ليس منير شفيق مفكرا عاديا، اعتنق التنظير واعتكف في الصالونات الأدبية؛ إنه رجل جمع بين النظرية والممارسة، وجسد بقوة، عبر مساره الفكري والسياسي الطويل، مقولة «المثقف العضوي». ما يميز هذا المناضل الفلسطيني هو انتماؤه الدائم إلى ما يرى فيه أمل ومستقبل الأمة. جمع الرجل بين المسيحية مولدا ثم الإسلام مآلا، وبين الشيوعية منطلقا ثم القومية والحركية الإسلامية أفقا. عاش في فلسطين تحت الانتداب البريطاني، وفيها تشرب مبادئ الشيوعية قبل وبعد النكبة، ثم في لبنان حيث قدم إلى حركة فتح جزءا من مسيرته، وشكل داخلها صوتا متفردا من خلال «السرية الطلابية»، قبل أن يطور مشروعه الفكري ليفرز التصور الجهادي من خلال «سرايا القدس». على كرسي الاعتراف، يحكي منير شفيق جانبا من ذاكرته الخاصة، ويبسط شهادته على ما عاشه من أحداث بدءا بالنكبة وحرب 1948 مرورا بهزيمة 1967، ثم خروج حركة فتح من الأردن بعد أحداث أيلول الأسود؛ كما يقدم روايته حول نضال فتح من داخل الأراضي اللبنانية في سنوات السبعينيات، قبل الخروج الأخير إلى تونس. في هذه الأحداث وغيرها، تبرز شخصية منير شفيق المناضل العصي على التطويع والمهادنة المجانية كما تجسدت في رفضه لكل «مشاريع وخطط التسوية» مع إسرائيل. – توقفنا عند تحليلك لمسار الراحل ياسر عرفات وشخصيته القيادية، حيث وصفته بالقائد الميداني المحنك، وعند نقطة ضعفه في عدم استعداده للذهاب بعيدا إلى حد الاستشهاد متمسكا بمبادئه. لكن ماذا عن المرحلة التي سبقت اغتياله؟ في هذه المرحلة التي تلت مفاوضات كامب ديفيد 2، يئس عرفات من المفاوضات مع الكيان الصهيوني، وهنا اختار توجها استشهاديا وكان يعلم أن مصيره هو الاستشهاد، وهذه كانت من مزايا أبي عمار الذي لم يكن دائما بعيدا عن المواقف التاريخية الكبيرة. ولكن في الوقت نفسه، كان لديه تهالك على فكرة بناء الدولة وقيادتها. – لقد طرحت هذه الأسئلة عن أبي عمار، خصوصا في فترة حرب لبنان، لأنه تناقلت الأنباء في تلك المرحلة بعض الأخبار عن محاولة إسرائيل استهدافه بشكل مباشر، وأنه نجا عدة مرات من محاولات اغتياله. هل فعلا كانت إسرائيل عاجزة عن اغتيال «الختيار»؟ لا أظن أن إسرائيل كانت عاجزة عن اغتياله، فقد كان الرجل يتصرف في الغالب بشكل عادي ويتنقل من بيته إلى مكتبه والكيان الصهيوني كان يراقب كل هذا. ما يجب أن تعرفه في هذا السياق أن ياسر عرفات كان جزءا من القيادات المركزية لفتح، وهؤلاء كلهم كانوا يحظون بحماية دولية، فبمجرد أن أصبح ياسر عرفات رئيسا لمنظمة التحرير الفلسطينية، صار تحت حماية مصر والدول العربية، وفي اللعبة السياسية الدولية عند الأمريكيين أو غيرهم كان يعني هذا أن تتم معاملة عرفات كرئيس دولة وأنه خط أحمر. وهذا لا ينطبق على عرفات وحده، بل على كل الزعماء العرب، فالكيان الصهيوني كان بإمكانه أن يسقط أي طائرة تحمل رئيسا أو زعيما عربيا، لكن هذا لم يكن مسموحا به دوليا. وكان أبو عمار بدوره يراعي في عمليات المقاومة سقفا معينا في مواجهته للكيان الصهيوني. فعلى سبيل المثال، عندما أبطلت عملية عطاف عليان الاستشهادية التابعة لسرايا الجهاد وكانت تنوي تفجير مبنى رئاسة الوزراء الصهيونية في 1987، اعتبر ياسر عرفات أن هذه العملية لو كانت نفذت لقتل الصهاينة كل من يمكن أن يصلوا إليه من القيادات، وعلى رأسهم هو. وفي كل الصراعات يوجد هذا النوع من الاتفاقات على عدم استهداف بعض الشخصيات وعدم تصعيد الأمور إلى مستويات عليا. – ماذا عن الحماية العربية التي كان يحظى بها ياسر عرفات؟ طبعا كان ياسر عرفات محميا لفترات طويلة من القيادات العربية، ثم حظي في فترة أخرى بالحماية السوفياتية. ولهذا كان عرفات في كثير من المناسبات يستعرض في بيروت أمام القوات، وكان بإمكان الصهاينة حينها أن يصطادوه. وحتى الحرس الذين كانوا يحيطون به، فلم يكونوا حماية من إسرائيل بقدر ما كانوا حماية له من أي خصم آخر. وطبعا بعد الحماية العربية والسوفياتية، حظي عرفات كذلك بالحماية الأمريكية والأوربية، وهي الفترة التي أعقبت اتفاق أوسلو إلى سنة 2001. وبعد هذه السنة ومجيء جورج بوش الابن إلى البيت الأبيض، وشروعه في عسكرة الأوضاع في الشرق الأوسط، اتفق مع أرييل شارون رئيس الوزراء الإسرائيلي على اجتياح مناطق «أ» ، وكانت هذه العمليات تشمل المناطق التي يوجد فيها ياسر عرفات، وكانت أولى العمليات العسكرية في إطار مشروع الشرق الأوسط الجديد. – لكن متى قتل ياسر عرفات وما هو التحول الذي أدى إلى رفع الحماية التي تحدثت عنها وسمح للإسرائيليين باغتياله؟ في رأيي أن ياسر عرفات قتل عندما رفعت أمريكا وأوربا وحسني مبارك والدول العربية، وعلى رأسها السعودية، أيديهم عن حمايته. ولذلك فإن ياسر عرفات في آخر لقاء له بدار الرئاسة برام الله مع عمر سليمان، رئيس المخابرات المصرية، تلقى أمرا بضرورة القبول بأن يكون زعيما شرفيا ورمزيا للفلسطينيين ويسلم كل صلاحياته لرئيس الوزراء محمود عباس وأعطاه مهلة شهر وإلا فليواجه مصيره مع الصهاينة. وطبعا رفض ياسر عرفات أن يتحول إلى مجرد قائد رمزي وتنزع منه كل صلاحياته، لكنه أخطأ في نظري لأنه لم يخرج في مؤتمر صحفي علني بعد هذا اللقاء مع عمر سليمان ويعلن للعالم أنه قتل، ويكشف عن التهديد الذي تعرض له برفع الحماية عنه. لقد كان اغتياله وتسميمه بتواطؤ دولي وعربي.