرنا داخل الجامعة، لاسيما حينما كنت عضوا بلاميج. – كيف كان هذا التأطير؟ غالبية الذين حضرت لهم كانوا ضد مشروع حزب الاستقلال، وكانوا يعارضونه بشكل غريب، بل إن الطريقة التي كانوا يتحدثون بها تشي بأنهم مستعدون للذهاب إلى أبعد مدى في هذا الصراع.. – ماذا تقصد بالذهاب إلى أبعد مدى؟ أقصد بالتحديد المواجهة بالسلاح لو اقتضى الأمر. لقد أحس أعضاء الاتحاد الوطني بأنهم مستهدفون من طرف حزب الاستقلال ويفعلون كل شيء من أجل محاصرتهم، بما في ذلك تهديد مناضليهم وابتزازهم. في ذلك الوقت كان الصراع بين الطرفين قد وصل إلى أشده، وكانت القيادات اليسارية التي تؤطرنا داخل الجامعة، سواء في التعاضدية أو داخل»لاميج»، يقولون لنا إن حزب الاستقلال حزب مسعور وقادر على فعل أي شيء من أجل أن يستفرد بالسلطة وبالمشهد الحزبي بالمغرب. – هل تتذكر الشخصيات السياسية التي كانت تقول مثل هذا الكلام؟ لا أتذكر بالتحديد، لكن كل كلامهم كان متمحورا حول هذا الصراع المرير. لن أنسى كيف أن هذه الشخصيات كانت تحذرنا من الاصطدام مع حزب الاستقلال خشية أن يتحول الصراع بيننا إلى صراع دموري لأن كل شيء وقتئذ كان مفتوحا على مصراعيه. لم يتقبل حزب الاستقلال فكرة أن يستقل عنه أبرز قيادييه وأشهرهم على الإطلاق، ومن الطبيعي جدا حسب أحد الذين كانوا يحضرون لتأطيرنا أن يصابوا بالسعار. أنا شخصيا شهدت فصولا من هذا الصراع، إذ كان الاشتراكيون مسالمين جدا، فيما كان الاستقلاليون يلجؤون إلى العنف كلما أحسوا بأن أحد مواقعهم صارت مهددة. لقد استخدموا العنف داخل الجامعة وخارجها وهددوا المناضلين الذين غيروا اتجاههم السياسي، ولاحقوا الذين عارضوهم. – هل أعطيت لكم أي تعليمات للدخول في مواجهة حزب الاستقلال؟ لا، كانت التعليمات تتمحور حول التحلي بالهدوء والحذر في هذه المواجهة لأنها لم تكن متكافئة على كل حال، وحزب الاستقلال كان ممسكا بتلابيب السلطة ويعرف متى يوظفها. إذن كان الهدف هو استقطاب أكبر عدد من المناضلين بالحوار وإقناعهم بالأفكار الجديدة التي يؤمن بها الاتحاديون والأسباب التي جعلتهم يغادرون سفينة حزب الاستقلال. أتذكر أن حزب الاستقلال بدأ يشعر بالقلق لأن المئات من مناضليه شرعوا في الانضمام إلى الحزب الجديد دونما مجهود كبير، وقد أحست القيادات الاستقلالية بهذا النزيف، بيد أنها لم تغير الخطة رغم أن النزيف كان كبيرا جدا.