شد انتباهي وأنا أحل «ضيفة» على الدائرة الأمنية للحي الصناعي القريب من الغابة الخضراء بالبيضاء، مشهد سيدتين تتبادلان التهم بخصوص طفليهما الصغيرين.كنت أقف بمحاذاة السيدتين، أنتظر ما استجد بشأن اللص الذي سرق هاتفي الخاص بالعمل، لكن «نكيرهما» كان له نعمة علي، إذ أنساني وطأة الانتظار. اكتشفت وأنا أستمع إلى السيدتين أن قدومهما إلى الدائرة الأمنية كان بغرض تسجيل شكاية ضد بعضهما البعض، والسبب، حسب ما فهمته من نقيرهما، رغم تنبيه رئيس الدائرة لهما بالتزام الصمت، أن الأمر يتعلق باعتداء إحداهما على طفل الأخرى بعد نشوب عراك بين صغيريهما في الحي. إذ كانت أم المعتدى عليه تصرخ في وجه الأخرى: «غادي نربيك باش تعرفيني أشنو تنسوى». عبارة «غادي نربيك»، التي كانت ترددها تلك المرأة باستعلاء مقابل توسلات المرأة الأخرى، أثارت انتباهي. كان الفرق واضحا بين السيدتين على المستوى المادي. إذ كانت المرأة المتوسلة ترتدي جلبابا ممزقا، وزوجها الذي كان برفقتها ملابسه رثة، وطفلهما الذي برفقتهما، الذي لا أعرف إن كان هو سبب الخصام، كان حافي القدمين. فيما كانت المرأة الأخرى حسنة الهندام، وترتدي جلبابا أسود صوفيا، وشعرها مسرّح بعناية. وكانت تبدو واثقة بأنها «غادي تربي» فعلا خصمها. سألت نفسي لحظة كيف يمكن أن يدفع عراك بسيط وبريء بين طفلين أمّين مثل هاتين إلى أن تنسيا همومهما وضغوطات المشاكل اليومية والعائلية وتقصدا «الكوميسارية»، وتتعرضا للتأنيب من قبل رئيسها؟ أنا شخصيا لا أتردد على مراكز الأمن إلا للضرورة القصوى، وأتحاشى ما أمكن أن تطأ قدمي أرضها. إذ منذ صغري كانت جدتي، يرحمها الله، تردد على مسامعي بأن «المخزن نار». لذلك كنت أحاول ما أمكن أن أتجنب هذه النار، ولولا تلك السرقة ما وطئت قدماي تلك «الكوميسارية»، ولَمَا رأيت تينك السيدتين، اللتين ظللت أراقبهما، وأرغب في داخلي أن تتصالحا وتذهبا إلى حال سبيلهما بدل تلك الضجة التي كانتا تفتعلانها. لكن ذلك لم يحدث. الغريب في الأمر أن زوج المرأة المتوسلة، كان أشبه بالمغلوب على أمره. في لحظة سئمت من هذا المشهد المقرف وانزويت بعيدا في انتظار أن أعرف أي أخبار جديدة عن سارق هاتفي، ومع ذلك ظلت صورة المرأتين تطاردني دون تعب. طبعا هذا الشجار بين المرأتين ليس سوى نسخة بسيطة عما صار يحدث بين الجيران، خصوصا في الأحياء الشعبية، إذ بسبب شجارات الأطفال التي لا تنتهي أو أي مشاكل تافهة تقع معارك دموية بين الجيران، ويتدخل الأمن والقضاء لحلها. أذكر عندما كنت صغيرة كنا نعود من المدرسة الابتدائية عند الساعة العاشرة، فتستقبلنا الجارة بالابتسامة وتمدنا ب«فطور العاشرة» إلى حين قدوم أمهاتنا، وأحيانا نتناول الغداء عندها ونحن ننعم براحة نفسية وكأن البيت بيتنا. طبعا مثل هذه الأجواء غابت تماما عن الأحياء الشعبية وصار الجيران أشبه بالأعداء، والكل متربص بالكل. فكرت لحظة أن من سرق هاتفي ومن يمارس السرقة والنشل والعنف والاعتداء على المواطنين لا يمكن إلا أن يكون نتاج مثل هاته الأمهات، ونتاج الحقد والكراهية والعنف المتبادل. فنحن في الأخير «تنربيو البلطجية وتنقولو منين جاتنا…؟؟»