«جمال الدبوز.. الحقيقة». كتاب يرصد حياة الكوميدي الذي انتصب منذ الرابعة والعشرين من عمره كواحد من أكبر مشاهير الكوميديا في فرنسا. ويعمد الكتاب إلى مقارنة ظروف نشأته وظروف نشأة الكثيرين من المغتربين الذين يعتمل السخط في نفوسهم لما يعانونه من تهميش متزايد داخل أحياء ومساكن شبه معزولة. ومن خلال شهادات وروايات أصدقاء جمال وأقاربه يقدم الكتاب فوتوغرافيا تحليلية لطفولة الكوميدي ومراهقته، ويتجاوز هذه الأرض إلى ما يتماهي مع التحليل النفسي الدقيق لشخصيته التي تلقت في إرهاصاتها الأولى صدمة مأساوية بعد أن اقتلع القطار سنة 1990 ذراعه الأيمن في ظروف أقل ما يقال عنها إنها عبثية. ويذهب إلى أن هذا الحدث قد يكون على بشاعته من العوامل الأساسية التي أيقظت فيه شعلة الإبداع، وحولت تلك الذات المكتوية برواسب الإعاقة الجسدية إلى ذوات متشابكة ومتصارعة فجرت تعقيداتها سيلا متدفقا من المشاهد العبثية. في أول لقاء لها مع جمال، قرأت نعيمة المشرقي في محياه بريقا مشعا من الذكاء ومن القدرة على التكيف بسهولة مع الأجواء الخارجية بغض النظر عن طبيعتها ومستوياتها وأعمارها. «كان طفلا يفيض ذكاء وحيوية، ضعيف البنية ولكنه قوي الحضور، يمارس جاذبية جنونية على وسطه. لقد أحسست في أول وهلة برغبة جامحة في احتضانه بين ذراعي وكأنه طفلي. وكانت دهشتي كبيرة حينما رأيته يتحرك على الخشبة بمهارة احترافية فائقة وبطريقة فريدة في الإلقاء مع تموّجات صوتية متناغمة مع روح النص. آنذاك آمنت بمقدراته، ولم تعد تراودني سوى فكرة واحدة، وهي مساعدته ثم مساعدته وكأنه خرج من رحمي. وكيف لا وقد قاسيت أنا ما قاسيته لأحقق مبتغاي»، تقول نعيمة بكثير من التحسر على إعاقته الجسدية. ومنذ ذلك الوقت، أصبحت حاضنته الأولى وأبرمت مع «بابي» عقدا أخلاقيا لتتبع مسيرة الطفل الموهوب إلى أن يحقق ما يرضاه ويبتغيه. ذات يوم من أيام صيف 1992، بعد عودته من كندا حيث فاز مع مجموعته المسرحية بالمرتبة الثالثة في اللقاء الدولي للمسرح الارتجالي بكندا، اتصل به أحد المغاربة النافذين في الأوساط الجمعوية الفرنسية، اسمه رشيد بنزين وهو من أصول قنيطرية، ليدعوه إلى رحلة مسرحية جماعية إلى المغرب، تم التنسيق لها بين جمعية «العمل الثقافي لضاحية طراب» ومؤسسة الحسن الثاني، بتعاون مع المجلس الجهوي للضاحية. وضع المجلس حافلة من خمسين مقعدا لنقل الفريق المكون من فنانين ومنشطين وتقنيين ومعهم لوازم العرض من ديكور وإكسسوارات. ومن سوء الطالع أن صادف الموكب إضرابات عامة في إسبانيا ألزمته انتظار يومين ليصل إلى المغرب بعد أربعة أيام. وهناك بدأت متاعب الإقامة بعد أن رفض الفريق المكوث في الحي الجامعي، ومتاعب التجهيزات الكهربائية غير المتلائمة مع تقنيات الإنارة والديكور. وكل هذه المشاكل هانت أمام مشكل جمال الذي يؤرق في كل مرة رفاقه. «أين مضى جمال؟ ننتظر جمال، هل من أحد يدلنا عليه؟». في تلك الأثناء كان جمال منشغلا في البحث عن معارفه وأقاربه الذين اعتاد رؤيتهم في عطلة الصيف، كما كان كثير التردد على منزل حاضنته الكوميدية نعيمة المشرقي التي قال إنها هبة من السماء. وبالرغم من مجيئه متأخرا في كل مرة عن موعد العرض فقد لقيت الرحلة نجاحا كبيرا توج باقتراح نعيمة أن يشاركها صغيرها دور البطولة في فيلم «صخور الصحراء السوداء» للمخرج نبيل عيوش. واشترطت أن يوضع اسم جمال على رأس الملصقة الرئيسية، لأن نظرات جمال وحدها كفيلة بإنجاح الفيلم، كما قالت. عاد جمال إلى فرنسا وهو لا يصدق أنه سيقتحم بالفعل عالم السينما إلى جانب واحدة من أبرز الوجوه الفنية المغربية. عاد ليزف البشرى لأصدقائه ولأسرته... أمه تنظر إليه بإعجاب وتحمد الله أن أنار له الطريق بعد سنوات من التمزق والانحراف، وأبوه حاد النظرات ساخط على ما أصاب ابنه من انزلاق خلقي: «كفاك حماقات المسرح بالضاحية، وخيرا فعلت لو ابتعدت عن مخدراتك الفنية هاته، وفهمت أن مهنة التجارة هي الأليق بك». وبينما انتهت سنته الأخيرة في الإعدادي بالرسوب بسبب التغيبات المتكررة أثناء رحلاته وانشغالاته المسرحية، نصح المجلس التوجيهي أبويه بأن يسجلاه في الثانوية المهنية (شعبة فنون البيع) التي لو تخرج منها سيجد نفسه في أحسن الحالات مسؤولا عن جناح للبيع بأحد المراكز التجارية الكبرى. التحق جمال بالثانوية ومعه 650 تلميذا من مختلف الانتماءات العرقية، وكان عليه في البداية أن يملأ مطبوعا من عشرة أسئلة أهمها: أمنيتك؟ أن أصبح ممثلا. محاسنك؟ الصراحة والطيبوبة. عيوبك؟ الخجل والثقة المفرطة في الآخرين. ترفيهك؟ المسرح والفتيات والرقص. مشاكلك؟ مرض الربو والإعاقة الجسدية. ولكي يسطر على الأسئلة بالمداد الأحمر يمسك جمال القلم بفمه تحت أعين المدرسة التي ثارت في وجهه غضبا وهي لا تدرك بأنه لا يمتلك حيلة لإخماد غضبها. وفي الثانوية يتألق من جديد في أدوار البائع والزبون، ساخرا من القدر البئيس الذي سيوقعه غدا بين أيدي الزبناء وما أكثر تعاليهم واستخفافهم بالباعة. بقي على ذلك الحال إلى أن توصل بدعوة من المخرج نبيل عيوش للشروع في تصوير مشاهد الفيلم. أبلغ الإدارة فكان رد رئيس المؤسسة، ألان ديهان، وزوجته لوس ديهان التي تدرسه مادة العلاقات العامة، أن يختار بين فنون هوليود وفنون البيع، فاختار «صخور الصحراء السوداء» ومعها التوقف بشكل نهائي عن الدراسة.