حينما اعتقد الجميع أن صفحة جيش التحرير المغربي، بكل تناقضاتها، قد طويت إلى الأبد، ظهر رجل اسمه زكي مبارك، قادته الصدف إلى أن يضع يده على أخطر وثائق جيش التحرير حساسية. في سيرة زكي مبارك الكثير من الأحداث والشخوص. يقول إنه كان دائما يشتغل بجبة الأكاديمي، لكن خصومه من أحزاب الحركة الوطنية كانوا يعتبرونه «مؤرخا للمخزن». على كرسي «الاعتراف» يحكي مبارك قصة صراعه العنيف مع حزب الاستقلال، ويتذكر كيف خاطبه علال الفاسي يوما بلغة حازمة: إذا لم تبتعد عن هذا الموضوع -يقصد جيش التحرير- «تلقا راسك مليوح فشي بلاصة». على مدار حلقات طويلة يسرد زكي مبارك أحداثا عاشها مع المحجوبي أحرضان، علال الفاسي وإدريس البصري، ويشرح، بإسهاب شديد، كيف أصبح صديقا لعبد الله الصنهاجي، علبة أسرار عباس المساعدي، وكيف أخفى لمدة طويلة وثائق حساسة حول «ميليشيات حزب الاستقلال» والصراع العنيف بين محمد الخامس وأحزاب الحركة الوطنية.. – بعدما أخبرت والدتك بالطريقة القاسية التي كان يعاملك بها خالك باحماد، هل اقترحت عليك أن تعود إلى المنزل؟ والدتي كانت مصدومة جدا، إذ لم تتوقع ولو لحظة واحدة أن يتعامل معي أخوها بتلك القسوة. وجدتني مضطرا أن أحكي لها كل تفاصيل التعذيب والقسوة والضغط الرهيب الذي مورس علي في الفترة الماضية، وكلما تقدمت في السرد أرى دموع والدتي تتساقط. لم تشأ أن تدخل في صراع مع أخيها، وحثتني على الصبر في انتظار العطلة الصيفية. لقد وصل بي الألم إلى درجة أني قلت لخالي إنني أفضل أن أعود إلى «براكتنا» على العيش في هذا الجحيم الذي لا يطاق، لكن الصدف أرادت أن تقف في صفي لتنقذني من خالي وتذهب بي إلى عائلة فرنسية بحتة اعتنت بي، رغم أن زوجة «موسيو لومور» لم تكن راضية عن وجودي بمنزلها، ولولا أني كنت أقوم ببعض الأشغال المنزلية لطلبت منه أن يطردني خارج المنزل. لومور كان رجلا مثقفا، ينتمي إلى الحركة التحررية الفرنسية التي ساندت الشعوب المستعمرة الراغبة في الانعتاق، وكانت له مواقف مناوئة لفرنسا، ولذلك نال منصبا رفيعا في وزارة التعليم بالمغرب بعد حصوله على الاستقلال سنة 1956. حينما التحقت بمنزل لومور حدث موقف طريف مع الخال باحماد، حيث ذكرت سيرة أبي الحقيقي قبل أن يتدخل ليقول له إنني تربيت عنده في مدينة الدارالبيضاء وعلى هذا الأساس أناديه بأبي. كان بارعا جدا في نسج الحكايات من أجل إخفاء كذبته. – كيف دبرت مشكلة عدم إتقانك اللغة الفرنسية مع عائلة «موسيو لومور»؟ فعلا لم أكن أتقن الفرنسية، وكل ما كنت أفهمه هو كلمة «باحماد»، بيد أن خادمة يهودية طيبة كانت تشتغل مع السيد لومور كانت تتكلف بترجمة ما يقوله هو وزوجته لي، إذ كانت تتقن الحديث بالفرنسية وبالدارجة المغربية. – هل كان لومور يلتقي بشخصيات من الحركة الوطنية؟ كانت له علاقات بالوطنين المغاربة وشخصيات سياسية كثيرة وأساتذة جامعيين يتبادل معهم وجهات النظر حول بناء المغرب الحديث وعلاقة فرنسا به. كان رجلا يؤمن بالحرية وبالتحرر، وأكن له الكثير من التقدير. – من هي تلك الشخصيات التي كانت تزوره؟ لم أكن أعرفها، لكن يقينا كان يلتقي بعلال الفاسي وببعض الشخصيات الأخرى. في المرحلة الثانوية عرفت لأول مرة أن خالي باحماد يشتغل حارسا ومشذب حدائق في ثانوية مولاي يوسف، ورغم ذلك فقد كان يحظى باحترام كبير جدا في صفوف الأساتذة والمسؤولين الإداريين، فقد كانوا يسألونني دائما عن أحواله، وكانوا يعاملونه بلطف كبير. في الثانوية أيضا اكتشفت مقدار الفخر الذي كان يحس بها أبناء «التواركة» العاملين داخل القصر، إذ لا يكفون عن تذكيرنا يوميا أن آباءهم يوجدون داخل القصر الملكي. الشيء الوحيد الذي كان يزعجني وقتئذ هو بعض الكلمات القاسية التي كانت توجهها إلي زوجة لومور لسبب تافه، إذ كان ابنها يعاني من آلام حادة في رجله، فيما كنت أنا ذا بنية جسمانية قوية. للحقيقة، فابن لومور كان طيبا جدا وبنيت معه علاقة جيدة، وكان يساعدني كثيرا في حل التمارين الرياضية، ولم يكن يتوانى في مساعدتي في الدراسة، ولم أشعر يوما أنه ينتقص مني أو أي شيء يشابه هذا الأمر. على العكس من ذلك، كنا نتبادل أطراف الحديث بين الفينة والأخرى. أنا أيضا بدأت أفهم أن زوجة لومور لن تتخلى عني يوما لأنها كانت تضمن قيامي بأشغال تشذيب الحديقة وتنظيف خم الدجاج وبعض أعمال السخرة. كانت تلك الأعمال بمثابة رشوة لعقد الهدنة مع هذه المرأة التي لم تكن تطيقني، وقد بدا ذلك في الكثير من تصرفاتها. – قلت إن لومور أسهم بشكل كبير في توجهك نحو دراسة التاريخ، هل كان ذلك بسبب ميولاته أم أنه اكتشف فيك شغفا بالدرس التاريخي؟ «موسيو لومور» كان رجلا متخصصا في التاريخ ولديه شغف كبير به، وكان يقول لي إنه يرى في مشروع مؤرخ جيد.